فَأْرَة

فَأْرَة

هاجر منصور سراج 

1 إبريل، 2025


فأرة: قصة قصيرة بطلها حيوان صغير يشكل رمزًا لدناءة البشر وحقارتهم في الواقع.

فتحت فأرة عينيها للنور في سيرك يعج بالمهرجين؛ لكنها حسبته العالم كله. الخيمة مخططة باللونين الأبيض والأحمر، الملابس مبهرجة، المساحيق براقة، الشعر ملوَّن، الأنوف حمراء مطاطية، الشفاه غليظة باسمة. في الصباح يهرولون، ويصيحون، ويغتسلون. في الظهيرة يرقصون، ويغنون، ويقفزون، ويصفقون. في المساء يسكرون، ويضحكون، ويشخرون.

حرَّكت الفأرة أطرافها الوردية النحيلة، وهرولت بين الأجساد المتزاحمة، ومنهم التقطت بعض الشتائم والضغينة؛ فبصقت في وجه قردٍ وفرَّت قبل أن يلتهمها قط متشرد، وخرجت من المعركة بندبة بشعة.

كانت بيضاء، ولم تكن بقية الفئران مثلها؛ فاتخذها صاحب السيرك أنيسته. وضعها على كتفه ودرَّبها على البقاء ساكنة، وإطاعة كلامه، وتسلق أصابعه ورأسه. افتتنت الفأرة بعملها وربضت على رأس مالك السيرك وقتًا طويلًا دون أن تخلِّف فضلات عفنة. وضع لها صبيٌّ مساحيق تخفي ندبتها، وألبستها امرأةٌ سوداء قميصًا وتنورة، ووضعت لها فتاة عصبة رأس براقة.

في المساء، يذهب صاحب السيرك إلى الحانة ويحتضن امرأةً، فتنظر إليها مذعورة وتطلق صيحة حادة قبيحة؛ فينتزعها عن رأسه ويحشرها في جيبه المليء ببقايا سكر، ونقود، وتبغ. حاولت الخروج مرَّةً؛ فسحقها في قبضته لتتأدب، ولم تكررها مرَّةً أخرى.

تحفظ المدة التي ينفقها صاحب السيرك قبل أن يخلع معطفه ويرميه؛ لأن السقطة توجعها، رغم أنَّها محاطة بالأقمشة. تسمع زحيره؛ فتتسلل مبتعدة وتركض بين الأرجل الكثيرة، وتتسلق السيقان المكشوفة. تعشق سماع الصراخ الحاد؛ إذ يشعرها بالسيطرة التي يشعرها صاحب السيرك حين يصرخ في العاملين. تركض خارجًا إلى الهواء البارد في الليل، وتنفق لحظة في التحديق في القمر والنجوم دون أن تجد شيئًا مثيرًا للاهتمام، رغم ما تكرره الشابات المتيمات في السيرك.

تركض مبتعدةً عن الحانة، وتتجنب الأزقة المليئة بالمواء، وتتجنب القمامة التي قد تلطخ تنورتها التي تنتفخ حولها حين ركضها. انتفاخ التنورة يكسبها شعورًا سماويًا؛ فتتوقف وتسير على طرفيها الخلفيين كما علموها، وتتهادى راقصة؛ لكنَّ المدينة المزدحمة لا تسنح لها بغير خطوتين قبل أن تمتد قدم راكضة نحوها.

تركض أبعد إلى بيتٍ ما، وتتسلق ثم تدخل من أي مدخل، أو تنظر من أي شق حتى تعثر على نافذة مفتوحة لليل. تجد حيوانًا ما؛ لكنها تفرُّ خفيفةً راقصةً، ولا يدرك أهل البيت أن كومة الخرق البراقة الملونة تخفي كائنًا صغيرًا بغيضًا نتنًا، وإن كان أبيضَ. تتسلق العتبات، تخرج من بيتٍ مطرودةً إلى بيتٍ آخر، ثم إلى آخر حتى تدرك أن وقت انطلاقها المحبب قد انتهى؛ فتركض عائدة إلى الحانة وتندس في الجيب النتن ساكنةً راضية. تحدثها نفسها أحيانًا أنَّ صاحب السيرك قد يكتشف هروبها المتكرر؛ لكن طول المزاولة أشعرتها بالأمان.

وفي ليلةٍ باردة، ركضت إلى بيتٍ واسعٍ مضاء، دخلته لاهثةً متلهفة، فألفت موسيقا غير تلك التي ألفتها في السيرك، وفساتين غير التي ترتديها النساء هناك، ورقصًا غير ذلك الذي عهدته. كان رقصهم شبيهًا بالرقص الذي دُرِّبَت عليه؛ فابتهجتْ. فكَّرت في الاندفاع والرقص بينهم، أو الصعود إلى المنصة ولفت أنظارهم ليصفقوا لها كما يفعل الناس لكل الحيوانات إلَّاها.

تحرَّكتْ ضاحكة وعيناها يجوسان حولها بهجة. وقبل أن تبلغ المنصة، ركلتها ساق ناعمة بكعب أسود إلى الطرف الآخر من القاعة، مطلقةً صرخة لا تشبه صرخات النساء في الحانة. وقعتْ على الجدار وتألمت من الوقعة؛ فلم تستطع الاستواء أو الحراك. رأت كفًّا تقترب منها، فأدركت أن هلاكها قد حان؛ لكنَّ اليد حملتها، ثم دُسَّت في جيبٍ معطَّر فوق منديل مطرَّز لا يشبه جيب صاحب السيرك في شيء.

غفت متوجعة. وحين استيقظت، كانت ملفوفة بقماش أبيض ومستلقية داخل قفص فوق منديل ناعم. ذعرت من القفص قبل تنتبه لأي شيء آخر؛ إذ لطالما سخرت من الحيوانات الكبيرة المحبوسة وعيَّرتها طويلًا، ونصحتها أن تكون أليفة راقصة كي يسمحوا لها بالركض والتجوال مثلها، وها هي الآن في القفص نفسه!

لهثت وتحرَّكت خائفةً مذعورةً مرتابة، وأخذت تتخيل وجه صاحب السيرك غاضبًا ناقمًا، وتذكَّرت شعور السحق في قبضته؛ فارتعدت وارتعشت أطرافها ألمًا وخوفًا. تنبَّهت بغتةً إلى صوت ذكوري، لا يشبه صوت صاحب السيرك، ولا أصوات العاملين، ولا أصوات الرجال في الحانة. خاطبها الصوت، لكنها كانت تنظر إليه ولا تسمع. كانت عيناه بنيتان صافيتان، وشعره أسود مرتب، ولحيته خفيفة أنيقة... ولم يكن يشبه أحدًا رأته من قبل، حتى في البيوت التي طوَّفت فيها، وأدركت دون تفكير عميق أنَّها طوَّفت في البيوت القريبة من الحانة، ولا بُدَّ أنَّها لا تختلف عن زوار الحانة في شيء!

ظلَّ الشاب يتكلم؛ لكنها لم تستمع، رغم أنَّها تستطيع الفهم؛ إذ سلبها الشعور العارم بالألم أيَّ إحساس وإدراك، فسلَّمت نفسها للنوم. حين استيقظت في اليوم التالي، كان ضوء الشمس يملأ الغرفة الواسعة، وكانت الستائر الزرقاء الشاحبة شفافةً، تتحرك صعودًا وهبوطًا بسبب الريح الهادئة؛ والسرير المتوسط مرتبًا نظيفًا، والهواء عبقًا برائحة لم تشمها يومًا. جالت ببصرها حولها قبل أن تنظر إلى طعامها في القفص. أقبلت على قطعة الجبنة إقبال الجائع الشره، ولمَّا فرغت منها، أدركت أنَّها لا تشبه أيَّ شيء ذاقته من قبل.

تحرَّكت إلى القبضان واستندت إليها محدقةً حولها حتى وقع بصرها على طائرٍ أحمر على عمودٍ أسود... ولم يكن في قفص! نظرت إليه طويلًا ولم يكن حينها ينظر إلا إلى الأعلى... حيث لا شيء سوى بياض ومصباح متدلٍ. ظلَّت الفأرة تحدِّق طويلًا حتى خفف الطائر من غروره ونظر إليها شزرًا، ففغرت فاها مذهولةً من جماله؛ فلم يكن يشبه طيور السيرك في شيء!

في اليوم التالي، سمعت الشاب ينادي الطائر بعنقاء، فقلَّبت أسماء طيور السيرك في رأسها بحثًا عن اسمٍ مشابه؛ لكنها لم تجد. قال الشاب إنه سيسميها ندبة؛ لأنها فأرة ذات ندبة، فشتمته؛ لكنه لم يفهم شتائمها. ابتسم وظنَّ أنَّها أحبَّته، فأخبرها أنَّها أفزعت أخته في الحفلة وأنَّه لا يريد أن يبقيها حبيسةً؛ لكنه يخشى تجوالها إذ يبدو في عينيها سعار لا يفهمه. أطرقت بينا يسهب في الشرح. وحين اشترط عليها أن تكون متعقلة، أومأت بالإيجاب؛ فامتدح ذكاءها.

وبعد يومين، رافقت الشاب في نزهة إلى الطبيعة. راقبت ما حولها من جيبه المعطَّر بينا يقبع الطائر المختال على ساعده. اجتمع أشخاص كثر، فتركهما الشاب معًا وغادر. ظلَّت صامتةً لا تجرؤ على قول شيء حتى لفت انتباهها شيء غريب في الطائر. ولمَّا التفتت راعها أن شرارة تشتعل فيه، ثم ما لبث أن احترق كله واستحال رمادًا. ارتعدت فرائصها وهمَّت بالفرار؛ لكنها رأت شيئًا يتلوى بين الرماد. وحين اقتربت، رأت كائنًا صغيرًا بجناحين غير ناميين. اقتربت أكثر خائفةً مندهشة، وظلَّت تراقب صامتةً حتَّى اقترب الطائر الصغير الهش والتصق بها.

تجمَّدت حركتها، وخافت إن تحرَّكت أن تحترق، وظلَّت تحدِّق في الخضرة حولها بعينيها الواسعتين البنيتين حتى عاد الشاب ورفعهما معًا مترفقًا هامسًا بكلام لم تسمعه؛ إذ كانت خائفةً مرعوبة. أخذت تتذكر أيام السيرك حين يتخلصون من أحد الحيوانات الميتة، يرمونه في حطب ويحرقونه، وتخشى أن تقترب؛ لكنَّ صاحب السيرك ينفق وقتًا طويلًا في التحديق في النيران ويمتدح رائحة اللحم؛ لكنها لم تعرف إن كانوا يأكلونه.

وفي اليوم التالي، حزم الشاب حقائبه، ووضعها مع العنقاء الصغيرة الهشة في قفص، وركب سيارة وغادر. لم تعرف إلى أين مضوا؛ لكنهم حين توقَّفوا أمام بناء كبير رائع عرفت من الشاب أنَّهم في الجامعة. أبهرها كل شيء حولها؛ فطفقت تتجول وتحصل على بضع ركلات، وشتائم، وصرخات. وحين تعود متألمة متوجعة إلى غرفة الشاب، يلفها بالقماش الأبيض، ويحقنها بإبرة مؤلمة فتنام وتستيقظ معافاة.

حضرت معه فصول الدراسة وأبهرتها الكتب، وطفقت تردد ما كان الأساتذة يقولونه حتى أجادت لغة البشر أخيرًا. ذُهل الشاب حين سمعها؛ لكنه أرجع جدارتها إلى تربيتها في السيرك. ابتهج الشاب بمعاوناتها له في الامتحانات، وسرقتها لأوراق الاختبارات من مكاتب الأساتذة، والتلصلص على منافسيه، والانتقام من حبيباته الخائنات. وفي كل مرةٍ، كان يغدق عليها بالمديح، حتى أدركت أن الشتائم ليست شيئًا إذا ما قورنت بالدسائس والحيل! تفننت في وضع الخطط، وفي مذاكرة الدروس، وفي الرقص، وفي الغناء؛ والعنقاء تراقبها صامتة حتى تكلَّمت أخيرًا ذات مساء، حين كان الشاب غائبًا مع امرأة جديدة. أخبرتها أنَّها دنيئة؛ فهاجت الفأرة، وصاحت، وهاجمتها غاضبة؛ لكن العنقاء لم تتحرك قيد أنملة، بل كررت: أنتِ فأرة دنيئة.

كالت الفأرة الشتائم طوال الليل. ولمَّا أسفر الصبح، كانت قد وضعت خطة للانتقام من العنقاء. كانت تعلم أنَّ العنقاء لا تموت؛ فحين تمرض أو تصاب، تحترق وتولد من جديد سليمة صغيرة. أمَّا هي فقد أخذ شعرها الأبيض الجميل يتساقط ويخلف بقعًا زهرية قبيحة. لم يكن ثمة خيار أمامها سوى دفع العنقاء إلى المغادرة، وإذا حلَّقت بعيدًا، لن يستطيع الشاب أن يمسكها، وإذا أقنعت العنقاء بوجوب الرحيل، فلن تعود.

كلَّمتها حين كان الشاب في محاضراته: أنتِ دنيئة أيضًا؛ إذ تقبلين المكوث مع دنيء عاهر.

التزمت العنقاء الصمت؛ فثرثرت طويلًا، وألقت أسرار الشاب على مسامعها، وشتمتها مجددًا بالسفالة؛ إذ ترافق شابًا سافلًا. قالت العنقاء متأففة: أنتِ فأرة، وأنا عنقاء. لن أنزل إلى منديلك لأرد عليكِ.

أخذها الغضب. تأججت عيناها بلون قاتم، وسقطت شعيرات بيضاء أخرى، ووخزتها الندبة؛ لكنها تابعت كلامها طوال النهار حتى عاد الشاب. استرخت الفأرة فوق منديلها الناعم، مراقبة العنقاء شزرًا في انتظار استحواذ كلامها على عقل العنقاء البغيضة. وفي اليوم الثالث، أدركت أنَّ خطتها لم تنفع. قفزت على منديلها متذمرة ساخطة؛ فتساقطت الشعيرات البيضاء الباقية حتى ألفت نفسها عاريةً من جمالها، قبيحةً بجلد زهري مبقع. أخذها الغضب أكثر؛ وحين علَّق الشاب مستنكرًا مظهرها الجديد، اندفعت نحوه وعظَّته في رقبته. صاح، وضربها، وحاول نزعها؛ لكنه لم يفلح، فأخذ يسحقها بين قبضتيه. لم تتحرك العنقاء قيد أنملة لنجدته؛ بل لم تهبط بنظرها عن السقف. وحين لفظ الشاب أنفاسه الأخيرة، وتلوَّت الفأرة بين دمائه الوفيرة وحشرجتها، استطاعت أن ترى العنقاء تنطلق من النافذة إلى السماء، وتختفي جهة الشرق.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@