توظيف الأسطورة في الأدب العربي

توظيف الأسطورة في الأدب العربي*

هاجر منصور سراج

10 سبتمبر، 2024


توظيف الأسطورة في الأدب العربي

وقف الإنسان البدائيّ أمام ظواهر الطبيعة محتارًا، لا يجد قدرةً لمعرفة أسباب ما يضطرب من حوله، لكنه بشعورٍ فطريّ أدرك وجودَ شيءٍ أكبرَ منه، شيءٍ يتوجه إليه بالعبادة؛ فراح يبتكر آلهة وينسج أحداثًا بينها قد تفسر ما يحدث حوله على أنه انعكاس لصراعاتها الخاصة. وفي رحلته المتشبثة بالعيش، راح يسترضي الآلهة الغضبى؛ فأقام لها طقوسَ عبادة، وإذ تختفي المعتقدات مع الزمن، تبقى الطقوس سائدةٍ لكن لا يبقى منها سوى صيغتها الرمزية التي تشير إلى حدث معين، ومن حكاية صراع الآلهة بقي نص الأسطورة. (كاسيرر، 1975).

إن الاهتمام بالأسطورة اعترافٌ بتأثيرها الكبير في الإنسان، هذا الكائن الباحث عن المعنى والذي لم توجد الأسطورة إلا بسبب إعماله لفكره الذي تجلى في أسئلته الدَّائمة عن الكون والمصير والخلود. ولارتباط الأسطورة بجذر التفكير تعددتْ علاقاتها بالمجالات المعرفية، وقد حاول ليفي شتراوس وآخرون تحديدَ هذه العلاقات الواسعة في دراساتهم. فدرس شتراوس بعضًا منها: علاقتها بالعلم، وعلاقتها بالتاريخ، وعلاقتها بالموسيقى، وعلاقتها باللغة؛ وكان في محاولاته هذه يبحث عن موقعها في سياق النسق الكلي للتفكير الإنساني. كل هذا يجعلنا نستغربُ وجودَ علماء يرون أنَّ الأسطورةَ وليدةُ العقل البدائيّ المتخلف، قائلين إنَّ الأسطورة إنما تمثل بساطةَ الجنس البدائيّ، وليست نِتاجَ تفكير أو تأمل، ما يجعلها مجرد حكايةٍ تُروى للتسلية. وهؤلاء في حكمهم هذا قد خلطوا بين الخرافة والأسطورة، وثمَّة من يخلط بينها وبين التاريخ. (الشاهر، مجلة المعرفة، 2017، ص 51 - 58).

والعناية بدراسة الأسطورة في عصرنا تأتي انطلاقًا من اعتبارها أسلوب تفكير؛ فيُطرح الفكر الأسطوري في مقابل الفكر العقلاني. وانطلاقًا من هذا، قسَّم ليفي بريال وغيره من علماء الأنثروبولوجيا الثقافية المجتمعاتَ البشريةَ إلى نوعين: أحدهما يقوم تفكيره على أساس التفكير المنطقي، وقد رأى بريال أن الثقافة الغربية تضطلع بهذا التفكير. أمَّا النوع الآخر فيقوم على عقلية ما قبل المنطقية، ورأى أن هذا النوع من التفكير كائن لدى الشعوب البدائية في آسيا وأفريقيا والسكان الأصليين في أمريكا وأستراليا. وبصيرورة التفكير المنطقي إلى سيادة العصر، بقي للفكر الأسطوري الأساطيرُ التي ليست سوى حكايات غنيَّةٍ بالمغزى الأخلاقيّ والاجتماعيّ ممتازٍة بالتخييل والحلم. إلا أنني لن أنظر إلى الأمر من هذه الزاوية إذ لا يعنيني من الأسطورة إلا أن الشعراء الرومانتيكيين «هم أول من شرب من كأس الأسطورة السحرية»، (كاسيرر، 1975، ص 19). ومن ثم اتسع عدد الشاربين لدرجة دفعتْ بعض النقاد الُمحْدَثِين إلى قول «إن الأديب الآن كما لو كان يبدأ من جديد ليعيش عصره، فينبغي أن تكون بدايته هي الأسطورة»، (زكي، 1964، ص104). ولعلي أجد في تفسير يونغ للأساطير على أنها مختزنة في الذاكرة الجمعية، ما يُقنع أن الأسطورة لم تحظَ بكل هذا الاهتمام إلا لقدرتها على تحريك النفوس. فوجودها في الذاكرة الجمعية يمثل موجهًا لتصرفات اجتماعية وأخلاقية قد لا يفكر الإنسان في الأساس الذي انبثقت عنه هذه السلوكيات. وتَبعًا لهذا، راح الأدب يستهدف هذه المساحات التي يختزنها اللاوعي للأسطورة.

إن أوَّلَ سؤالٍ حريٍّ بالطرح قبل كل شيء هو: ما هي الأسطورة؟ وتحت هذا السؤال تصطف عديد من الإجابات التي تحمل سمات المجال المعرِّف لها، فيعطي كل من الأنثربولوجيين، والمؤرخين، والأدباء، والفلاسفة، وعلماء النفس، وآخرين تعريفًا خاصًا؛ ولعل السبب في ذلك عائد - كما ذكرت - إلى كون الأسطورة مرتبطة بجذر التفكير الذي مارسه الإنسان، واختزنه العقل الجمعي، وأصبح ميراثًا لا يستطيع الإنسان إلى الخلاص منه سبيلا.

تعريف الأسطورة

يمكن أن يساعدنا في تحديد تعريف الأسطورة معرفة النظريات التي تكمن وراء سؤال النشأة، وهي أربع نظريات: النظرية الدينية، التي ترى أن الأساطير كلها قصص مأخوذة من الكتاب المقدس؛ والنظرية التاريخية، التي ترى أن الأسطورة ليست نتاج الخيال البشري الخالص بل وقائع تاريخية دخل عليها الخيال؛ والنظرية الطبيعية، التي ترى أن كل الأساطير تتصل بعناصر الطبيعة وأنها انبثقت من المنشأ الطبيعي المثير للأسئلة؛ والنظرية الرمزية، التي ترى أن كل الأساطير ليست سوى قصص تحمل مجازات ورموز يكمن وراءها معنى، فليس المعنى الحرفي هو المقصد لذاته. (زكي، 2000، ص 10 - 12).

المعنى اللغوي:

وردت لفظة (أساطير) في القرآن تسع مرات: ((... وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُوُلُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِّينَ)) [الأنعام، 25]، ((وإذا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إنْ هَذَا إِلَّا أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [الأنفال، 31]، ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [النحل، 24]، ((لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسْاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [المؤمنون، 83]، ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) [الفرقان، 5]، ((لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [النمل، 68]، ((... إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [الأحقاف، 17]، ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [القلم، 15]، ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) [المطففين، 13].

في كل الآيات السابقة حملت لفظة (أساطير) معنى القصص المشكوك في صحتها. وقد جاء في مادة (س ط ر) في لسان العرب: السَّطر الصَّف من الكتاب والشجر والنخل، والجمع أسطر وأسطار وأساطير. وقال الزجاج في قوله تعالى ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين)): معناه سطره الأولون، وواحد الأساطير أسطورة، والأساطير الأباطيل، وهي أحاديث لا نظام لها، وواحدتها إسطار وإسطارة وأسطير وأسطيرة وأسطور وأسطورة. وسَطَرَ علينا: أتانا بالأساطير. وهو يُسَطِّر إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل، وهو ما لا أصل له أي يُؤلف. كما جاء في لسان العرب: «قال ابن بُزرُج: يقولون للرجل إذا أخطأ فكنوا عن خطئه: أَسْطَر فلانٌ اليوم، وهو الإسطار بمعنى الإخطاء»، (ابن منظور، ج4، ص 363).

وجاء في تاج العروس، الأساطير: الأباطيل والأكاذيب والأحاديث التي لا نظام لها. وقيل: هي جمع أسطار وأسطار جمع سطر، وقيل، لا واحد له. وسطَّر فلان على فلان إذا زخرف له الأقاويل ونمَّقها، وتلك الأقاويل الأساطير والسُّطُر.

من خلال هذا يتضح لنا أنَّ الأسطورة في تراثنا اللغوي لها علاقة بالكتابة والأباطيل والأحاديث التي لا نظام لها، والأقاويل المنمَّقة المزخرفة، والأخطاء، والتأليف؛ وكل هذه المفردات تتصل فيما بينها، وفكرة الكتابة للأقوال هي المسيطرة على المعنى؛ فالأسطورة عند العرب هي أباطيل مكتوبة.

وقد رأى بعض المستشرقين أن لفظَ (الأسطورة) لفظٌ غير عربي، اُقْتُرِض من الإغريقية نتيجة احتكاك العرب بالإغريق؛ فهو مأخوذ من Istoria بمعنى حكاية. وقد وردت في الفرنسية بمعنى حادث Histoire وفي الإنجليزية بمعنى تاريخ History. وقيل إنها جاءت عن الكلمة الإغريقية (هستوريا) Historia التي بمعنى البحث أو الفحص أو التقصي. وكلمة (هستور Histr) أو (إستور Eistor) في الإغريقية قد جاءت بمعنى العارف أو الخبير أو المتعلم. (حسين حسن، 1998، ص 18؛ بشير جلالة، 2007، ص 53).

أمَّا عند الغرب فقد وردت لفظة Mythe في الفرنسية، وMyth في الإنجليزية، وMito في الأسبانية؛ ويعود الجذر اللغوي للكلمة إلى Mythos اليونانية. والكلمة في اليونانية كانت تعني: القول، الحديث، التصريح. وقد مرّت بتطورات عدّة، حتى صارت تعبر عن الخيال أو القصص الخيالي الأسطوري في كتابات الشعراء المبكرين. (عبد الغني، عالم الفكر، 2012، ص 7).

وتحمل الكلمة بالإنجليزية معان: أسطورة، مَثَل أو حكاية رمزية، فكرة خاطئة، شخص أو شيء خرافي، الأساطير أو الخرافات ككل. وقد لاحظ خورشيد هنا العلاقة بينها وبين كلمة Mouth بمعنى فم من ناحية اللفظ، ومن هنا يقول إن الأسطورة هي الكلام المنطوق. «وبالرجوع إلى تاريخ الكلمة، يلاحظ أن فلاسفة اليونان أفرغوا الأسطورة - تدريجيًا - من قيمتها الدينية والمتيافيزيقية؛ فبعد أن وضعوا (الأسطورة) Mythos في تضاد مع (اللوجوس) Logos ثم مع (التاريخ) Historia انتهت الأسطورة إلى الدلالة (على كل ما لا يمكن أن يوجد حقًا) أو (ما لا وجود له ي عالم الواقع)»، (أمل مبروك، ص23). ويرى بعض الدارسين أن الأسطورة هي الأقوال التي كانت مصاحبة لطقوس العبادة، قبل أن تصبح حكاية عنها. (بعلبكي، 2013؛ خورشيد، 1978).

وهنا ألاحظُ أن المفردة في التراث العربي والتراث اليوناني قد حملت معنى القصة، إلا أن التراث العربي أدرجها في ميدان الكتابة، بينا أدرجها التراث اليوناني في مفهوم الشفاهة؛ فارتباط المعنيين هنا واضحٌ في أن كليهما كلام. وهنا أتساءل عمَّا إذا كانت الأسطورة التي تحمل عند العرب معنى الأباطيل، تتصل بمعنى الخرافة دون المساس بمتعلقات الأديان، أم تتصل بخرافات الإيمان واتجاهات الأديان؛ وهل أبقى الإسلام على خرافات الأديان؟ إن الراجح هو أن الإسلام قد سعى إلى التخلص من كل الوثنيات، وهنا لم يبق - فيما أحسب - من الأباطيل والأساطير عند العرب إلا ما ارتبط بزخرفة الأقوال وتنميقها، والروايات التي أضيفت وابتدعت فيما هو ديني خالص على نحو ما يذكر عجينة من أنها ملل ونحل. إلا أنني يمكن أن أجزم أن العرب لم يتمكنوا مطلقًا من التخلُّص من الأساطير التي لا بد أنها مخزونة لدينا الآن في الذاكرة الجمعية لتتجلى في سلوكيات وممارسات قد لا يفهم أحد سببها؛ فمثلًا نجد بيوتًا قديمة عليها رسم حصان، وهذا الحيوان رمز الشمس، أو حيوان الشمس المقدس عند الشعوب السامية؛ فالرموز الأسطورية باقية دون وعي. (عجينة، 1994؛ لقمان، دون تاريخ).

المعنى الاصطلاحي:

ثمة فرق بين مصطلح Mythologies وMyth، فالميث تعني الأسطورة نفسها، بينا تعني الميثولوجيا (ميتوس + لوغوس)، أي: (ما يتنافى مع العقل + العقل)، فهي تعني دراسة وتفسير الأساطير، كما تعني مجموعة الأساطير الخاصة بشعب ما. وكان أفلاطون أول من استعمل مصطلح Muthologia، لكنه استخدمه للتعبير عن فن رواية القصص. (السوَّاح، نقلًا عن الصالح، 2001، ص 15).

من الصعوبة إيجاد تعريف للأسطورة يتناسب مع كل التخصصات التي تناولت الأسطورة وجميع أنواعها ووظائفها، وقد أشار إلى ذلك إلياد (1991) الذي حاول تعريفها بأنها «تروي تاريخًا مقدسًا؛ تروي حدثًا جرى في الزمن البدئي، زمن الخيالي، زمن البدايات... هي سرد لحكاية خلق: تحكي لنا كيف كان انتاج شيء، كيف بدأ وجوده»، (ص 10). ويقول السوَّاح (2001): «هي حكاية مقدسة، ذات مضمون عتيق يشف عن معان ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان»، (ص 8). ويحدد السواح خصائصها حتى لا تتداخل مع الأجناس الأدبية الأخرى؛ فيقول إنها من حيث الشكل قصة تحكمها مبادئ السرد القصصي، ومن حيث الموضوع تدور أحداثها حول مواضيع تتميز بالجدية والشمولية، وهي نص يحافظ على ثباته فترة طويلة، كما أنه مجهول المؤلف إذ هو إنتاج للخيال الجمعي لا الفردي، وفيها يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسة. وتجري أحداث الأسطورة في زمن مقدس، وترتبط بنظام ديني معين وتعمل على توضيح معتقداته، وتتمتع بقدسية وسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم.

ويرى حسن نعمة (1994) أن الأسطورة «حكاية مقدسة بمعنى أنها تنتقل من جيل إلى جيل بالرواية الشفهية، مما يجعلها ذاكرة الجماعة التي تحفظ قيمها وعاداتها وطقوسها وحكمتها وتنقلها للأجيال المتعاقبة، وتكسبها القوة المسيطرة، وتجيء الكتابة لتلعب دور الحافظ للأسطورة من التحريف بالتناقل»، (ص 25).

وهي عند سليمان مظهر (2000) «قصة الأعمال التي يقوم بها أحد الآلهة - في العقائد القديمة - أو إحدى الخوارق الطبيعية من الأبطال... تبدو فيها محاولات الإنسان لتفسير علاقاته بالكون والعالم، أو تفسير بعض العادات والنظم الاجتماعية أو الخصائص المميزة للبيئة التي يعيش فيها خالق الأساطير نفسه. وهي في هذه الحالة تنطوي على فهم ديني معين بالنسبة للشعب الذي رواها»، (ص5).

والأسطورة عند أحمد كمال زكي (2000) «حركة حضارية مؤكدة، ومتصلة الحلقات. كانت في طورها الأول جزًا من العبادة يتم أداؤه داخل المعبد أو أمام المذبح - إن كانا وجدا - أو قبالة سيل جارف أو على حافة قفر يحتاج إلى الاستمطار كي يخضرَّ. والأسطورة في طورها الثاني سِيَر آلهة وأبطال ومردة، وهي في طور ثالث - وقد استخدمت للتعليل والرمز - كانت فلسفة وبيانًا لقوًى اجتماعية ترصد كل ما يسعى وراءه علماء الحضارة»، (ص 50).

وقد جاء في موسوعة لالاند (1996) أن الأسطورة «حكاية خرافية، شعبية الأصل، وغير مترويَّة، يمثل فيها الفاعلون اللاشخصيون، وفي الأغلب تمثل فيها قوى الطبيعة في صور كائنات شخصية، ويكون لأفعالها أو مغامراتها معنى رمزي (الأساطير الشمسية - أساطير الربيع).» وجاء أيضًا: «هي عرض فكرة أو مذهب في صورة شعرية وروائية مقصودة، حيث يسود الخيال، ويخلط متخيلاته مع الحقائق الكامنة»، (ص 850).

وهي عند جيليبير دوران «منظومة دينامية من الرموز والنماذج البدئية والأنساق، منظومة بدئية تنحو - تحت ضغط نسق معين - إلى التشكل ضمن قصة. الأسطورة هي في البداية ترسيم موقف عقلاني لكونها تستخدم تسلسل الخطاب، الذي تتحول فيه الرموز إلى كلمات والنماذج إلى أفكار، فالأسطورة هي علمية إيغال في نسق أو مجموعة أنساق»، (مارسيل ديتان، 2008، ص 22 - 23).

والأسطورة عند كارل غوستاف يونغ صراعات اللاوعي البشري، بينا رآها فرويد صورًا لرموز. أمَّا رولان بارت فقد رأى أن الأسطورة كلام، لكنها ليست أيَّ كلام إنما هي رسالة، وهي ليست موضوعًا ولا مفهومًا ولا فكرة، إنما صيغة من صيغ الدلالة. وهو ينكر ارتباط الأسطورة بالمواضيع التي تتناولها، ويرى أن الأسطورة ليست إلا شكلًا تعرَّف من خلال طريقة التلفظ إذ ثمة «حدود شكلية للأسطورة، ولاوجود للحدود الجوهرية فيها»؛ وبالنسبة له يمكن أن يصبح كل شيء أسطورة حين يخضع لشروط معينة؛ فالأسطورة إنما هي كلام اختاره التاريخ، وليست منبثقة من طبيعة الأشياء. (رولان بارت، 2012، ص 225).

يمكننا، من خلال التعريفات السابقة، استخلاص مبادئ لا يمكن أن تخرج عنها الأسطورة؛ فلا بد أن تكون قصة، أنتجها العقل البشري الجمعي إجابةً عن أسئلته واستجابة لفطرته، يلعب أحداثها الآلهة في مسرح الكون الذي يضبطه زمن مقدس لا يقبل التعيين.

رغم محاولات التعريف الكثيرة ومحاولات تمييز الأسطورة عن غيرها من الأجناس الأدبية فإن الأسطورة لم تتخلَّص من التَّداخل مع أشكال تخييل أخرى يربط بينها وجود الحدث المحكي. ولعل كل هذا يبرر الحيرة التي عبَّر عنها مرسيا إلياد، ومن قبله الفيلسوف أوغسطين الذي صرَّح أنه يعرف ماهية الأسطورة، لكنه لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال دون تلكؤ.

أشكال التخييل الأخرى

تتداخل الأسطورة مع أنواع أخرى ركيزتها الأساسية التخييل، ومنعًا للبس، وتجنبًا لقصر الفهم أَسُوقُ أقربَ الأنواع إلى الأسطورة، وأكثرها تماسًا معها وهي: الخرافة، الفنتازيا، العجائبي، الغرائبي.

(1) الخرافة:

تشكل الخرافة أكثر أشكال التخييل تداخلًا مع الأسطورة، وكثير من العلماء قد وقعوا في الخلط بينهما حتى رأوهما شيئًا واحدًا. وكلمة خرافة في الثقافة العربية تحمل مدلولًا خاصًا، فقد ذكرت العرب أن خرافة اسم لرجل من بني عذرة أو من جهينة، اختطفته الجن فأقام بينهم ثم عاد إلى قومه يحدثهم بغريب الأحاديث، حتى صاروا يقولون عن كل حكاية أو خبر فيه غرابة: حديث خرافة. ومن هنا اشتق الناس الخرافة مصطلحًا لكل ما لا يمكن تصديقه، (ابن منظور، ج9).

وجاء أيضًا أن الخرافة هي الحديث المستملح من الكذب، وقد قال الرسول (ص) إنَّ خرافةَ حق. وذُكر أنه «لا تدخله الألف واللام لأنه معرفة إلا أن يريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل، أجروه على كل ما يكذبونه من الأحاديث، وعلى كل ما يُستملح ويُتعجب منه»، (ابن منظور، ج9، ص 66).

وفي مسألة الاشتقاق يتساءل مرتاض عن الكلمة التي خرج منها المفهوم المتداول، فيقول إن لدينا خيارين: إمَّا أن يكون هذا المصطلح قد جاء من (خرافة) النخلة، أي أطيب ثمرها، ويذكر قول الزمخشري: «وأتحفه بخرافة نخلته وخرفتها»، (الزمخشري، ص 241).  أي أجود ثمارها؛ والخيار الثاني أن يكون اشتق من (خَرَفَ الرجل) إذا فسد عقله من الكبر، وهنا يحمل المصطلح معنى الذم عكس ما يحمله الخيار الأول. وبعد هذا يصرح مرتاض أنه يميل إلى الرأي الأول، إلا أنه في النهاية يسلم بأنه مشتق من اسم الرجل الذي استهوته الجن، ويعقب - في أسًى - أن هذا النوع الأدبي منبوذ عند العرب، (مرتاض، مجلة القاهرة، 1989، ص 151 - 152)

ويقابل مصطلح الخرافة في الإنجليزية Fable وذات المصطلح في الفرنسية مع اختلاف في النطق، وFabula في الأسبانية. ويعاني الغرب من المشكلة التي يعاني منها العرب، أي: صعوبة التمييز بين الخرافة والأسطورة والحكاية الشعبية، لكن عبد الملك مرتاض يذكر أن معجم المترادفات الفرنسي قد ميَّز تمييزًا دقيقًا في تعريفه لهذا المصطلح فقال إن الخرافة «قصة قصيرة خيالية تكتب بالشعر أكثر من النثر، وربما كانت ميثولوجية غايتها توضيح فكرة ما»، (مرتاض، 1989، ص 104).  ويذكر مرتاض أن الخرافة، بالنسبة للغرب، يمكن أن تطلق على القصة التي تقوم فيها الحيوانات مقام الشخصيات الإنسانية، كما في كليلة ودمنة. وفي هذا الصدد، أشار سانت بيف ضمنيًا إلى أن العرب سبقوا الغرب إلى الخرافة.

ونستطيع أنْ نميّز بين الخرافة والأسطورة؛ فالخرافة تقوم على عنصر الإدهاش وتزدحم بالمبالغات والتهويلات، وتجري أحداثها بعيدًا عن الواقع، فمستوى عيش الشَّخصيات فيها فوق المستوى الطَّبيعيّ، وهي تتشابك مع كائنات ماورائية متعددة كالجن والعفاريت والأرواح والأشباح، وقد ينضم إلى هؤلاء آلهة إلا أن ظهورهم في الخرافة هو تجسيد لبشر متفوقين بينا يظهرون في الأسطورة آلهة متعاليين. ويرى نعمة أن الآلهة لا يظهرون في الخرافة وإنما أبطالها من البشر والجن، أمَّا ما يدخل فيها الآلهة ويقفون عند الحدود الدنيوية العادية فهي الحكاية الشعبية. ويذكر السوَّاح أنَّ الأسطورة والخرافة يتداخلان إلى درجة تثير الالتباس وعدم القدرة على التمييز لكن العنصر الذي لا يمكن أن تحتويه الخرافة هو عنصر القداسة، فبينا يعتقد الناس بالأسطورة لا يسلمون بحقيقة الخرافة. (السوَّاح، 2001؛ نعمة، 1994).

والخرافة «تشمل التشويه الخيالي لشخصية حقيقية ماثلة في أذهان الناس باطِّراد من أمثال الساسة ونجوم السينما أو الرياضة، فينسب الناس العاديون لها صفات خارقة للعادة هي في الواقع بمثابة تعويض عمَّا يشعرون من تفاهة أو ذلة». (وهبة، 1974، ص 339). وقد ذكر أحمد كمال زكي أن بعض الدارسين يجعل الخرافة لونًا من ألوان الأساطير، وأن البعض يحاول ردَّها إلى المرحلة الروحانية والسحر أو إلى الطوطمية، ثم يقترح أن تدرج تحت الأسطورة الرمزية. ويرى دبرلاين أن كلًا من أسطورة الآلهة والحكاية الخرافية قديمٌ نبع من أصل واحد، وقد عاشتا أحدهما إلى جانب الأخرى، إلا أن الخرافة شكل غير جدي من الأسطورة. ويذكر أن الانفصال التام بين ذين النوعين قد حدث في وقت متأخر، فتم التسليم أن الخرافة دنيوية نقيضة للميزة الدينية الخاصة بالأسطورة. كما أن الخرافة تتسم بالكذب والادعاء ويبدو عليها أنها إنما تساق للتسلية. وقد تكون الخرافة أسطورة سابقة، تغيرت المعتقدات الدينية في المجتمع؛ فهبطت بها من مستوى الأسطورة إلى الخرافة بعد أن زالت عنها القداسة الدينية. (زكي، 1967؛ ديرلاين، 1973؛ السوَّاح، 2001).

ويدخل ضمن الخرافة حكايات أخرى، تنهل من المتخيَّل فتتماس مع العجائبي والأسطورة، وتتشابك مع هذه الأخيرة تشابكًا يسمح باحتوائها لها وتضمنها، إلا أن هذا الفصل بين النوعين يجزم بحقيقة وجود خواص معينة من حيث البناء والفنية ومن حيث الأهداف. وتحت الحكاية، لدينا أنواع أخرى من الحكايات تبعًا لتصنيف الموضوعات: الحكاية الشعبية، الحكاية البطولية، الحكاية الطوطمية.

أمَّا الحكاية الشعبية فهاجسها اجتماعي، وموضوعاتها تكاد تقتصر على مسائل العلاقات المجتمعية والأسرية؛ فتورد نماذج لشخوص عاديين من المجتمع وأفراد من الأسرة قد تمثل سلوكًا معينًا. فَتَنَاوُل الحكاية الشعبية تناول واقعي مجرد من الخيال مُغرِق في وصف السلوك الإنساني والمشاعر الإنسانية من حب وغيرة وحقد... إلخ. وتصور هذه الحكايات الحيلة والشطارة والفطنة التي تتمتع بها الشخوص للتخلص من المآزق. إذن، تعالج الحكايات الشعبية السلوكيات الاجتماعية معالجةً تعليمية، (السوَّاح، 2001).

أمَّا الحكاية البطولية فحكاية تدعي الحقيقة، أحداثها أقرب إلى الواقع مع مبالغة وتهويل، وهي - من اسمها - تركز على البطل. ويكون البطل فيها بشريًّا عاديًا، لكنه يحمل صورة مثالية للإنسان والإنسانية؛ فهي بهذا تثير الرغبة في تحقيق تلك الصورة المثالية. وإذا تضمّن هذا النوع وقائع تاريخية فإننا نسميه الحكاية البطولية الإخبارية.

أمَّا الحكاية الطوطمية، فتدور على ألسنة الحيوانات، وتحمل بعدًا تربويًا؛ إذ يستنطق المبدع الحيوانات أفكاره وأقواله حين يعجز عن التصريح بها، ولعل أبرز مثال لذلك في التراث العربي كليلة ودمنة لابن المقفع.

(2) الفانتازيا:

هذا المصطلح في الإنجليزية The Fantasy وفي الفرنسية Le Fantastique. وقد ميَّز شعيب حليفي بين الفانتاستيك والعجائبي Marvelous؛ فرأى أن الفنتساتيك «تعبير عن انهيار لا مرئي - من تعود - يترك بصماته السوداء في المخيلة الحساسة. فتغتسل الكلمات - بتعبير أوكتافيوباث - في الانهيار حتى لا يتوقف الزمن. إنها الرغبة في مساءلة المعنى الذي لا يمكن التعبير عنه مباشرة»، (شعيب حليفي، 2019، ص 24). فالفنتاستيك سؤال لا نص يقدم أجوبة، ومساعد للواقعية على تصوير مشاهد وتفكيك عمقها، وترسباتها، وشق الطابوهات وزرعها بالفادح والرهيب. ويشير حليفي إلى أن العجائبي هدب من أهداب المخيلة، بينا الفنتاستيك هدب من أهداب المستحيل. فالفنتاستيك قريب من الذاكرة المتعالية التي تنتج صورًا مستحيلة الوجود، وهو قريب من الذاكرة العمودية التي تنطلق من الواقعي نحو المتخيل؛ فهو متوسط بين العجائبي والغرائبي. وله علاقة بالخيال العلمي المستشرف للمستقبل، والأسطورة المتجذرة بقضايا قديمة متعالية، وقد وضع حليفي مخططًا توضيحيًا لذلك.

وهذا المصطلح ورد عند تودوروف، إلا أن الترجمة التي تُرجم إليها كانت العجائبي. وقد عنى عند تودوروف: التردد الذي يحسه كائن عند مواجهة حدث فوق طبيعي، وقد اشترط لانتماء نصٍ أدبي ما إلى هذا الجنس ثلاثة شروط: الأول يتعلق بالقارئ، والثاني بشخوص النص، والثالث بمستوى التأويل. ولعل سمة التردد هي الركيزة الأولى لهذا الجنس الأدبي؛ فالقارئ بالنسبة لهذا الجنس الأدبي يشعر بالحيرة، بل ويجب عليه الإحساس بالتيه والعجز عن تمييز الظواهر من حوله: أهي تجارب متخيلة واستيهامية أم حلمًا وهذيانًا؟ (تودوروف، 1993؛ حليفي، 2009).

(3) العجائبي:

جاء في لسان العرب أنَّ العَجَبَ إنكارُ ما يرد عليك لقلة اعتياده. والتعاجيب: العجائب لا واحد لها من لفظها. ويقال: جمع عَجِيب عجائب مثل أفيل أفائل، وأعاجيب جمع أعجوبة. ويقال: شيء مُعْجِبٌ إذا كان حَسنًا جدًا. وجاء في تاج العروس: التعجبُ أن ترى الشيء يُعْجبك، تظن أنك لم ترَ مثله؛ والتعجب حَيْرَة تَعْرض للإنسان عند سبب جَهْل الشيء، وليس هو سَببًا له في ذاته، بل هو حالة بحسب الإضافة إلى من يَعرف السبب ومن لا يعرفه. وجاء أيضًا: بعضهم خص التعجُّب بالحَسَنِ فقط. والعَجْبَاءُ التي يُتعجَّب من حسنها ومن قبحها.

ويقابل هذا المصطلح في الإنجليزية Marvelous وفي الفرنسية Merveilleux، وقد ترجم البعض هذا المصطلح إلى العجيب. والعجائبي حدث تبرز فيه ظواهر غير طبيعية كنوم أهل الكهف، والمشي على الماء، وتكلم الحيوانات؛ وتنتهي هذه الأحداث بتفسير فوق طبيعي. والقارئ هنا أمام خيارين: إمَّا أن يقبل بأن هذه الأحداث يمكن أن تخضع لتفسير عقلي، وهو هنا يتحول إلى الغريب؛ وإمَّا أن يقبل بتلك الأحداث كما هي فيسلم بعجائبيتها.

وقد حدد تودوروف أربعة أنماط من العجائبي: العجائبي المبالغ فيه، العجائبي الدخيل، العجائبي الأداتي، الخيال العلمي. ويذكر حليفي أن هنري بينس قد التقط ثلاث لحظات عجائبية في الأدب العجائبي، وهي: الإبراز والتأكيد من خلال التضخيم للمعطى الطبيعي، والتعددية للمعطى الطبيعي كأن يكون للإنسان أطراف أكثر من أطرافه الطبيعية، والاشتراك وذلك بتكوين كائن من معطيات طبيعية مختلفة.

وهنا ألاحظُ أنَّ المعنى المعجمي قد ذكر أن التعجب «حيرة تَعرض للإنسان عند سبب جَهْل الشيء»، وهذا المعنى مطابق للتردد الذي ذكره تودوروف في تعريفه للفنتازيا؛ الأمر الذي يؤكد أن التخييل بشكل عام، يجعل الإنسان يدخل في حيرة.

(4) الغرائبي:

جاء في لسان العرب: غَربَ أي بَعُدَ، والغريب الغامض من الكلام، وأَغْرَبَ الرجل في منطقه إذا لم يُبْقِ سَيِّئًا إلا تكلم به، وأَغْرَبَ الفرس في جَرْيه: وهو غاية الإكثار. ويقال: استغرب في الضحك أي بالغ فيه. والإغراب كثرة المال وحسن الحال، والغرب الذهب وقيل الفضة. وجاء في تاج العروس: الغَرْبُ الذهاب، والتنحي، وأول الشيء، والغَرْبَةُ الحِدَّة. وغربت الكلمة: غَمُضَت فهي غريبة. والغريب من الكلام العميق الغامض. ورغم ما يبدو من تنافر بين هذه المعاني المعجمية، إلا أن بينها رابطًا مشتركًا؛ فالأشياء الغريبة خارجة عن المألوف إما باختلاف (ذهاب) عن المألوف، أو بزيادة (الإكثار) أو بالغموض، وقد يكون الغريب مستحسنًا (الذهب والفضة).

وفي الاصطلاح، يقابل هذا المصطلح Uncanny في الإنجليزية وEtrange في الفرنسية، وهو جنس أدبي جعله تودوروف بين الفنتاستيك والعجائبي، وفيه تنتهي الأحداث إلى التفسير العقلاني في النهاية بعد أن تبدو على طول النص فوق طبيعية، وهو يحقق شرطًا واحدًا للعجائبي: «وصف ردود فعلٍ معيَّنة؛ وبصفة خاصة الخوف؛ إنه مرتبط فقط بأحاسيس الشخصيات وليس بواقعة ماديَّة تتحدَّى العقل»، (تودوروف، 1993، ص70). وقد عرَّف فرويد الغرائبي بأنه «تلك المجموعة من الأشياء المفزعة التي تعيدنا ثانية إلى شيء سبق أن خبرناه أو شعرنا به من قبل»، (نقلًا عن الصالح، ص 23)؛ فالخوف ركيزة أساسية في الغرائبي.

من خلال ما سبق يتضح أن الخرافة حكاية تظهر فيها كائنات ما ورائية، قد يكون لها هدف تعليمي، أو هدف تسلوي، أو هدف إصلاحي من خلال طرح الصورة المثالية. ويتضح أن الفانتازيا عملية تخييل مساندة للواقع؛ فهي تصف، وتكشف، وتفضح ما عجزت الواقعية الصرفة عن فعله. ويتضح أن العجائبي الغرائبي أسلوبان في التخييل يهدفان إلى إثارة المشاعر في الحكي؛ فهما يتعلقان برد فعل القارئ على النص وبمشاعره التي تثار: الخوف والرغبة. على حين لا تعطي الأسطورة اهتمامًا للمتلقي فعملها ينحصر في المرسل. أمّا العجائبي والغرائبي فينتميان إلى الرسالة والمتلقي من أركان الفعالية الإبداعية بحسب تقسيم اللسانيات الحديثة. إذن، مقارنة بأشكال التخييل الأخرى، الأسطورة إجابة عن أسئلة تتعلق بوجود الإنسان، وهي لم تُسَق مطلقًا بغرض التسلية أو التربية، إنها ملمح من ملامح تطور التفكير الإنساني ونموه.

توظيف الأسطورة في الأدب

الكلمة هي ما استخدمت في الطقوس الأسطورية لتبقي حية إذ تموت الطقوس لتتحول إلى حكي. والكلمة هي أداة فن الأدب، وهذه العلاقة بينهما هي ما جعلت الأساطير مصدرًا من مصادر الأدب. ولعل الأسطورة الأشهر التي جمعت بين الأدباء من مختلف الجنسيات هي الأسطورة الإغريقية، وتأتي بعدها الأسطورة المصرية.

وقد شكَّلت الأسطورة منبعًا غزيرًا لمواضيع الأدب؛ فاقترن اسم هوميروس بالإلياذة والأوديسة اللتين لم تكونا إلا أعمالًا أسطورية في إطار أدبي، وكثير من المسرحيين، مثل: اسخيلوس، وسوفوكليس، ويوريبيدس؛ تناولوا الأساطير والتاريخ موضوعات لأعمالهم الأدبية؛ فنجد أوديب وبرومثيوس. ومن ثم جاء فيرجيل، الشاعر الروماني، الذي كتب ملحمته الإنيادة متأثرًا بإلياذة هوميروس. ويذكر أحمد كمال زكي أن بدايات كل أدب في أوروبا بعد استقلالها عن اللاتينية كانت أسطورية خالصة؛ وعندما نهضت الآداب في عصر النهضة عمد إلى الأساطير كبارُ الكلاسيكية والرومانسية يتخذون منها مادةً، (زكي، 1968).

 من هنا ندرك أن الأسطورة ظلت غذاء الشعوب، تُتَناقل وتُناقش شخصياتها الأسطورية وأفعالها، لا سيما في مجال الدراما؛ فقد يتناول الأديب أسطورة ما، يغيِّر ويحوِّر في أطرافها دون أن يخل بمركز الأسطورة، وقد يغيِّر ليطرح فكرة معينة، إلا أن الأسطورة تظل نواة الحكي؛ وقد يتأثر بالأسطورة ويتشبع بها فحين يتناول عناصر من التاريخ يخلع عليها صفات الأبطال الأسطوريين. وقد تمكَّنت الأسطورة من التعبير عن كثير من المواقف، فعُنِيت باستلهامها الكلاسيكية، والرومانسية، والرمزية، والسريالية، والواقعية السحرية. أمَّا الكلاسيكيون، فتمثلوها فيما تمثلوا من أدب اليونان والرومان، وغالبًا كان استيحاؤهم متابعة لما قدَّمه الأوائل. أمَّا الرومانسيون، فعَنوا بالأسطورة ضمن عنايتهم بالخيال؛ إذ أنتجت لهم الأسطورة فضاءات تخييلية رحبة طرحوا فيها تأملاتهم في الكون والحياة، كما أتاحت لهم أساليب تعبيرية حملت الرؤية الرومانسية التي تمثلوها. أمَّا الرمزية، فكان شعراؤها يدركون أنَّ «الشعر ينبغي أن يكون مثاليًا، وأن الفكرة لا يعبر عنها بشكل مباشر، بل من خلال نقاب من الأساطير الرمزية، تحبوه قيمة عالمية، خارجة عن حدود المكان والزمان»، (داوود، 1975، ص 170). أمَّا السُّريالية التي تعني الخروج عن الأمر الواقع الذي اعتاده البشر، وتهدف إلى إبراز التناقض والتنافر في الحياة؛ فمجَّدتْ العنصر الغنائي في الإنسان، وأطلقتْ عليه الخيال الخلَّاق الذي رأتْ أنه يُمَكِّن المبدع من صُنع ميثولوجيا جديدة. أمَّا في الواقعية السحرية (التي لا تعدُّ فيها الأسطورة مناقضة للواقع)، فتدخل الأسطورة في تركيبها لِتُكَوِّنَ واقعًا جديدًا حيًّا وثريًا «لا تسيره قوانين الطبيعة التجريبية وإنما يخضع لقوى عليا تنتمي لدنيا السحر في محاولة لفضّ أسرار الكون»، (نقلًا عن نضال الصالح، 2001، ص 58). فالواقعية السحرية تزاوج في المشهد بين الواقعي والأسطوري. (راغب، 2003).

ويرى إرنست فيشر أن حضور الأسطورة في الفن قد ظهر - حقيقة - في المرحلة المتأخرة للعصر الرأسمالي. ويرى أن سبب ذلك هو شعور الفنان بالغربة وبتفاهة المجتمع، الأمر الذي دعا الفنانين إلى التشبث بوسائل تتيح لهم اختراق القشرة الخارجية للأشياء؛ فتوظيف الأسطورة إنما هو رغبة في تبسيط الواقع المعقد والبحث عن الروابط الإنسانية بين الكائنات. والأسطورة في الأدب الكلاسيكي استخدام شكلي محض، وفي الرومانسية وسيلة لتصوير الانفعال الصافي وتقديم الجديد، والغريب، والفعَّال.

وقد انتقلت عناية هذه الاتجاهات الفنية بالأسطورة إلى العرب حين تمثلوا تلك الاتجاهات في آدابهم، كما تعرَّفوا على الأساطير من خلال الترجمات سواء للأعمال الأسطورية أو الأدبية التي تمثلت الأسطورة. ويؤكد كثيرٌ من النقاد العرب أن ت. س. إليوت، الذي أخلص للأسطورة إخلاصًا عظيمًا وجعلها مُمَثِّلَة للإنسان متجاوزةً للعصور في (الأرض اليباب) و(الرجال الجوف)، هو من كان وراء تناول أدباء القرن العشرين من العرب ومن غيرهم للأسطورة. وكان الشعر أول من تلقى الأسطورة لذات السبب. وقد اُسْتُلهمت الأسطورة للتعبير عن القلق الحضاري؛ فقد امتلكتْ رموزها قدرةً للتعبير عن مضامين معاصرة سواء على المستوى الاجتماعي، أو السياسي، أو الثقافي؛ وتمكَّنت من التعبير عن أزمة الإنسان العربي. وهذا الاستلهام ولَّد سؤالًا نقديًا حول التقليد والتأصيل، كان خلاصته ضرورة انفتاح العربي على التراث الغربي، وضرورة توغل العرب في تراثهم الإنساني ردًا على سؤال التأصيل.

انتقلت الأسطورة، بعد ذلك، إلى مجال السرد، فوُظِّفَتْ الأسطورة في اللغة ليرتفع مستوى الرمزية، وفي الشخوص لتتضح الملامح الأسطورية في رسمهم، وفي الحدث لتكثيف دلالاته. وقد كانت الرواية أقدر على توظيف الأسطورة من الشعر؛ ذلك أن امتدادها المتماسك من الشكل والمضمون مكَّن الأسطورة من التغلغل على مستويات كثيرة، توظيفًا قد تبلغ مهارة الأديب درجة يصعب معها الناقد استخلاص كل الأساطير الموظَّفة.

يمكننا تحديد بدايات التوظيف في الروايات العربية بنهاية عقد الأربعينيات من القرن العشرين. وقد تضاعف التوظيف كمًّا وفنًا عقب هزيمة حزيران 1967؛ ذلك أن الإنسان العربي راح يرجع البصر في مبادئه وفكره وفي مجتمعه. فكان ذلك السؤال حول الهوية هو ما أثار كل أشكال الفن في الرواية العربية سعيًا نحو تشكيل الإنسان العربي. فالأسطورة ككل أشكال التجريب الجمالي «ليست فعَّالية إبداعيَّة معلَّقة في الفراغ، بل استجابة لضرورة تاريخية/ ثقافية/ فنية استدعتها، وهيَّأت لها، ثم أشاعتها فيما بعد، مجموعة من المؤثرات التي كانت تضطرم في الواقع العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر، والتي ما تزال تمارس تأثيرها الواضح في الراهن منه أيضًا»، (الصالح، 2001، ص 52).

 ومن أمثلة الروايات الأُوَل التي وظَّفت الأسطورة: (إيزيس وأوزيريس) عبد المنعم محمد عمرو 1945، (مارس يحرق معدَّته) لعيسى الناعوري 1955، (نرسيس) لأنور قصيباتي 1964، و(العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح) للويس عوض 1966، (وداعًا يا أفامية) لشكيب الجابري 1960، (أحضان السيدة الجميلة) لوليد إخلاصي 1969، (الفهد) لحيدر حيدر 1969، (عودة الطائر إلى البحر) لحليم بركات 1969، (ليس ثمة أمل لكلكامش) لخضير عبد الله 1972، (عودة الروح) لتوفيق الحكيم 1973، (التاجر والنقَّاش) لمحمد البسطامي 1976، (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا 1978، (العشَّاق) لرشاد أبو شاور 1979، (الحنظل الأليف) لوليد إخلاصي 1980، (الحوَّات والقصر) للطاهر وطار 1987، (طائر الحوك) لحليم بركات 1988، (جمرات الصمت) لفاضل الربعي 1991، (أيام الخلق السبعة) لبعد الخالق الركابي 1994، وأعمالٌ كثيرة أخرى.

وخلال بحثي عن الدوافع التي أفرزت الرغبة في توظيف الأسطورة انتهيتُ إلى أربعة بواعث: باعث نفسي، باعث اجتماعي، باعث سياسي، باعث فني. وهذه البواعث تتعلق بنفسية الكاتب وما تسقط عليه نفسه من الأساطير، وبما يثيره الواقع المجتمعي في الكاتب دافعًا إيّاه إلى مجموعة معيّنة من الأساطير، وتتعلق بالواقع السياسي الذي يسعى الكاتب إلى مواجهته من وراء درع فنيّ، وتتعلق بتجريب الكاتب لتقنيات سردية جديدة، وبسعيه إلى الارتقاء بفنه إلى درجة عالية من المهارة التي تخلصه من حدود الزمان والمكان وترفعه إلى العالمية.

(1) الباعث النفسي:

«إن الأسطورة لم تنبعث من عمليات عقلية فقط، ولكنها انبعثت من انفعالات إنسانية عميقة»، (كاسيرر، 1975، ص67). ولأن الأساطير - بحسب يونغ - مختزنة في الذاكرة الجمعية للإنسان، فإن نفس الإنسان، الأديب خاصة، واقعة على إحدى الأساطير التي قد يجد فيها ما يعبر عن ذاته.

إن الأديب العربي، في تناولنا لنفسيته، لا يمكن فصله كليًّا عن واقعه المجتمعي؛ فشخصية الفرد نتاج ما حوله من أحداث مجتمعية خاصة بمجتمع معين وعامة تشمل المجتمع العربي. فهموم الفرد هي ما تجعل نفسه تسقط على فنيِّة بعينها؛ فكثير من الروايات العربية قد راحت تتمثل مجموعة من الأساطير وتتنقل بينها حتى استهلكتها. من ذلك أساطير الموت والانبعاث بكل أشكالها، سواء عشتار وتموز، أو إيزيس وأوزيريس، أو برسفوني وديميتر، أو العنقاء، أو عوليس، أو سيزيف. والحق أن تلقي الأديب لهذه الأساطير وعنايته بها قد انبثقت من سؤال الهوية، وإذا كنتُ قد شدَّدتُ سلفًا على أهمية تاريخ حزيران 76؛ فذلك لأنه شكَّل نقطة التَّحول في تناول الأساطير من مجرد تقليد ومحاكاة لقراءاتهم من الأدب الغربي إلى معالجة تلك الأساطير، واستيعابها، والشعور بالمعنى العميق الكامن وراءها. يضاف إلى ذلك أيضًا أساطير الخصب التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأساطير الموت والانبعاث؛ فبعد الانبعاث يحلّ الخصب. وقد تناول الأدباء العرب إلى جوار هذه الأساطير الإغريقية والمصرية الأساطير العربية التي تتضمن النبي الخضر، والحسين، وكذا المسيح المخلص.

وهكذا كان الأمر عند هاني الرَّاهب الذي شُغل بسؤال الهوية في بلد اجتمعت فيه أطراف فكرية وسياسية متنوعة؛ فكان أن بثَّ في رواياته تساؤلاته الملِّحة حول هوية الإنسان العربي، وإمكانية النهضة العربية، والتخلص من القمع للحرية. وقد وظَّف في رواياته أساطير، منها: الإغريقية، المصرية، البابلية، العربية. ففي رواية التلال وظَّف الرَّاهب أسطورة إيزيس وأوزيريس التي ترمز إلى الخصب والعطاء والتجدد، كما وظَّف أسطورة عشتار البابلية الأم الكبرى وآلهة الخصب في رواية التلال ورواية بلد واحد هو العالم.

(2) الباعث الاجتماعي:

لا يمكن للأديب أن ينفصم عن مجتمعه، قد يعيش فترة - تطول أو تقصر - لذاته، إلا أنَّنا عند حديثنا عن الأديب العربي يجب أن ندرك أن التطبيق عندهم يأتي قبل الابتسمولوجيا؛ فالأديب العربي قد يكتب رواية تنتمي إلى اتجاه فني معين، وتأتي روايته الأخرى منتمية إلى اتجاه بعيدٍ آخر؛ فالأديب العربي لا يتمثَّل الاتجاه الذي صدرت عنه الرواية العالمية، وإنما يتمثل الرواية العالمية التي هي صدى ذلك الاتجاه.

ورغم كل شيء يظل الأدب ناموسًا اجتماعيًا، يستخدم اللغة التي هي وليدة المجتمع. وكل الوسائل الفنية والأدبية إنما هي أدوات اجتماعية؛ إذ إن الأدب يحاكي الحياة (يحاكي الحياة لا يعبر عنها، فالكاتب يعبر عن تجربته وعن مفهومه الشامل للحياة)، «فعلى الرغم من أن الإبداع فعالية فردية، فإنَّ ثمَّة فاعلًا جمعيًا يسهم في تشكيل المبدع للواقع حوله»، (غولدمان، نقلًا عن الصالح، 2001، ص 93). والأسطورة في الأصل ظاهرة اجتماعية، وهي نتاج تأملات الجماعة لا الفرد؛ فنحن لا يمكن أن نجد في الفكر الأسطوري اعترافات شخصية؛ فالأسطورة تعني «تجربة الإنسان الاجتماعية وليس تجربته الشخصية»، (كاسيرر، 1975، ص 27). وإذا كانت الأسطورة «تطرح مشكلتها طرحًا مباشرًا - أي باستخدام الألفاظ التي يستخدمها المجتمع الذي نشأت فيه - فإن مضمونها يظهر من خلال المجتمع ذاته. وهي أحيانًا تطرح المشكلة طرحًا مقلوبًا، وتسعى إلى حلِّها بالخلف، وفي هذه الحالة يقدم مضمون الأسطورة صورة عكسية للواقع الاجتماعي بصبغته الواقعية المعطاة، وعلى نحو ما هو ماثل في الوعي»، (مبروك، ص 9). وبناءً على هذا تظهر الأسطورة على أنها أيديولوجيا تضع الكثير من التساؤلات حول قضايا اجتماعية وفكرية. ومن هنا يمكننا أن نفسر أن الأديب في حيرته أمام العلاقة التي يجب أن يتخذها مع المجتمع قد راح يتناول الأسطورة؛ فالإنسان المعاصر «يحرص على استهلاك وإنتاج الأسطورة التي تسهم في تحقيق قدر من الاتزان في علاقته بذاته وفي علاقته بأفراد المجتمع»، (مبروك، ص 8)؛ ولهذا يرى البعض ضرورة تفسير الأسطورة ضمن إطار البناء الاجتماعي والثقافي السائد في المجتمع. وعليه لم يحاول الأدباء مطلقًا في تناولهم للأسطورة «تجنب اتخاذ موقف إزاء المسائل الاجتماعية الجوهرية»، (فيشر، 1998، ص132). بل إن النصوص التي تتناول الأسطورة تكون أشد تعبيرًا عن واقع المجتمع العربي وتحولاته. والحق أن التحولات الكبيرة في الواقع العربي بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قد شكَّلت مادة ملِّحة للتناول الأدبي. وقد تم التناول الأسطوري في الجانب الاجتماعي لرغبة في تعرية معوِّقات التقدم الحضاري. فترد الإشارة إلى عقلية المجتمع وإلى أزمة المثقف فيه وغربته، وإلى جدلية (التخلف/ التقدم). ويتمثل التَّقدم والتَّحرر الفكري في الثورة على النظام الاستبدادي، وعلى التعليم التقليدي، وعلى تحطيم الأصنام والمزارات التي تؤمن بها المجتمعات العربية، ونقد بنية التفكير العربي الخرافية. وأكثر ما ترد في هذا الجانب أسطورة برومثيوس الذي تحدَّى زيوس في سبيل رغد الإنسان والذي يعتبر «من أقوى الرموز التي مثلت ثورة الفكر على أي دين يضطهده»، (زكي، 1968، ص83). وقد استخدم هاني الرَّاهب الأسطورة في معالجته الواقع المجتمعي في رواية بلد واحد هو العالم، حيث وظَّف الأسطورة الحديثة فاوست، كما وظَّف عشتار البغي المقدسة في رواية الوباء، وعشتار التي تظل عذراء دائمًا في خضراء كالمستنقعات.

(3) الباعث السياسي:

في تعبير الأدباء العرب عن أزمة المجتمعات المتخلفة هجوم على السلطة ومحاولة لتقويض دعائمها المبنية على أساس (جَهِّل تَسُد). وقد استخدم الأدباء الأسطورة سلاحًا فنيًا يكون قناعًا «يتقون به القمع والبطش السياسيين، وليعبروا، من خلالها، عن مواقفهم تجاه الاستبداد، لتعريته من جهة، ولتقديم البدائل المناسبة له من جهة ثانية، (الصالح، 2001، ص 72). وقد كانت هزيمة حزيران أشد الوقائع السياسية التي دفعت إلى البحث عن أسباب تلك الهزيمة. وهذا البحث هو أسئلة تعري السلطة السياسية، وتبحث عن المخلص لمعاناة المجتمع العربي من أزمة القائد؛ فكان أن تمثلت في الروايات شخصية المخلِّص «بوصفها رمزًا أسطوريًّا معبِّرًا عن تطلعات الجماعة المقهورة وأحلامها، والباحثة عن قوة تبعثها من رمادها وتعيد إليها إمكاناتها المضيَّعة»، (الصالح، 2001، 73)، وكذا أسطورة العنقاء لتعبر عن النهوض عقب الهزيمة. فتخوض الشُّخوص صراعات مع السلطة وتقوض بناها، وتفكك آليات الوعي السياسي في محاولة جلية للفضح. وقد تناول هاني الرَّاهب هذا الجانب تناولًا صريحًا في رواية التلال وفي رواية رسمت خطًا في الرمال، وفي هذه الأخيرة قام بتوظيف الأساطير العربية وأسطرة الخرافات من الجن والغيلان والسعالي في محاولة جلية لكشف أزمة الواقع السياسي والاجتماعي العربي. 

(4) الباعث الفني:

لعل الباعث الفني يعد أهم البواعث بالنسبة للأدباء، إلا أني أخَّرتُ الحديث عنه لأبيِّن أن الأدباء العرب في بحثهم الدائم عن الفنيات لم يغفلوا توظيفها بما يتناسب مع نفسياتهم، ومجتمعاتهم، وواقعهم السياسي. لعل الأديب خلال بحثه الدائم عن شكل جديد يتفرد به كان دائمًا يترك في ذهنه ذلك الواقع الذي لابد من معالجته معالجة ذكية؛ فالفنية ليست هدفًا في حد ذاتها، وإنما هي أداة للمعالجة الأدبية المجتمعية.

والحق أن حياة الرَّاهب كانت سعيًا ملحًا نحو التجديد والبحث عن شكل متفرد للرواية العربية؛ فمنذ مطلع حياته الأدبية وهو يسعى نحو أسلوب جديد. كان طموح هاني الرَّاهب أن تتخذ الرواية موضوعًا جديدًا وأسلوبًا جديدًا تتخلص فيه من الأنماط التقليدية التي سادت زمنًا طويلًا. وقد اشتغل الرَّاهب على التجديد والتغيير على مستوى اللغة الروائية، وعلى مستوى رسم الشُّخوص، وعلى مستوى الحوار. ولعل أكثر ما يُلفت في تجديداته الزمن المتغير، لاسيما في رواية ألف ليلة وليلتان، وسعيه للتخلص من البطل في رواية التلال، والوباء، وألف ليلة وليلتان، ورسمت خطًا في الرمال. وكان استثمار الرَّاهب للأسطورة من ضمن ما استثمره من التقنيات السردية، فجعل الرموز الأسطورية أدواتٍ للتعبير عن أفكاره، ورؤاه، والمشاكل السياسية والاجتماعية. ولعل أغنى رواياته توظيفًا للأسطورة هي رواية التلال التي سأتناولها بالدراسة، وهي رواية نشرت عام 1989 في 302 صفحة، ومقسومة إلى جزأين: فيضة، بلاغ رقم 1. (ماجد السامرائي، مجلة آفاق عربية، 1979؛ نبيل سليمان، 1982؛ عبد القادر وعلوش، 2019).


* هذه المقالة هي الفصل الأول من بحث التخرج (2022) للكاتبة، بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة صنعاء. عنوان البحث: توظيف الأسطورة في رواية التلال لهاني الراهب: دراسة سيميائية سردية.


المصادر والمراجع

  1. اختلاق المثيولوجيا، مارسيل ديتان، تر: مصباح الصمد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008.
  2. أديب الأسطورة عند العرب، فاروق خورشيد، عالم المعرفة، العدد 284.
  3. أساس البلاغة، أبي القاسم الزمخشري، تحقيق: محمّد باسل عيون السُّود، دار الكتب العالمية، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، 1998
  4. الأساطير - دراسة حضارية مقارنة، أحمد كمال زكي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الثانية، 2000.
  5. أساطير الغرب، سليمان مظهر، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2000.
  6. أساطير من تاريخ اليمن، حمزة علي لقمان، دار المسيرة، بيروت.
  7. الأساطير، أحمد كمال زكي.
  8. الأسطورة عند العرب في الجاهلية، حسين حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، طبعة مزيدة، 1998.
  9. الأسطورة في روايات نجيب محفوظ، سناء شعلان، نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي.
  10. الأسطورة والأيديولوجيا، أمل مبروك، دار التنوير.
  11. الأسطورة والمعنى - دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، فراس السواح، دار علاء الدين، دمشق، الطبعة الثانية، 2001.
  12. الأسطورة والمعنى، ليفي شترواس، تر: شاكر عبد الحميد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1986.
  13. الأسطورة والمكان في أدب إبراهيم الكوني، بشير أحمد علي جلالة، الجامعة الأردنية، 2007
  14. الأسطورة، عالم الفكر، م 40، ع 4، إبريل يونيو.
  15. أسطوريات، أساطير الحياة اليومية، رولان بارت، تر: قاسم المقداد، دار نينوى، سورية، 2012.
  16. تاج العروس، الزبيدي، تح: مصطفى حجازي، مطبعة حكومة الكويت.
  17. تاريخ الأسطورة، كارين آرمسترونغ، تر: وجيه قانصوه، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2008.
  18. التناص الأسطوري في بعض روايات هاني الرَّاهب، سهام عبد القادر ناصر وأماني كمال علوش، مجلة جامعة تشرين، م: 41، ع: 4، 2019
  19. حديث مع هاني الرَّاهب عن الرواية والزمن المتغير، مجلة آفاق عربية، العدد 2، فبراير، 1979.
  20. الحكاية الخرافية، فردريش ديرلاين، تر: نبيلة إبراهيم، دار القلم، الطبعة الأولى، 1973.
  21. الدولة والأسطورة، أرنست كاسيرر، تر: أحمد حمدي حمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975.
  22. الرواية السورية، نبيل سليمان، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1982.
  23. شعرية الرواية الفانتاستيكية، شعيب حليفي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2019.
  24. ضرورة الفن، إرنست فيشر، تر: أسعد حليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1998
  25. عن النزوع الأسطوري في الرواية العربية، نضال الصالح، منشورات اتحاد الكتاب العرب.
  26. لسان العرب، ابن منظور، دار صادر.
  27. اللغة والأسطورة، أرنست كاسيرر، تر: سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى، 2009.
  28. لماذا الأسطورة، أحمد كمال زكي، مجلة الهلال، العدد 6، يونيو، 1964.
  29. ماهية الأسطورة ووظيفتها، عبد الملك مرتاض، مجلة القاهرة، العدد 100، أكتوبر، 1989.
  30. ماهية وطبيعة الأسطورة، مجلة المعرفة، العدد 651، ديسمبر، 2017.
  31. مدخل إلى الأدب العجائبي، تزفيان تودوروف، تر: الصديق بو علام، دار الكلام، الرباط، الطبعة الأولى، 1993.
  32. مظاهر الأسطورة، مرسيا إلياد، تر: نهاد خياطة، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1991.
  33. معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبة، مكتبة لبنان، بيروت، 1974.
  34. المورد الحديث، منير البعلبكي ورمزي منير البعلبكي، دار العلم للملايين، 2013.
  35. موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، محمّد عجينة، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 1994.
  36. موسوعة النظريات الأدبية، نبيل راغب، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، الطبعة الأولى، 2003
  37. موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الثاني، ت: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الأولى، 1996.
  38. ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، حسن نعمة، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1994.
  39. نظرية الأدب، رنيه وليك وآوستن وآرن، تر: عادل سلامة، دار المريخ، السعودية، الرياض، 1992
  40. نقلًا عن أساطير العالم القديم، كارم عزيز، مكتبة نافذة، الطبعة الأولى، 2007.
  41. وظائف الرمز الأسطوري، مجلة الموقف الادبي، العدد 523، أغسطس، 2015.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@