هِي خَائِفَة

هِي خَائِفَة

هاجر منصور سراج 

15 إبريل،  2025


هِي خَائِفَة: خاطرة تكشف دواخل النفس البشرية الخاضعة للوهم، وما يتصوره الإنسان حين تخنقه الوحدة والتجاهل.

تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في السحب المسافرة، وتنزل إلى نافذتي. ترفرف أجنحتها الصغيرة الملونة رفرفةً منتظمةً، فتختفي... تختفي تمامًا، وتظهر بغتةً داخل الغرفة.

أسألها كيف عبرتِ الشباك الحديدي الضيق؟ كيف تجاوزتِ الزجاج؟ لكنها لا تجيب. تستمر في رفرفتها الخافتة المنتظمة مستشعرةً كل صوتٍ حولها، كل نفسٍ، كل سريان للدم في الجسد. وحين تأنس الصمت، تكشف عن حقيقتها، فتتبدى ذئابًا رماديةً وسوداء.

أكون حينها إمَّا مستلقيةً أقرأ، أو قاعدةً أكتب. وفي كلا الحالين، أكون وحدي؛ ليس ثمة أحدٌ قريبٌ لينظر إلى الذئاب المزمجرة، ينظر إلى لعابها المتساقط، ينظر إلى مخالبها الناتئة الحادة، ينظر إلى أعينها الحمراء... ليس ثمة من ينفضها عني؛ فأراقبها خائفةً راجفة، لا أستطيع الحراك، ولا أستطيع الكلام. أتمنى لو يظهر صوتي، فأنادي مستنجدةً؛ لكنني لا أستطيع فعل شيء. يختفي صوتي، وتكتم أنفاسي، ويتجمد جسدي، وتتسع عيناي لتراقبا فحسب... تراقبا الذئاب تقترب، وتفتح أفواهها الكبيرة المفزعة، وتشرع في التهامي.

حين أكون قاعدةً أكتب، تقترب مني في هدوء مستفز. أشعر بشعرها المتسخ على ساقي حين تحوم حولي قبل انقضاضها، ثم أشعر بعضاتها الوحدة تلو الأخرى. لا أحصي الذئاب عددًا، لكنني أستطيع رؤيتها كثيرةً تتقاتل لتلتهمني. يقفز ذئب أسود عاليًا ليحوز حصَّته، فيطبق على عنقي. أقاوم فزعةً، لكن ما يلبث كل شعورٍ بالفزع أن يختفي ويسكن الفراغ. لا يبقَ حولي سوى عتمٍ مريع.

أحيانًا، يقتحم الخلوة شخصٌ ما، فتستحيل الذئاب عصافير رنانة. ترفرف وتحط عليَّ وعلى الطاولة أمامي. أكون لاهثةً فزعة، فلا أستطيع أن أشير إلى الطاولة وأخبرهم بحقيقة تلك العصافير التي لا يرونها.

أحيانًا أخرى، لا يغادر الشخص، فتبقى الذئاب في هيئة العصافير؛ لكنها تثب عليّ وتأخذني بمناقيرها. تنتزع جلدي عني نقرًا، فلا أستطيع البوح أو الصراخ. وإن آنستُ في نفسي قوَّةً لذلك، ترفرفُ حولي، ويحط كبير العصافير على أنفي. ينظر في عيني، ويخبرني أنَّه سيقتلع عيني ولساني إن جرؤت على الكلام، فأصمت.

هم ليسوا حولي الآن، ولا أراهم؛ لذلك لن يعرفوا أني أكتب عنهم. أنا أبقي باب الغرفة مفتوحًا حتى لا يأتوا إليَّ؛ لكنهم يأتون دائمًا؛ لأنَّ لا أحدَ يفد عليَّ، ولا أحدَ ينظر إليَّ. أنا خائفة!

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@