أبو فراس الحمداني: حياته وشعره

أبو فراس الحمداني: حياته وشعره

هاجر منصور سراج

6 أغسطس، 2024


أبو فراس الحمداني

أبو فراس الحمداني

يذكر العباسي الثاني بالضعف، وهو العصر الذي يبدأ بقتل المتوكل سنة 235هـ، وخلال هذا الضعف استقلت كثير من الإمارات الإسلامية، ومن هذه الإمارات الإسلامية: دولة الحمدانيين بحلب والموصل، ويؤرخ عمرها (317 - 394 ه). تنسب هذه الدولة إلى حَمَدان بن حمدون التغلبي، وهم من عرب الشمال، من وائل من بني ربيعة، وكانوا كثيري العدة، وذوي هيبة ورهبة، إلا أنهم لم يمتلكوا سياسة موحدة تجمعهم؛ بل كانت الخلافات قائمة بينهم فيما يتعلق بالأحداث في عصرهم، ونحن نعلم كثرة الأحداث والقلاقل التي كانت في العصر العباسي، ابتداء من سيطرة الأتراك، مرورًا بثورة الزنج والقرامطة، وبظهور الحشاشين، وكل الأحداث الداخلية الدامية، وانتهاء بغزوات الصليبيين، ثم الجائحة المغولية المدمرة.

وخلال الفترة التي قامت فيها الدولة الحمدانية، تأرجح الحمدانيون بين صفوف العباسيين وبين صفوف أعدائهم، ومع الخوارج وعليهم، إلا أن مصالحهم اقتضت إظهار الولاء للدولة العباسية على الرغم من تشيعهم، وذلك هو ما كان منهم، حتى أصبح تشيعهم اسمًا لا أكثر. ومن هذه العائلة برز الفارس الحمداني أبو فراس، الذي قال عنه الصاحب بن عبَّاد: «بدأ الشعر بملك وختم بملك». وهو يعني امرئ القيس ابتداء وأبا فراس ختامًا. وهو الذي لم يستطع المتنبي أن يطمس ذكره بغض النظر عن السبب وراء ذلك.

حياته

ولد أبو فراس الحمداني لأب عربيّ وأم رومية، أمَّا أبوه فهو أبو العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان، وينتهي نسبه إلى تغلب، ثم وائل، ثم ربيعة، ثم مضر. وأمَّا أمه فجارية رومية. وقد كان شاعرنا يفتخر بنسبه؛ فالعمومة الإسماعيلية (السامية العربية)، والخؤولة الاسحاقية (من إسحاق بن إبراهيم)، ويذكر عمر فروخ أن أبا فراس يفسر نسبه تفسيرًا خرافيًا حين يظن أن (بلصفر) أي بنو الأصفر أو الروم هم بنو إسحاق. (عمر فروخ، 1945، ص 30).

لاسماعيـــل بي وبنيه فخــرٌ، ♦♦♦♦ وفي إسحـــــاق بي وبنيـــه عجــبُ

وأعمــامي ربيعةُ وهي صِيــدٌ ♦♦♦♦ وأخــــولي بلصــفــرُ وهـــي غُلـــبُ

وقد ولد أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان سنة 320 هـ (932م) في الموصل، ونشأ يتيم الأب في رعاية أمه بعد أن قتل ناصر الدولة - أخو سيف الدولة - والد أبي فراس؛ وذلك لأن الخليفة الراضي كان قد منح سعيدًا ضمان الموصل وديار ربيعة، وأراد ناصر الدولة أن يستبد بالموصل دون فرع والد أبي فراس، وكان يحكمها بالضمان، فأرسل من غلمانه فقتلوا سعيدًا؛ فتنقلت الأم بابنها بين الموصل، وآمِد، وميّافارقين، وماردين، والرقة حتى استقرت بِمَنْبَج قرب حلب. وقد حظي أبو فراس الحمداني برعاية ابن عمه سيف الدولة، أمير حلب، ولقي في بلاطه تربية أميرٍ فحاز علمًا، وأدبًا، وفروسية، وشجاعة؛ وقد عادت هذه التربية على أبي فراس بالحبَّ والاعتزاز بابن عمِّه سيف الدولة، ولم ينفك يفخر بتلك التربية في شعره، ومن ذلك:

وكيف ينتصف الأعداء من رجلٍ ♦♦♦♦ المجـد أولـه والعـز آخــــرهْ

ومن سعيد بن حمدان ولادتــــه ♦♦♦♦ ومن علي بن عبد الله سائره

ويذكر أنَّ عطف سيف الدولة على أبي فراس لم يكن إلا من باب الشفقة فقط، وسترًا لجريمة أخيه ناصر الدولة، ورغبة في أن ينسي أبا فراس مقتل أبيه؛ ويبدو أن ما أراده قد حدث، فنسي أبو فراس الحمداني جريمة ابن عمه ناصر الدولة وصفح عن القاتل بعد أن صار سيف الدولة له أبًا، ويذكر ذلك في شعره مخاطبًا سيف الدولة:

إذا أنــــت ســيـــدي الـــذي ♦♦♦♦ ربيــتـنـــــي، وأبــــي ســعيـــــد

هيهات لا أجحد النعماء منعمها ♦♦♦♦ خلفتَ، يا ابن أبي الهيجاء، في أبي

وما إن سمحت سن أبي فراس بولوج المعارك حتى اقتحمها اقتحامًا أثار إعجاب ابن عمِّه، فجعل هذا الأخير يصطحبه في غزواته، ويخضعه لمواجهة الأهوال فبرز فارسًا مغوارًا، ورجل حرب بصير، فحارب الروم، ونازل الدماسق، وأغار على القبائل الخارجة عن ابن عمه، فأذل أعناقها، وكان يلذ له أن يركب صهوة جواده ويشد مقبض سيفه ويقابل الأبطال، فإذا استخلفه سيف الدولة على أعماله وخرج في غزوة دونه، رجاه ألا يحرمه صحبته:

لا تُشْغلنَّ؛ فأرض الشام تحرسُه ♦♦♦♦ إن الشـــآم على من حلَّــهُ حـرمُ

لا تحرمني سيف الدِّين صحبتـه ♦♦♦♦ فهي الحياةُ التي تحيا بها الأمم

ولمَّا بلغ أبو فراس الحمداني سن السادسة عشرة من عمره قلَّده سيف الدولة إمارة منبج وحران وأعمالهما، وكانت هذه الإمارة ثقيلة عليه لصغر سنة، ولأن منبج كانت ثغر حلب فكان لزامًا على أبي فراس أن يدافع عن حياض دولة ابن عمه، فيدفع عنها خطر الأعداء من الروم وخطر قبائل البدو في بادية الشام، لاسيما بني كعب وكلاب ونمير.

وفي عام 337 هـ، وفد المتنبي على سيف الدولة، ونحن نعلم أنَّه: قلما اجتمع فحلان في ذود إلا عدا أحدهما على الآخر! وهكذا لم يهب وفود المتنبي أبا فراس إلا مشاكلًا ومنافسةً أدبية وسياسية؛ فالمتنبي كان منافسًا لأبي فراس على كل المستويات، فهو شاعر، وفارس، وعالم أقيم في وجه أبي فراس، وقد ذكر أن سيف الدولة تعمَّد ذلك ليكسف بالمتنبي نور أبي فراس في الشعر والحرب. وتبعًا لهذه المنافسة انقسم البلاط إلى معسكرين: معسكر يناصر أبا فراس ويناهض المتنبي، وآخر يناصر المتنبي ويعرض بأبي فراس؛ وهذا أمر أضعف مركز أبي فراس في بلاط سيف الدولة. ويظهر في ديوان أبي فراس أنه تعرض لمضايقات وإساءات كثيرة من بني حمدان بعد وفود المتنبي، ومن ذلك قوله:

وكم لــك عندي من غــدرة ♦♦♦♦ وقــــولٍ تكــذبه بالفـــعــال

ووعـــد يعذَّبُ فيه الكريـمُ ♦♦♦♦ إمــا مُخلــف وإمـــا مــطــال

صـبرنا لسخطك صبر الكرام ♦♦♦♦ فــهـذا رضاك، فهل من نوال؟

وذقنــا مـرارة كأس الصـدود ♦♦♦♦ فــأين حــلاوة كأس الــوصـال

ولعل أبا فراس الحمداني قد حفظ ولاءه لسيف الدولة، وتواضع بين يديه رغم اعتزازه بنفسه؛ لأنه كان فردًا ضعيفًا لا يستطيع الانقضاض على ابن عمِّه، ولم يكن له أنصارٌ كثر ليظفر بالحكم، وقد حاول ذلك بعد سيف الدولة فلم ينجح. ولا يمكننا أن نغفل حقيقة أنَّ الحمدانيين أنفسهم كانوا ذوي خلاف مستمر، يبغض الواحد منهم الآخر، ولعل اعتداد أبي فراس بنفسه منعه من التذلل والتملق لشراء ولاء قومه. كما يظهر أن إساءة بني حمدان كانت من الشدة حتى خطر لأبي فراس أن يذهب إلى بني طُغج المستبدين بمصر.

بنــو حمدان حُسَّــادي جميــعًا ♦♦♦♦ فــما لي لا أروز بنــي طغــج

وتسيطر الحيرة على المؤرخين؛ فبعد أن كان سيف الدولة وابن عمه أبو فراس كالأخوين بل أكثر، تفسد علاقتهما، ويُرجع البعض ذلك إلى كلمة قالها أبو فراس في أسره، وهي: «مفاداتي إن ثقلت عليك ائذن لي أن أكاتب بها ملوك خراسان»، إلا أنَّ هذا قولٌ ضعيف، ويُذكر أن علاقة سيف الدولة وأبي فراس كانت قد فسدت قبل أسره، وأن ذلك الفساد نشأ بسبب شجار نشب بين أبي فراس ونفر من الحمدانيين يظهر أن أبا فراس لم يكن ذا حقٍ فيه، لكنه أمل أن ينصره سيف الدولة بمبدأ (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) إلا أن سيف الدولة لم يكن عند أمله. يقول الشاعر:

قد كنـتَ عدّتـي التي أسطو بهـا ♦♦♦♦ ويـدي إذا اشتـد الزمان وساعـدي

فـــرميت منــك بغيــر ما أملتــه ♦♦♦♦ والمـــرء يشــرق بالزلال البـــارد

ويغتاظ أبو فراس من الوشاة المتشبثين بأُذنيِّ سيف الدولة يرمونه بالتهم ويوغرون صدر ابن عمِّه، فيقول مُحَذِرًا:

بـني عمِّنا لا تنشبوا الحربَ بيننا ♦♦♦♦ بــني عمنـا لا تقطعـوا اليـدَ باليـدِ

ويقول مُهَدِّدًا:

وعندي من الأخبار ما لو ذكرته ♦♦♦♦ إذن قـــرع المغتــاب من ندمٍ سنّا

وفي الوقت ذاته لم يقم أبو فراس بشيء يلين به جانب ابن عمِّه تجاهه، وإزالة ما همس به الوشاة والحساد، واعتزَّ بنفسه أن يبرر ذلك، بل قد صدَّ صدودًا عن ابن عمِّه وأمثلة ذلك كثيرة في شعره، منها ما ذكر أن سيف الدولة استعرض خيله أمام نفر من بني حمدان ورغب أن يأخذ كل من الحاضرين الفرس الذي يشتهيه، وكان أبو فراس حاضرًا وقد أعرض عن ابن عمِّه وامتنع عن تلبية رغبته، وقال في ذلك:

غيري يغيـــره الفعـــال الجـــافــي ♦♦♦♦ ويحـــول عــن شيــم الكــريم الــوافـي

لا أرتــضــي ودًّا إذا هو لــم يــدم ♦♦♦♦ عنــد الجفــاء وقــلـــة الانــصـــافِ

ويظهر لنا أن الشاعر في هذين البيتين يعرض بسيف الدولة، ويعتز ويترفع بنفسه، وهكذا تفشى الفساد في تلك العلاقة. ومن هذا يمكننا أن نلمح أنَّ الفساد في العلاقة كان بسبب طموح أبي فراس للملك، وإدراك سيف الدولة ذلك، وصراحة أبي فراس الفجة، ومخالفته لآراء قومه مرَّاتٍ كثيرة.

أسره

وردت روايات كثيرة في أسر أبي فراس، فرواية تذكر أسره مرة واحدة، بينا تزعم أخرى أسره مرتين، فيقول ابن خلكان أن أبا فراس أسر مرتين؛ فالمرة الأولى بمغارة الكحل في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، ولم يتعدَّوا به خرشنة، وهذه هي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها، وفي هذه الرواية تأتي الخرافة إذ يقال إنه ركب فرسه وركضه برجله فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات. (ابن خلكان: ص 59)

أمَّا الثعالبي فقد أخبر في يتيمة الدهر أن أبا فراس لم يؤسر غير مرة. ويذكر أن أسره كان بعد أن أصيب بسهم في فخذه، وكان قد خرج في سبعين رجلًا، في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، على مقربة من منبج فهاجمه ألف فارسٍ رومي، فأشار عليه من معه بالانسحاب لعدم تكافؤ العدد لكنه أبى ذلك ورأى في الفرار عيبًا، وأقدم على الموت بيد أنه لم يحز المنية بعد أن أصيب؛ إذ أسعفه الروم إلى خرشنة، ثم إلى قسطنطينية. ويُذْكَر أنه عُومل في خرشنة معاملة سيئة فكان سجنه ضيقًا، وكان ثوبه من الصوف الخشن، وكان مكبَّلًا بالحديد؛ إلا أنه لما نُقل إلى القسطنطينية لاقى معاملة حسنة، إذ أفرد له دار وكان له خدم، ويُذكر أن الروم كانوا إذا رأوه طأطأوا رؤوسهم إعظامًا له:

إذا عاينتني الروم كفَّر صيدها ♦♦♦♦ كأنهم أسرى لديَّ وفي كبلي

كما يقول مفاخرًا:

يمنُّون أن خلوا ثيابي، وإنما ♦♦♦♦ علـــيَّ ثيابٌ من دمائهم حُمْــرُ

وقائم سيفٍ فيـهم اندق نصـلهُ ♦♦♦♦ وأعقــاب رُمحٍ فيهم حُطِّمَ الصَّدْرُ

وفي هذا الأسر ظهرت رومياته شكوى من الأسر والمرض، وحنينه لأهله ودياره، ورفض سيف الدولة مفاداته، ولعل ذلك إلا مما كان من الخصام بينهما، وفساد العلاقة، إضافة إلى ما كان من شعور سيف الدولة إزاء ابن عمه إذ كان يخافه ولا يأمنه، فكان يراه طامعًا في الحكم. وتذكر الروايات أن سيف الدولة أراد أن يفتدي جميع أسرى المسلمين لا أن يفتدي أبا فراس وحده، لكن لمَّا عجز عن فعل الأولى فقد أعرض عن فعل الثانية أيضًا؛ لكن هذا لا يمنع التنبؤ أن سيف الدولة لم يرغب مطلقًا في إخراج ابن عمِّه من سجنه.

وكان خروجه من السجن على يده هو، إذ توسط بين قسطنطينية وحلب، وحمل سيف الدولة على مهادنة الروم وإعطاءهم مائتي ألف دينار مقابل أسرى المسلمين كلهم، وعاد شاعرنا بمن معه من المسلمين سنة خمس وخمسين وثلاثمائة للهجرة. ويذكر البعض أن سيف الدولة سرَّ أيما سرور بخروج ابن عمِّه، إلا أن حياة الأول لم تدم بعد ذلك، كما لم تطل حياة الثاني، فقد توفي سيف الدولة سنة ست وخمسين وثلاثمائة للهجرة، بينا قتل أبو فراس الحمداني سنة سبع وخمسين وثلاثمائة للهجرة، وتدور كثير من الحكايات حول مقتل أبي فراس كما هي الخرافات التي دارت حول أسره، إلا أن المتفق عليه أن أبا المعالي ابن سيف الدولة هو من قتله بعد أن شعر منه رغبة في السيطرة على الحكم، وانتزاع كرسي الإمارة منه بعد أن كان سيف الدولة قد أعطى ابن عمِّه أبا فراس حمص، فأراد هذا الأخير أن يستقل بها، فأرسل أبو المعالي حاجبه قرغويه فضرب رأسه ثم حمله وتركت الجثة في العراء حتى دفنها بعض الأعراب. (ابن خلكان: ص 61).

صفاته

وصفه الثعالبي بأنه كان مُتفرِّدًا في الأدب والفضل، والنبل والكرم، وكان فصيحًا بارعًا، وفارسًا شجاعًا، أمَّا من حيث الشكل فيذكر في شعره أنه كان طويلًا ضخمًا، تبدو على وجهه ملامح القوة، يقول:

متى تُخــلف الأيـامُ مثلــي لكــن فتًى ♦♦♦♦ طويــل نجـــاد الســيف رَحــبَ المقَّلــدِ

ويذكر في شعره أنه شاب في العشرين، ثم اشتعل رأسه شيبًا في أوائل الثلاثين:

ومـا زادت عليَّ العـــشــريــن سِـنّــي ♦♦♦♦ فــمــا عُــذْرُ المشــيــبِ إلى عِـذاري

وها أنـا قــد حلِّى الزمـــان مفارقــي ♦♦♦♦ وتوَّجــني بالشــيب تاجــًا مُرصَّعًــا

ويذكر طعنة خدِّه:

ما أنــسَ قَولتــهــنَّ يوم لقيــننــي: ♦♦♦♦ أزرى السِّنــان بوجــه هــذا البــائــسِ

بيد أنَّنا لا نجد هذه الصفات الفريدة في شعر المتنبي، بل إنه يصفه في إحدى قصائده أنَّه قصير، بطين، جاهل، مغرور؛ يقول:

أُعيذها نظراتٍ منـك صادقـــة ♦♦♦♦ أن تحسب الشحم في من شحـمه ورمُ

وجاهلٍ مدَّهُ في جهـله ضحكـي ♦♦♦♦ حتـى أتـــته يــــدٌ فرَّاســـة وفــــم

أما صفاته الخلقية فيمكننا أن نستخلصها من خلال شعره، فهو قوي، حازم، شجاع، أبيّ، صبور، جريء، وقور، كما هو بشوش، ودمث الأخلاق، لم يبطر بالغنى، ولم يبخل على المحتاجين لفقره؛ هو لم يكن فقيرًا إلا بالنسبة إلى مكانته التي تتطلب أموالًا كثيرة ينفقها، وكان يرى أن المال إنما هو لحماية العرض والسمعة:

وما حاجــتي للمــال بَغْــيُ وفــورهِ ♦♦♦♦ إذا لــم أفِــرْ عِــرضي فــلا وَفَــرَ الـــوَفْـرُ

وكان شعوره بالرابطة العربية واضح في شعره في عصر ساد فيه العنصر الأجنبي، بيد أن شعوره بالرابطة الإسلامية كان أقوى وأقرب، وكان شيعيًّا شأنه في ذلك شأن الحمدانيين كلهم إلا أن تشيعه كان بارزًا؛ والسبب في ذلك أن تشيع الحمدانيين لم يكن سوى مذهب سياسي لم يصل إلى اعتقادهم، فكان ولاءهم للعباسيين لمصالحهم، بينا كان تشيع أبي فراس ظاهرًا في شعره، لكن هل كان هذا التشيع حقًا أم مجرد تظاهر؟

وفي مسألة شجاعته، يصف بأعلى درجات الشجاعة التي تقع تحت باب التهور، فلم يكن يهاب الموت، ويعيبه البصير في ذلك ويذكر حادثة أسره ثلاث هفوات أولها مقاتلته للروم بسبعين رجلًا لا يأبوهن للدفاع عنه، ثم مجاهرته باسمه خلال تلك الواقعة ما أطمع الروم في أسره، وثالثها توسله وإلحاحه على سيف الدولة بالفداء؛ ويقول بعد ذلك إن إلحاحه ذاك «لا يقدم عليه رجل له مثل بطولة أبي فراس ورجوليته، فليس من شك أن صدور هذه الهفوات الثلاث عن أبي فراس يعني أن نصيبه من الأناة والروية وضبط النفس والصبر على المكروه لم يكن بالدرجة التي يصورها لنا شعره». (البصير: 1955، ص 405).

وفي الشاعر ميل إلى اللهو والعبث شأنه في ذلك شأن أبناء الملوك، لكن حياته كانت سلسلة من الحروب والغزوات، والأسر، فلم يكن لهوه هذا وعبثه إلا مما ينتهز من الفرص إذا ما سنحت له الظروف.

شعره

كان أبو فراس الحمداني يأنف أن يسمَّى شاعرًا، وكان يحب لنفسه لقب فارس، وأغلب الظن أن سبب ذلك هو انحطاط حرفة الشعر لإغراقها في التكسب، وهي على هذا مهنة أقرب إلى الشحاذة منها إلى الأدب. لكنه كان شاعرًا مطبوعًا، وجدانيًّا، وشعره صادق العاطفة، يقوله لنفسه، ولا يتخذه حرفة، والسبب في هذا معروف فهو أمير لا يتذلل لأحد ولا يمدح أحدًا تكسبًا، وشعره في معظمه يكاد يكون خالصًا لفنين: الفخر، والغزل. وغزله رقيق عفيف وبعضه صريح، وفخره شعر فخم ومتين يستخدم له البحور الطويلة، وله شعر في وصف الخمر والطبيعة يستخدم له البحور السريعة الخفيفة. وهنالك إخوانياته، وهنالك رومياته أيضًا، وهي تلك القصائد التي قالها وهو أسير الروم، وهي أصدق زفرة أسير، وأكثر شعره رقة وأكثره شكوى.

(1)  غزله

عرف أبو فراس الحمداني الحب وعانى آلامه، وهذا أمر مفروغ منه حين حديثنا عن أمير وشاعر أيضًا، يدرك الجمال ويعطيه حقه، ويذكر بعض غرامياته في شعره، يقول:

أساء فزادته الإساءة حظـوة ♦♦♦♦ حبيب على ما كان منه حبيـب

يعدُّ عليَّ الواشيان ذنــوبه ♦♦♦♦ ومـن أين للوجه الجميل ذنوبُ

وهو من ناحية الشكل يتخذ القالب الجاهلي، فيقف على الأطلال ويتذكر الماضي، ويصاحبه الألم والأمل، وأمَّا من حيث المضمون، فغزله جاف تقليدي لا يترقرق دمعه في حواشيه، حتى لكأنك تتساءل إذا كان أبو فراس قد عاش، حقًا، الحبَّ وقدَّره حق قدره، أم أن ذلك التجهم في وجه الحبيب ليس إلا من قبيل الكبرياء التي يتحلى بها الشاعر.

ويطيب لأبي فراس أن يتخذ قصائده الغزلية ستارًا لمشاعره الحقيقية كما في قصيدة (أراك عصي الدمع) الذي يزعم البعض أنَّها تدور حول سيف الدولة وموقفه من أسر الشاعر. ويستند أصحاب هذا الرأي في هذا التفسير إلى أن قول الشاعر (تسائلني من أنت وهي عليمة) إشارة إلى قول سيف الدولة: (ومن يعرفك بخراسان؟) حين عرض عليه سيف الدولة أن يكاتب خراسان طلبًا للفدية. وإذا استندنا إلى هذا الرأي، فبإمكاننا أن نجد معظم شكواه من المحبوبة شكوى من قومه وذويه، إلا أنَّ هذا النوع من الترميز جلي وواضح في قصائده ذوات البحور الطويلة، أمَّا ما رقَّ من قصائده فيمكننا فيها أن نسلم بحقيقة الغزل لا برمزيته. (البصير: 1955، ص 408. فروخ: 1945، ص 73).

قامــت إلى جــارتــها ♦♦♦♦ تشكـو بـذلٍ وشـَجا

أما تــرين ذا الــفـتــى ♦♦♦♦ مــرَّ بـنا ما عــرَّجـا

إن كـان ما ذاق الهـوى ♦♦♦♦ فـلا نجــوتُ إن نجا

أمَّا المرأة في شعره فهي تلك التي في أذهان الشعراء كلهم، ليس لها ما يميزها، فهي غزال وشمس وغصن، وريقها عسل، وشعرها ليل، وبياضها بدر، وأسنانها برد. إلا أنَّها ليست هركولة كما هي عند القدماء، وإنما هي قليلة السمنة يتحرك الوشاح على كتفيها لرشاقتها. وهو في غزله بالمذكر رقيق اللفظ خفيف الإيقاع، شبيه من حيث هذا بشعر أبي نواس ومن عاصره إلا أن شعره هذا عفيف وكأن أبا فراس لا يقصده على الرغم من إسرافه فيه؛ وهو يذكر غلمانه الثلاثة: فاتك، وصاف، ومنصور، في غزله وشعره كثيرًا، لا سيما الأخير منهم، ويشكو إليهم حاله.

وما يمكن ملاحظته هو أنَّ غزل أبي فراس المستهتر يأتي في مقاطع مستقلة، بينا يأتي غزله العفيف في قصائده الطوال، وكأن العفيف تقليدي، والمستهتر هو ما في نفسه الشابة. وكذلك الخمرة التي كان يتعاطاها تناسيًا للهوم:

وكنتُ إذا الهُمُوم تناوبتني ♦♦♦♦ فزعت من الهموم إلى العُقارِ

ويقول:

بَاتَتْ وبتُّ وبات الكأس ثالثنا ♦♦♦♦ إلى الصباحِ تُسقيني وأسقيها

(2)  مدحه

كرت في البداية أن أبا فراس كان شديد الاعتزاز بنفسه، كما أنه أمير يتخذ الشعر ألهوة لا للتكسب؛ لكنه كان يمتدح سيف الدولة ويغرق في مدحه كأنما هو في مدحه ابن عمه يمدح نفسه، فهو فخرٌ أكثر منه مدحًا. ويعبر عن هذا في شعره مخاطبًا سيف الدولة:

ولو لم يكن فخري وفخرك واحــدًا ♦♦♦♦ لما ســـار عني بالمدائــح سائــرُ

ومديحه هذا يصور رجولة ابن عمِّه، وكرمه، وبطولته، وشجاعته، وحروبه. وكأنما قصائده هذه قد سخرت لوصف سيف الدولة وبسالته في حروبه، وهي صورة صادقة لمجد سيف الدولة ودوره في التاريخ. كما مدح عشيرته لكنه في هذا ليس مدَّاحًا وإنما مفاخر:

نطقتُ بفضلي، وامتـدحت عشـيرتي ♦♦♦♦ فــما أنــا مــدَّاحٌ ولا أنــا شاعـرُ

(3)  فخره

فخر أبي فراس هو أيضًا صورة وسجل يحشد بطولاته وآثاره، وهو يفخر فيه بنفسه، وبمآثر بقومه الحمدانيين، كما يذكر صفاته الخلقية المتضمنة الصلاح، والورع، والعفة، والإنصاف، وهو أحيانًا يصور الواقع بصورة حقيقة خالية من خيالات ومبالغات الشعراء، الأمر الذي يجعلنا لا نجحف حين نقول إن بعض الأبيات لم تكن سوى نصوص سردية أقرب إلى النثرية منها إلى الشعرية، لا ينظمها إلا القافية. وما عدا تلك النصوص السردية التي كانت وصفًا للحوادث، فإننا نقف أمام نوع من الفخر القبلي الذي يعود بنا إلى أيام الأمويين والجاهليين، فنحن نعلم أنَّ العصر العباسي جمع بين شتى الأعراق، وكادت لفظة القبيلة أن تختفي، كما مال العنصر العربي في الشعر إلى الصمت، والعربي هو صاحب الفخر. فهنا، في شعر أبي فراس، نجد الفخر بالنفس والفخر بالقبيلة:

لنا بيــتٌ علـى عُنـُق الثُّريــا ♦♦♦♦ بعـيدُ مـذاهـبِ الأطـنـاب سـامِ

تُـظلـله الـفـوارس بـالعـوالـي ♦♦♦♦ وتـفـرشـه الـولائــد بـالطـعـامِ

ويقول:

ألم ترنا أعزَّ الناسِ جارًا ♦♦♦♦ وأمنعهم وأمرعهم جَنابا

لنا الجبل المطلُّ على نِزارٍ ♦♦♦♦ حللنا النجد منه والهضابا

وقد علمت ربيعة، بل نزارٌ ♦♦♦♦ بأنًّا الرأس والنَّاسُ الذُّنابى

ويفخر بنفسه وبحلمه وأخلاقه:

ولمَّا أطعتُ الجهلَ والغيظَ ساعةً ♦♦♦♦ دعوتُ بِحِلمي: أيُّها الحِلمُ، أَقْبِلِ!

(4)  هجاؤه

ترفَّع أبو فراس الحمداني عن الهجاء كما ترفع عن المديح، ونقصد بالهجاء هنا الهجاء التكسبي كما قصدنا بالمديح ذلك، وهنا لا نعثر في ديوانه على هذا النوع، إلا أن هنالك هجاء واضح للروم وللقبائل العربية الثائرة، وهؤلاء هم الذين ما انفكَّ أبو فراس يحاربهم، وأمَّا هجاؤه للشيظمي فهجاء شخصي ينسلك في سلك ما كان من ابن الرومي وبشار، يقول:

في الشَّيظـمي غــثاثةٌ وخســاســة ♦♦♦♦ فإذا أردت الـكفَّ فيه تهذبـــا

كالطبل ليس بمـطــربٍ، حتى إذا ♦♦♦♦ كَــثُرَ اللِّــطام بجــانبيه أطــربا

ويسلك في سلك الهجاء الشخصي، ما كان بينه وبين الدمستق، حين قال: إنما أنتم – العرب – كتاب أصحاب أقلام، ولستم بأصحاب سيوف، ومن أين تعرفون العرب؟ فقال له أبو فراس: أترانا نطأ أرضك منذ ستين سنة بالسيوف أم بالأقلام؟ يقول:

أتزعمُ، يا ضخم اللغاديد، أننا، ♦♦♦♦ ونحن أسود الحربِ، لا نعرف الحربَ

(5)  إخوانياته

وهذا النوع الشعري يُظهر الشاب بين رفاقه وأصدقائه، بعيدًا عن تجهم بلاطات الحكم، وعن حماسة الحرب. وفي شعره هذا يخبر عن خدمته لصديقه، وأخلاق الصداقة التي يكاد يحوزها كلها، حتى إنه ليتمنى أن يسيء إليه صديقه ليقابله بالإحسان والغفران، وهذه صورةٌ شديدة المبالغة يرجو بها الشاعر تصوير نفسه مثالًا عاليًا للنبل والشهامة، يقول:

يجني الخليل فأستحلي جنايته ♦♦♦♦ حتــى أدلَّ على عفوي وإحساني

إذا خليلي لــم تكــثــر إســاءتـه ♦♦♦♦ فأيـن موقـــع إحســاني وغفراني

يجنــي عليَّ وأحنــو دائمًا أبـــدًا ♦♦♦♦ لا شـيء أحسن من حان على جانِ

(6)  رومياته

وهي أفضل ما أنتجه أبو فراس الحمداني، ويصفها البعض أنه زفرات نكبته، وفيها يؤرخ لأحداث أربع سنوات من الأسر، مما لقيه على أيدي الروم، وألمه من جراحه، وجزعه ورثاءه لأمِّه، يقول:

يا حسرة ما أكاد أحملها ♦♦♦♦ آخــــرها مزعــــج وأولــها

عليلة بالشـــام مفـــــردة ♦♦♦♦ باتت بأيدي العـــدى معللها

لولا العجــوزُ بمنــبِجٍ ♦♦♦♦ ما خفت أسبـــاب المنيــهْ

ولكان لي عمَّا سألــــــ ♦♦♦♦ ــــتُ من الفدا نفسُ أبية

وإلحاحه في طلب المفاداة من سيف الدولة، فيقول لمّا تأخر هذا الأخير عن مفاداته:

دعوتك للجفــنِ القريــحِ المُســهَّدِ ♦♦♦♦ لديَّ، وللـــنوم القليــلِ المشــرَّدِ

 كما يصور فيها ما أصابه والمسلمين في سجون الروم، إضافة إلى عتاب سيف الدولة، يقول لما أرسل إليه سيف الدولة (ومن يعرفك بخراسان؟) بعد أن أرسل يستأذنه في مراسلة أهل خراسان:

فــلا تنــسبنَّ إلـيَّ الخــمـــول، ♦♦♦♦ عليـــكَ أقمــتُ، فلـــم أغتــرب

وأصبحـت منـك، فإن كـان فضلُ ♦♦♦♦ وإن كــان نقـصٌ، فأنــت السبب

وإنَّ خــراســـــان إن أنــكـــرتْ ♦♦♦♦ عــلاي، فــقد عـــرفتـها حــلب

ورومياته في أغلبها عتاب لسيف الدولة يقصد فيه ترقيق قلبه وخطب وده لكنه يفشل في ذلك لطغيان عنصر الفخر بالنفس فيه. ومن أشهر ما أُثِر عنه في عتاب سيف الدولة:

فليتك تحلـو والحيـــاة مريرة ♦♦♦♦ وليتك ترى والأنام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ♦♦♦♦ وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هيــن ♦♦♦♦ وكل الذي فوق التراب ترابُ

ويتذكر أيام الشام، فينثني ألمًا وشوقًا، ويربط على قلبه بالشعر:

أقولُ، وقد ناحتْ بقربي حمامةٌ ♦♦♦♦ أيا جارتا! هل تشعرينَ بحالي

وبعد أن يرى إعراض قومه عنه في أيام محنته، يستثقل ذلك لكن خنزواته تأبى أن تذل فيذكر محاسنه ومآثره، ويذكر خسارتهم ببعده عنهم:

سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ♦♦♦♦ وفي الليلة الظلماء يفتقدُ البدرُ

ونحن نرى في هذا الأشعار الحالات التي يتقلب بينها أبو فراس في سجنه، فرومياته تتأرجح في إظهار قوة الشاعر وضعفه، وسخطه ورضاه، وصبره وجزعه، لكنها في عمومها أقرب إلى الضعف.

(7)  رثاؤه

لم يكن أبو فراس الحمداني صاحب رثاء على الرغم من أنه شاعر وجداني، ويتضح فشله في الرثاء من خلال محاولاته، فقد ماتت أخته فرثاها فلم يحسن، وماتت أخت سيف الدولة، فأراد رثاءها فكان ذلك مواساة لأخيها، ورثى ابن سيف الدولة فما تم له الإحسان، ومات سيف الدولة نفسه فلم يرثه قط، ولم يؤثر عنه شيء في ذلك. لكن ما سبب قصور قدرة أبي فراس عن ذلك إضافة إلى قصوره في الحكم على الرغم من أننا نذكر أنه شاعر عاطفي؟ يقول بطرس البستاني إن السبب في ذلك راجع إلى أنه فارس متعود على المخاطر الأمر الذي يجعله، بالضرورة، مستهينًا بالموت غير مرتاع له، ولا يجزع منه؛ فكان يستقبل مصائب الدهر بأنفة وكبرياء، وأكبر دليل على ذلك هو ذكره لدمعه العصي الذي الكبر بعض شيمه؛ لكن هذا لا يمنعنا من أن نقول إن امتناعه عن رثاء سيف الدولة إنما هو بسبب الوقيعة التي كانت بينهما. (البستاني، 1979، ص 369).

يقول معزيًّا سيف الدولة مصبِّرًا إيَّاه على وفاة أخته:

أوصيكَ بالحُزنِ، لا أوصيكَ بــالجَلَدِ ♦♦♦♦ جُلُّ المـــصاب عـــن التعنيـــف والفندِ

إني أجــلك أن تُـكفى بتــعــــزيةٍ ♦♦♦♦ عن خيــر مفتقــدٍ يا خيـــر مفتــقـــدِ

لغته وأسلوبه

لغة شعر أبي فراس لغة سهلة بسيطة، ليس فيها من الخشونة ما للشعر القديم، وليس فيها من التعقيد والقوة ما لمعاصره المتنبي، إلا أنَّه من أتباع المذهب الشامي الذي يهوى أصحابه التأنق في الألفاظ وتكلف البلاغة في أشعارهم، وكذلك تكلف المعاني، وهذا لا يظهر في شعره إلا كثورة لا تلبث أن تخمد فيتمثل الألفاظ البدوية في شعره متكلفًا، يقول:

وإذا الهُمُوم تكاثرت لم يفنها ♦♦♦♦ إلا المــذافِــرةُ الأمــونُ الجلعدُ

ولا يخلو شعره من هفوات قليلة بسيطة، يُذكر منها قول أبي فراس: (وأنت الذي أهديتني كل مقصدِ) ومكمن الخطأ أو الهفوة هو في استعمال كلمة أهدى بمعنى هدى، وكذلك جملة (ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر) فهي جملة لا تعبر عن المعنى، وإيراده (الحيا) مكان (الحياء)، واستخدامه بعض الكلمات الأجنبية ككلمة (بنج) التي تعني خمسة بالفارسية، وثمة ملمح عامي طفيف في ألفاظه، كما يلاحظ استخدامه لغة أكلوني البراغيث. فنحن، إذًا، في تسليمنا بوضوح تراكيب أبي فراس وسهولتها لا ننكر بعض الضعف أحيانًا، إلا أن هفواته القليلة هي من القلة ما يمنع زعم أن شعر أبي فراس ركيك رديء. والغالب في شعره هي الفصاحة، ومتانة السبك وجمال التعبير، بيد أنني أجد بعض أساليب الشاعر ركيكةً لا سيما في الأغراض الوصفية؛ إذ يرصف الكلمات جوار بعضها وروحه العاطفية بمنأى عنه لا تمنح شعره لونًا أو رائحة.

والبديع يظهر في شعره، لانتمائه للمذهب الشامي، بيد أنه غير متفش فيه كما هو الحال في شعر غيره، وعادة ما يرد جميلًا عفو الخاطر، ومن أروع ما أثر عنه في البديع الأبيات السابقة (فليتك تحلو والحياة مريرة).

ويرصع أبو فراس الحمداني شعره من حين لآخر بالأمثال والحكم أسلوبه في ذلك أسلوب الحكماء والنوابغ، لكننا رغم هذا لا ندري أهو تقليد للأسلوب العام، أم أنَّه أسلوب حياته وتفكيره الخاص؛ ورغم هذا يمكننا أن ندعي أنَّ بعض حكمه نتاج صراعاته في الحياة، يقول:

لعمرك مــا الأبصار تنفع أهلـــها ♦♦♦♦ إذا لم يــكن للمبصرين بصائر

إذا لم يكن ينجي الفرار من الردى ♦♦♦♦ على حالةٍ فالصبر أرجى وأحزمُ

وما أخوك الذي تدنو مناسبه ♦♦♦♦ لكن أخوك الذي تصفوه ضمائره

ومن أمثاله أيضًا: (إذا مُت عطشانًا فلا نزل القطر) و(وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر) و(للناس فيما يعشقون مذاهب).

وشعره قليل التشبيه، إلا أنه جميل الوقع في النفس حين وروده، وهو عادة موجود في الوصف، في نحو:

والبدر منتصف الضياء كأنـه ♦♦♦♦ مـتبــــسِّــمٌ بالكـــفِّ يستر فاه

والمـــــاء يفصـــلُ بين زهــ ♦♦♦♦ ــر والروض في الشــطين فصـــلا

كبســـاطٍ وشــــــيٍ جــــردت ♦♦♦♦ أيـــدي القيـــون علـــيه نصــلا

وهو شاعر طويل النفس، له اثنا عشر قصيدة طويلة، لكن طول نفسه ليس بطول غيره من الشعراء الذين سبقوه، وأطول قصائده ما يقول في مطلعها:

لعلَّ خيالَ العامرية زائرٌ ♦♦♦♦ فَيُسْعَدَ مهجور ويُسعدَ هَاجرُ

وعدد أبياتها مائتان وخمسة وعشرون بيتًا، بيد أنَّنا نلاحظ في هذه القصيدة أنَّ أبا فراس لم يحسن التخلص والتنقل بين الأغراض التي حشدها في قصيدته، فهي قصيدة غزلية، وحماسية، وعتابية، وفخرية، ومدحية، وتاريخية، وتتناوب هذه الأغراض في الظهور على طول القصيدة. ويعد هذا من عيوبه إضافة إلى تكرار المعاني في القصيدة الواحدة، بل ومجيئها باللفظ نفسه أحيانًا. إلا أنَّ قصائده في مجملها جاءت مخالفةً للقصائد في عصره، ولعل هذا راجع إلى «طبيعة الشاعر ورغبته في التجديد، والتصاقه بالحس الحضاري، وتفاعله مع معطيات حياة المرحلة في ظل ممارساته وصراعاته بأبعادها المختلفة». (دورة أبي فراس الحمداني: 2003، ص 103).

أبو فراس الحمداني وأبو الطيب المتنبي

يذكر محمد بن شريفة في مقدمة تحقيقه لديوان أبي فراس بشرح ابن خالويه أنَّ المتنبي كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس، وربما كان هذا سببًا في قلة الاهتمام بشعر أبي فراس، ويذكر أن ابن رشيق قد قال في كتابه العمدة: «أمَّا أبو الطيب فلم يذكر معه شاعر إلا أبو فراس وحده، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه»، ويذكر الثعالبي أن المتنبي كان يشهد لأبي فراس بالتقدم، ويتحامى جانبه، وهذا طبيعي، بل هذا ما لابد أن يكون، فكيف يهاجم شاعر بلاط أميرٍ، بيد أن ابن شريفة يذكر أن الاعتراف بشعرية أبي فراس هو حكم وشهادة له بجدارته، إلا أنَّه تعمَّد إغفال أبي فراس في كل قصيدة مدحية. ويذكر البعض أنَّ إغفال المتنبي مدح أبي فراس راجع إلى أمرين: أولهما، تعاظم المتنبي لنفسه ورؤيته أنَّ كل شاعر هو أقل منه، ولاسيما شاعر دونه سنًّا وخبرة، وشاعرية. وثانيهما، أن المتنبي إنما وفد إلى سيف الدولة ليغض من شأن أبي فراس، فكيف يمدح شاعرًا وينوه باسمه، علاوة على المنافسة التي كانت بينهما. وكثيرة هي الأبيات التي عرَّض فيها المتنبي بذكر أبي فراس وغضَّ من شأنه:

أفي كُلِّ يَـومٍ تـــحتَ ضبــني شُويــعرٌ ♦♦♦♦ ضَعيـــفٌ يقــاويني، قصــيرٌ يطاولُ

أعيذهــا نظـــرات مـــنك صـــادقـــة ♦♦♦♦ أن تحسب الشحـم في من شـحــمه ورمُ

وجـــاهلٍ مـــدَّهُ في جـهـــله ضحكـــي ♦♦♦♦ حتـــى أتــتــه يـــدٌ فــرَّاســــةٌ ودَمُ

خليـــليَّ، مـــا لا لا أرى غير شاعـرٍ ♦♦♦♦ فــكم مِنْهُــمِ الدَّعْوَى وَمِني القصــَائِـدُ

وثمة صلة بين أسلوبيَّ الشاعرين، فنحن حين نطالع ديوانيهما، ندرك تشابه النفس، كما تشابه المعاني والتراكيب، لكن لا يمكننا إرجاع ذلك إلى السرقات الشعرية؛ لتعاظم كل شاعر لنفسه، فأغلب الظن أنَّ التراكيب، والألفاظ، والمعاني كانت شائعة في بيئتهما، وتناولها كلٌ منهما بأسلوبه الخاص، ورغم هذا لا يمكننا الإنكار أنَّ أبا فراس قد تأثر بشعرية المتنبي الذي وفد حلب وهو في الخامسة والثلاثين بينا كان أبو فراس في التاسعة عشرة. كما لا يمكننا إغفال تشابه سمات الشخصية، والاعتداد بالنفس جليٌّ عند كليهما، إضافةً إلى الحب العميق الموجه لسيف الدولة، والذي حواه عتاب عند كليهما، فكأنهما اشتركا في الأغراض واشتركا في العواطف، وبالتالي اشتركا في التراكيب والمعاني. يقول أبو فراس معاتبًا سيف الدولة:

يئست من الإنصاف بيني وبينه ♦♦♦♦ ومن لي بالإنصاف والخصمُ يحكمُ

ويقول المتنبي:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي ♦♦♦♦ فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ

ويذكر ابن شريفة أنه في الوقت الذي اختصم الناس في شعر المتنبي لم يكن لأبي فراس إلا شيخه ابن خالويه، وإنما حمله على ذلك الاهتمام هو إعزازه لتلميذه.

نموذج تحليلي: قصيدة الحمامة الباكية

ذكرت من قبلُ أنَّ شعر أبي فراس وجدانيٌّ، يكاد يكون خاليًا من التشبيهات، إلا أنَّه صادقٌ. ونحن نعرف أن الشاعر يُخضع الحقائق لخياله ولعواطفه، فيخرجها مخرجًا آخر بينه وبين الواقع خيط، وهذا مما يجب على الشاعر فعله حين يجسد الواقع في شعره، فلا ينقله كما هو، ولا يمسخ صورته. ونحن نفصل دائمًا بين العقل والعاطفة، وبين اليقين العاطفي واليقين العقلي، كما نفصل بين الصدق والصدق الفني.

الصدق في الشعر الوجداني عالٍ جدًا لدرجة تصل به إلى التقريرية، وإبداع الشاعر وقدرته الفنية هي التي تمكنه من إسباغ الشعرية عليه وتجريده من جفاف الواقع والتقرير؛ والسؤال الحقيقي هنا: هل يستطيع المرء أن يعبر عن نفسه بصورة فنية في أقصى حالات انفعاله؟ الأرجح أن ذلك غير وارد، ويسلم كثير من النقاد بأن اللحظة الانفعالية تقريرية. وبناء على هذا: هل يكون الشعر الوجداني الجاف فنيًّا أصدق انفعالًا؟

نحن نعلم أن الشعر العربي يغرق في الغنائية، تلك الغنائية التي يصفها البعض بالأنانية في مجابهة الواقع بالذات المفردة، دون النظر إلى العالم، والعالم، في حقيقة الأمر، غائبٌ كليًا في الشعر الغنائي الذاتي الوجداني إلا ما سخَّره الشاعر لخدمة انفعالاته، وما دون ذلك لا يعنيه مطلقًا، فيكون هو موضوع الشعر والذات الشاعرة. والشعر الوجداني نوع من الاستغراق في الهموم والانفعالات وتصويرها، ويصفه إيليا الحاوي بأنه أقرب إلى السير الذاتية. (يليا الحاوي: ص 674).

 وبناءً على هذا نصنف شعر أبي فراس في هذا اللون، ولعله أبرز الشعراء الوجدانين والأكثر صدقًا وبعدًا عن البيان والبديع. وأغلب الظن أن هذا عائد إلى نشأته التي أغنته عن السؤال وعن التفنن في شعره رغبة في أثارة الإعجاب والتكسب، فلم يكن شعره في يده إلا ألهوة، يعبِّر به عمَّا يجيش في نفسه، وكان جيشانه العظيم في أسره، وتمثَّل في رومياته. يقول:

أَقُـولُ وَقَدْ نَاحَـتْ بِقُرْبِــي حَمَامَةٌ: ♦♦♦♦ أَيَا جَارتا! هَلْ تَشْعُرِينَ بِحَالِي؟

مُعَاذُ الهَوَى! مَا ذقتِ طَارقةَ النَّوى ♦♦♦♦ ولَا خطَرتْ مِنْك الهُمُومُ، بِبالِ!

أتحمِلُ مَحْــزونَ الفؤادِ قَــــــوادِمٌ ♦♦♦♦ عَلَى غُصْنٍ نائي المسافةِ، عَالِي؟

أَيَا جَارتَا مَا أَنْصَفَ الدَّهْرُ بَيْنَنَــا: ♦♦♦♦ تَعَالِي أُقَاسِمُكِ الهُمُومَ، تَعَالِي!

تَعَالِي تَرَي رُوحًا لديَّ ضَعِــــيفَةً ♦♦♦♦ تَـرَدَّدَ فِي جِسْمٍ يُعَذَّبُ، بَالِي!

أَيَضْحَكُ مَأسُورٌ وَتَبْكِي طَلِــيقَـــةٌ، ♦♦♦♦ وَيَسْكُتُ مَحْزُونٌ، وَيَنْدُبُ سَالِي!

لَقَدْ كُنْتُ أَوْلَى مِنْكِ بِالــدَّمْعِ مُقْلَةً ♦♦♦♦ وَلَكِنَّ دَمْعِي فِي الحَوَادِثِ غَالِي!

هذه القصيدة من البحر الطويل، وقافيتها اللام المكسورة. وهي تبدو من اللحظة الأولى زفرة عميقة من الفارس الذي اعتاد صهوة جواده ومقبض سيفه ليجد الدهر يرمي به إلى سجون الروم، بعيدًا عن أهله ورفاقه، وبلده، ومعرَّضًا لصدمة خيانة ابن عمِّه له، لكنه على الرغم من هذا لا يبك مطلقًا، وكم مرَّةً قد جاهر بصبره وعدم استسلامه للجزع وعن امتناع دمعته، ألم يقل عن نفسه إنه (عصي الدمع) وإنه لا يبكي إلا حين يلف الليل الدنيا، فيبسط شكواه وألمه ممتزجًا بدموع الألم. في هذه القصيدة ينسجم الشاعر مع ما حوله في الطبيعة، وقد ذكرت سابقًا ما يتفنن الشاعر الغنائي في عمله: وهو تسخير كل ما حوله لبث مشاعره، والتعبير عن ذاته، وهذا ما حضر بشكل كبير في أشعار المدرسة الرومانسية. ففي هذه القصيدة نرى الصدق، ونرى المعادل الموضوعي وهو الحمامة، ومخاطبة الشاعر لها أصدق دليل على ما يشعر به من الوحدة.

هنا تصبح الحمامة هي ذات الشاعر، فهي بعيدة، تنوح، وتصبح وسيلة الشاعر الخارجية للتعبير عن حالة داخلية، وهو يعقد بينه وبينها مقارنة ويلومها، ويتمنى أن يكون مكانها. ففي البيت الأول نراه يركز على ما سيقوله، على الألم الذي سيعبر عنه، وكأنه بهذا التركيز على (أقول) التي يبتدئ بها قصيدته، يركز على رأيه في كل ما يتمثل من حوله، وعن نظرته للحياة في أسره. ثم يذكر نواح الحمامة، وهو هنا يسقط نظرته وألمه على كل شيء، فهل كانت الحمامة تنوح فعلًا أم أنه ليس إلا هديلها الذي رآه الشاعر نواحًا لحالته النفسية. والشعراء يلذ لهم أن يسقطوا أحزانهم وأفراحهم على كل تفاصيل الحياة، ويستغربون إذا ما ناقض الواقع ما في نفوسهم، فهم يرتبطون ارتباطًا حميميًا بالطبيعة حولهم:

أيا شجر الخابور ما لك مورقًا؟ ♦♦♦♦ كأنك لم تفزع على ابن طريفِ

والقصيدة تحوي ثنائية (الحرية/ الأسر) و(السعادة/ الهم). وهو في البداية يناديها بنداء البعيد على الرغم من ذكره قربها (وقد ناحت بقربي)، فكأن نداء البعيد هذا هو آهٍ طويلة، ثم يسألها هل امتد أساه وحسرته وألمه وهمَّه على الواقع حوله فلاحظته وشعرت به، فهو يخاطبها بمبدأ (تهون مصيبتك إذا رأيت مصيبة أخيك). فهو يسألها: لماذا تنوحين؟ انظر إليَّ أنا أشد ألمًا منك ولا أنوح! بل إنك تنعمين بالحرية ولا تقدرينها؟ والأجدر أن تغنيك الحرية عن أي أمرٍ يلمُّ بك.

وهو يقوم بما يقوم به الشعراء الذاتيون، فهم ينظرون إلى العالم نظرة جزئية، ويفرضون على الواقع تلك النظرة، فيربطون سعادة المرء وتعاسته بأمر مفرد. فيلومها (ما ذقت طارقة النوى) ويستمر في اللوم في البيت الثاني. وفي البيت الثالث يتمنى مكان تلك الحمامة، ويصف نفسه بـ (محزون الفؤاد)، وهو هنا يجعل الحمامة رمزًا للحرية والسعادة، ويجعل الغصن الناء هو بلده الذي انتزع منه إلى السجن، فيسأل: إذا امتلكت أجنحة هل سأصل إلى بلادي؟

ثم يطلق آهٍ أخرى في البيت الرابع تتضح في حرف النداء للبعيد (أيا) وفي الألف في (جارتا) التي نابت عن ياء المتكلم. وبعد ذلك يتوجه إليها بضيم وغيظ، فيقول مقالة المظلوم: (ما أنصف الدهر بيننا!) ثم يحاول أن ينصف هو فيقسم همومه بينه وبينها، فما دامت تنوح فلتحمل بعض همومه. ثم يشاركها ألمه ويفضي لها بما يعتصر فؤاده فيحدثها عن روحه الضعيفة، وجسمه المعذب، فكلاهما الروح والجسم معذبان. ثم يلومها ويقرعها أشد اللوم والتقريع فيسألها مستنكرًا: أأضحك وأنا أسير بينا تبكين وأنت طليقة؟ وأنا أسكت على الرغم من حزني بينا تندبين وتنوحين وأنت خالية من الهم؟ فهو هنا يغفل كل شيء، ولا يجعل إلا (الحرية) هي سبب الحزن والسعادة، ثم يخبرها عن أحقيته في البكاء لكن دمعه غالٍ جدًا، وهو لا يمكن أن يفرط فيه بسكبه، كما لا يمكن أن يهينه أمام الأشهاد. والقافية المكسورة في القصيدة كأنها تعبر عن انكسار داخلي للشاعر، وكأنه ختام لتلك الآه الممدودة في بداية الأبيات، تختم بانكسار داخلي.

يقول الحاوي في هذه القصيدة إن تجربة أبي فراس قاصرة، فهو يرى أنه بمفرده في السجن، وأن الحياة كلها سجن كبير ما دام هو خلف القضبان؛ ولا أتفق معه في هذا؛ فالشاعر في القصيدة ينكر على الحمامة نواحها ويطلب منها أن تتمتع بالحياة، وأن تنعم بحريتها، صحيح أنه ركَّز على نفسه وعلى الحرية فليس ثمة سواهما في النص، فالحمامة إنما هي رمز الحرية، وهو يخاطبها ويتمناها.

ذكرت من قبل أن أبا فراس بعيد عن التشبيهات والاستعارات، وهو يعتمد على الفكرة في إيصال موضوعه، ومن هنا نستطيع أن نزعم أنه شاعر انفعال لا شاعر خيال، وأن انفعالاته خلال أبياته أقرب إلى التقرير منه إلى التصوير. لكن هذا الانفعال صادق، وهذا الصدق هو الباعث الأول للتجربة الشعرية، وهذه البساطة تشف عن ما في النفس، وهي أقرب إلى السرد منها إلى الشعر – كما ذكرت سابقًا – ولا نجد فيها ما يصعب على الفهم. وفي هذا يقول الحاوي: «ولئن تفوّق على معظم الشعراء العرب بعامل الصدق، فهو يقصّر عنهم بالتكنية الفنية التي أسرفوا في اعتمادها حتى غدت مبالغة أسطورية في شعر المتنبي، وبديعًا لفظيًا وفكريًا في شعر أبي تمام، وانهاكًا للمعنى وقتلًا له في شعر ابن الرومي» ثم يجعل شعره أقرب إلى شعر الجاهليين. (إيليا الحاوي: 676).

وأضيف إلى هذا أن تشبيهات أبي فراس قريبة كما استعاراته، ولا تحتاج مطلقًا إلى إعمال الذهن لإيجاد وجه الشبه، بل هي قريبة إلى تشبيهات الطفل، والإنسان البسيط، وهذا الحكم لا يعمم على كل تشبيهاته، فربما لم يشمل بصري كل تشبيهاته. وقد أرجعت السبب - في ما سبق - إلى كونه أميرًا فلم يعن بتزيين لفظه ولا تجميل بديعه وصوره وأخيلته ليحظى بحظوة في قلب الممدوح أو غيره.


المصادر والمراجع

- أبو فراس، فارس بني حمدان وشاعرهم، عمر فروخ، مكتبة ميمنة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1945.

- أبو فراس الحمداني وشعره في المصادر والمراجع العربية والأجنبية، عبد الله بنصر العلوي، محمد الدناي، عبد العزيز محمد جمعة، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، 2000.

- أدباء العرب في الأعصر العباسية، بطرس البستاني، دار الجيل، بيروت، 1979.

- الأدب العربي في العصر العباسي، ناظم رشيد، مديرية دار الكتب والنشر، الموصل، 1989.

- تاريخ الأدب العربي، الجزء الثاني، كارل بروكلمان نقل: عبد الحليم النجار، دار المعارف، الطبعة الخامسة.

- تاريخ الأدب العربي، الأعصر العباسية، الأدب المحدث: إلى آخر القرن الرابع الهجري، عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة 1981.

- دورة (أبو فراس الحمداني) أبحاث الندوة ووقائعها، مجموعة من الكتاب، مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، الطبعة الثانية، 2003.

- شرح ديوان أبي فراس الحمداني، ابن خالويه، إعداد محمد بن شريفة، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، 2000.

- في الأدب العباسي، محمد مهدي البصير، مطبعة السعدي، بغداد، الطبعة الثانية، 1955.

- نماذج في النقد الأدبي وتحليل النصوص، إيليا الحاوي، دار الكتب اللبناني، بيروت، الطبعة الثالثة، 1969.

- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، الجزء الثاني، أبي العباس شمس الدين خلكان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1978.

-  يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، الجزء الأول، أبي منصور عبد الملك الثعالبي النيسابوري، تحقيق: مفيد محمّد قميحه، دار الكتب العالمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1983.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@