أدب المنامات – المفهوم والبنية

أدب المنامات - المفهوم والبنية

هاجر منصور سراج 

3 أغسطس، 2024


يؤمن كثير من الناس بالأحلام، ويعتقدون بتحققها إذ تمثل لهم رسالة إلهيةً مشبعةً بالدلالات، الأمر الذي يحدو بالإنسان إلى الوقوف منها موقف المتسائل، وارتباط الأحلام بالواقع هو ما أضفى حلَّة القداسة على ما يراه النائم من الرؤى، وهذا التعلق والتقديس لا يرتبط بالإسلام وإنما بالوجود الإنساني كله. والتراث العربي يزخر بأخبار المنام، ويعد منام الوهراني أكثر المنامات شهرة، ويذكر الصفدي أن الوهراني «سلك فيه مسلك أبي العلاء المعري في رسالة الغفران لكنه ألطف مقصدًا وأعذب عبارة»، ولعل الشبه بينهما عائد إلى مسألة الحساب والعقاب يوم الحشر، إذ لا يسرد المنام مجردًا مما حوله، أو مشبعًا بالشخصيات الخيالية، بل تحشد الشخصيات الواقعية ليوم الحشر الذي يتراءى في المنام. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن هذا النوع من المنامات إنما هو تجلٍ للواقع الضبابي، ورغبة في كشف المحجوب، وإن أولئك الذين كتبوا في المنام قد اندفعوا إلى ذلك برغبة عارمة في كشف المجهول. (الصفدي: ص274).

نقف إذن أمام نصوص سردية ظهرت على امتداد الإطار التاريخي الذي نحدده بـ (الإسلام) يبتدئ التأريخ مذ عهد الرسول (ص) بتمييز بين الرؤيا والحلم، الأمر الذي يتطور إلى تمييز بين النص واللانص، وظهور هذا النوع كمصنفات منفردة.

الجذر اللغوي

في الحديث عن المنامات في الجذر اللغوي، نجد أنفسنا أمام ثلاث كلمات، هي: المنام، الرؤيا، الحلم. أما في مادة (ن و م) فيقول ابن منظور: «المَنام والمنامة: موضع النوم» ويورد قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: 43] ففي تفسير هذه الآية، معنى المنام: العين؛ «لأن النوم هنالك يكون»، وقد ذهب كثيرون إلى هذا المعنى، فيقال: «إذ يريكهم اللهُ في موضع منامك أي في عينك، ثم حذف الموضع وأقام المنام مقامه»، ثم يذكر ما جاء في التفسير أن النبي (ص)  رآهم في النوم قليلًا وقصَّ الرؤيا على أصحابه فقالوا: «صدقت رؤياك يا رسول الله». ثم يذكر أنه أسوغ في العربية إذ جاء ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيِنُهِمْ﴾ [الأنفال: 44] فدلَّ بهذه على رؤية الالتقاء، وما سبق على رؤية النوم. ويذكر المنام حيث يقوم النوم؛ الدكان، والمنامة ثوب يُنام فيه، القطيفة. ويذكر صاحب تاج العروس ذات الشيء الذي يذكره ابن منظور وقد أورد كلامها كلام علي بن أبي طالب «دخل علي الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا على المنامة» وفي حين أرجع ابن منظور المعنى إلى كلا التفسيرين: ثياب النوم، ومكان النوم؛ فقد اكتفى الزبيدي بإرجاع المعنى إلى الدُّكان.

أما لفظة الرؤيا فنجدها في مادة (ر أ ي) في لسان العرب، ويورد فيه ابن منظور قول ابن سيده: الرؤيةُ النظر بالعين والقلب. ويورد «إني أرى في المنام» ويذكر صاحب تاج العروس لفظة (رؤيا) بمعنى الحلم. كما قال صاحب معجم محيط المحيط أن الرؤية رؤية العين ورأيا القلب، وأن الرؤيا ما يُرى في المنام، وهي مختصة بالنوم رأيا القلب، أما رؤية فمختصة بالصحو، رؤية العين.

أما لفظة (حلم) ففي مادة (ح ل م) فيذكر لسان العرب أن الحلم هو الرؤيا، وحلم يحلم إذا رأى في المنام ويذكر صاحب تاج العروس ذات الشي: (الحلم: الرؤيا)، مترادفان ويتفق معهما صاحب معجم محيط المحيط.

ويميز لسان العرب وتاج العروس بين الحلم والرؤيا، فيوردان قول: أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوءة، والنبوة لا تكون إلا وحيًا، والكاذب في رؤياه يدعي أن الله أراه ما لم يُره، وأعطاه جزءًا من النبوة ولم يعطه إياه، والكاذب على الله أعظم فرية ممن كذب على الخلق أو على نفسه. وجاء في الحديث: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان». وغلبت الرؤيا على ما يراه المرء من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشر والقبيح، وفي هذا يقال: أضغاث أحلام. ويمكن استعمال كل منهما موضع الآخر.. وتذكر دعد الناصر أن هذا التمييز بين الكلمتين منطلق من منظور عرفي اصطلاحي لا لغوي وذكر الزمخشري في مادة (ن و م): ورأى في المنام كذا، وفلان يَرَوْن له المنامات الحسنة. (الناصر: 2008، ص 10).

المنامات في الموروث الإسلامي

حضر ذكر الرؤيا والأحلام في القرآن والحديث، ما شدَّد على أهمية المنام عند المسلمين، ففي القرآن الكريم، ذُكرت لفظة (رؤيا) ستَّ مرات، وكلها تعبر عن الرؤيا المنامية عدا مرة، ثلاث مرات في سورة يوسف، ومرة في سورة الصافات وأخرى في سورة الفتح؛ وجاءت بمعنى رؤية العين في سورة الإسراء، في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾. [الإسراء: 60]، ففي تفسير هذه الآية قيل إنها الرؤية لبيت المقدس في رحلة الإسراء والمعراج، وقيل إنها الرؤيا التي رآها الرسول محلقين رؤوسهم ومقصرين عام الحديبة فافتتن جماعة من الناس، وعلى هذا التفسير تكون رؤية منام. (النَّحَّاس: ص 341).

وقد احتفلت سورة يوسف بالرؤيا، هذا إذا لم نقل إنها قامت على أساس رؤيا تشظَّت منها رؤًى أخرى، ففي الآية الرابعة من السورة يخبر يوسف أباه برؤياه فينهاه أبوه عن إخبار إخوته، ثم ما كان من رؤيا صاحبيّ يوسف في السجن، ورؤية عزيز مصر؛ وكلها رؤى منامية مستقبلية محققة.

وما جاء في سورة الصافات خطاب لإبراهيم: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا...﴾ [الصافات: 105] تعقيبًا على ما كان من إبراهيم وإسماعيل: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنَّي أَذْبَحُكَ... قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات، 102]. في هذه الآية شاهدان: الأول: رؤية إبراهيم - عليه السلام - المحمَّلة بالرمز، والثاني: في تصديق إبراهيم للرؤيا وإذعان إسماعيل دون أي جدال، وهذا يمثل الخضوع لأمر الله، ما يؤكد أن الرؤيا وحي من الله.

أما ما جاء في سورة الفتح: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرِّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ...﴾. [الفتح: 27]، فتأتي لفظة (الصدق) و(الرؤيا) هنا في آية واحدة مؤكدة ما كان من أمر التصديق للرؤيا.

أما لفظة (منام) فقد ذكرت في القرآن أربع مرات، في سورة الأنفال والروم، والصافات، والزمر. أما في الأولى فهي بمعنى رؤيا المنام، وأما الثانية فوردت بمعنى النوم، وأما الثالثة فما جاء في قول إبراهيم، وأتت الرابعة أيضًا بمعنى النوم.

أما لفظة (حلم) فقد وردت أربع مرات في القرآن على صيغة الجمع، وردت مرتين في سورة يوسف ومرة في سورة الأنبياء وأخرى في سورة الطور. أما في سورة يوسف فقد وردت مرتين في آية واحدة: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف: 44]، ووردت في سورة الأنبياء: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ اِفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ...﴾ [الأنبياء: 5]، وفي سورة الطور: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الطور: 32]. وفي الآيات الثلاث نرى تكذيب هذا النوع من المشاهد المنامية، ويؤكده ما روي عن الرسول من أن الحلم من الشيطان.

ومن خلال ما ذكرنا نخلص إلى أن القرآن حكى الرؤى مع الأنبياء، فهي مرتبطة بالوحي الذي هو في ذاته أمر من الله لا بد من تنفيذه فهو مرتبط بالصدق بينا ارتبط الحلم بالكذب. 

أما في الحديث النبوي فيطالعنا ما قالته عائشة في شأن الوحي، وهو ما يؤكد حقيقة الرؤيا النبوية: «أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح...» ويذكر الرسول(ص) بقاء المبشرات من النبوة، فيسله من حوله: «وما المبشرات؟ فيجيب: الرؤيا الصالحة».

فما يراه النائم يحظى بالتقديس لأنه يشكل جزءًا من النبوة، ولعناية الرسول بالمنام، إذ يذكر في صحيح البخاري أنه كان يسأل أصحابه عن مناماتهم ثم يؤولها، وكان هذا الحديث يقتضي تحويل المشهد البصري الخاص بالفرد إلى حكاية يسمعها أي شخص، الأمر الذي هيأ لكتابتها متأخرًا. وقد جاء في صحيح مسلم تصنيف الرسول (ص) الأحلام إلى ثلاثة: «رؤيا صالحة وهي بشرى من الله، ورؤيا حزن من الشيطان، ورؤيا مما يحدِّث المرء نفسه»، وعلى الاعتبار الديني ظهرت آداب النوم، وآداب المنام، فعلى النائم أن يتخذ وضعًا معينًا، وأن يلتزم السنن، وأن يذكر الله، وإذا رأى حلمًا من الشيطان، فعليه بذكر الله والتعوذ به من الشيطان، واتخاذ وضعية أخرى... وإلى غير ذلك مما ورد في الروايات، ثم على الرائي أن يحدِّث برؤياه الحسنة فلا يكذب فيها، وأن ينصرف عن ذكر الرؤيا السيئة؛ ويعتبر الكذب في الرؤيا ادعاءً على الله.

ومن هذا نرى أن الإسلام اهتم بالرؤيا وتأويلها؛ فعُني بالرائي وحاله، والرؤيا وصدقها وأنواعها، واجتناب السيء منها، وعني بالمتلقي المؤول، وبضرورة التأويل.

مفهوم المنامات

هو لون سردي يحكي أحداثًا ومشاهدًا ظهرت لشخص في نومه، يفتتح بـ (رأى في المنام، رأى فيما يرى النائم، أخذته سنة من النوم فرأى...).

يمكننا وصف المنامات بالنصوص العجائبية نظرًا للزمن العجائبي المتحقق في الحلم، وهو عجائبي لما يتسم به من الرمزية واللغزية، الأمر الذي تتولد عنه الحيرة؛ ويذكر رشيد أن منام الوهراني الكبير اُعتبر نصًا عجائبيًا لأنه كان نصًا امتزج فيه الواقع بالخيال، والممكن بالمستحيل، والمعقول باللامعقول، والمرغوب بالممنوع، علاوة على أن أحداثه الغريبة تجري في عالم آخر «عبر سلسلة من المشاهد المتتالية المتسارعة والصور المتشظية والحركة السريعة لشخصياته المعروفة والمغمورة في فضاء مكاني مفتوح يتلاشى فيه الزمن»، إلا أن الحكم بالعجائبية لا يسقط على كل المنامات، وقد ذكرت دوغلاس عجائبية النص وميزت بين (الرمزي/ والمباشر). ويربط كيليطو بينه وبين الخرافة من زاوية الليل، فيرى أن الخرافة والحلم سيَّان، «ذلك أن من يصغي إلى خرافة يستسلم كما يفعل الحالم للأوهام فيصدق ما لا يجوز تصديقه، وينغمس في بحر من الصور الكاذبة»، كما يرى كيليطو عجز النائم عن تمييز الواقع من الحلم. (ضياء الكعبي: 2005، ص72. علاء الدين رشيد: 2012، ص4. دوغلاس: 1985، ص152. كيليطو: 2007، ص10)

ولا ينفصل المنام عن الواقع بل يرتبط به كل الارتباط، فيستشرف المستقبل، أو يخبر عن الجزاء، أو يأمر الرائي بأمر ينفذ في الواقع؛ وقد ذكرت دغلاوس تنبؤ الحلم بالمستقبل، وميزت بين الرؤية والأضغاث، وذكرت رمزيته ووجوب تأويله. (دوغلاس: 1985، ص 152).

وفي شأن النصية واللانصية، يُطرح هذا السؤال أولًا، كيف نفرق بين النص واللانص؟ وكيف يصبح القول نصًا؟ يجيب كيليطو على هذا السؤال بأن القول يتضمن مدلولًا لغويًا، فإذا تضمن القول مدلولًا آخر، مدلول ثقافي يترك أثرًا وله قيمة فإنه نص، فيتميز بتنظيم فريد بعيد كل البعد عن اللانصية، وهو غامض وبالضرورة يستدعي التأويل والتفسير؛ وأما ما ليس نصًا فما تضمن مدلولًا لغويًا ولا شيء آخر، تنظيم لغوي ولا يستنبط من خلاله أي مدلول ثقافي، ولا يحظى بأي تفسير، أو تأويل، أو اهتمام. وقد أشار يقطين في حديثه عن النصية واللانصية إلى ما جاء في كتاب المعيار المعرّب من رأي في من يطالع النصوص الخالية من الفائدة المتمثلة في ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، ودلهمة (ذات الهمة)؛ وذكر أن مقياس النصية هو المنفعة والإفادة؛ فقيام النصية واللانصية على اعتبار القيم الدينية (الصدق والكذب؛ الجد والهزل؛ الحق والباطل)، والشأن في هذا شأن الجدل في صدق الشعر وكذبه، وهو جدل بين قيمتي الحق والباطل، ويذكر يقطين في الكلام والخبر أن تفاوت القيم في المجتمع هو ما أنشأ أصناف المتكلمين وأنواع الكلام، فالقيم الإيجابية المقبولة (نص)، وما دون ذلك (لانص). وهذا التمييز أفضى إلى أن تصبح المنامات التي هي أحلام لانصًا، والمنامات التي هي رؤى نصًا. (كيليطو: 2006، ص 19. سعيد يقطين: 1997، ص47 وما بعدها.)

أرى أن المنامات دخلت نطاق النصية بفعل التأثير الإسلامي، فكثير من المنامات تمثل فيها الرسول، فكان من غير المعقول وصف كلام يحضر فيه الرسول - وقد أكَّد على أنَّ رؤيته حق، وعلى أن الرؤية من الله -باللانصية، كما اتصف المنام بالنصية لحاجته للتأويل، وبقي التأويل محصورًا في الرؤيا، أما الأحلام فيذكر أن ابن سيرين لم يكن يؤولها بل يكتفي بتسليم الأمر كله لله خيرًا كان أو شرًا. ومن هنا جاء التمييز بين (الحلم/ اللانص) و(الرؤيا/النص) على الشكل التالي الذي يجمع المتناقضات:

الثقافة العالمة             ≠             الثقافة الشعبية

النص                          ≠             اللانص

الله                             ≠             الشيطان

الرؤيا                          ≠             الأحلام

الصدق                        ≠             الوهم

بنية المنامات

خضعت اللانصية لشروط النصية لتنضوي تحتها، وكما كان في شأن المقامات من السند كذلك كان في المنامات، فهي أخبار إلا أنها تحكي عن أحداث في عالم آخر. جاء في المعجم المفصل أن الخبر في الرواية: يطلق على الرواية التاريخية أو الرواية التي تتعلق بالتراجم، ولكن لا يمكن إطلاقها على قصة تنزع إلى الخيال. وإذا كانت المنامات نصوصًا عجائبية فلابد أنها تركن إلى الخيال، وعالم اللاوعي؛ والسؤال هنا: هل كل عجيب خارج عن النص؟ وهل تمكنت المنامات من الدخول إلى معقل الأخبار بسبب الشكل الذي اتخذت؟ أم بسبب مضمونه؟ أم تضافر الشكل والمضمون لإدخال المنام معقل النصية؟

يظهر الرسول (ص)  في منامات كثيرة، فيسأله الرائي، أو يخبر الرسول الرائي شيئًا، كالذي ورد أن رجلًا سأل الرسول في المنام عن نومه في المسجد وهو قاعد وضرورة الوضوء، فيجيبه الرسول أن الوضوء على من اضطجع ونام. ويذكر كتاب الحافظ ابن أبي الدنيا في خبر قتل الحسين: «حدثنا أبو بكر نا عبد الله بن محمد بن هانئ أبو عبد الرحمن النحوي نا مُطرِّف بن سليمان نا علي بن زيد بن جُدعان، قال: استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع وقال: قُتل الحسين والله، فقال أصحابه حلًا يا ابن عباس، قال: رأيت رسول الله (ص) ومعه زجاجة من دم فقال: «لا يعلم ما صنعت أمتي من بعدي قتلوا ابني الحسين، وهذا دمه، ودماء أصحابه، أرفعها إلى الله عز وجل»، قال: فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه، وتلك الساعة، فما لبثوا إلا أربعة وعشرين يومًا، حتى جاءهم خبر بالمدينة أنه قتل ذلك اليوم، وتلك الساعة». (منامات الحافظ: ص 91).

وقد يظهر ملك من الملائكة فيسأل عن حدث كما جاء في منامات الحافظ من أن أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل سأل ملكًا عن أهل الجمل فقال: «فئتان مؤمنتان اقتتلوا»، فسأله عن أهل صفين، فقال: «فئتان مؤمنتان اقتتلوا». فسأله عن أهل النهروان، فقال: «خلعوا إمامهم ونكثوا بيعتهم، فلقوا ترحًا». وقد يرى الرائي أبا بكر أو عمر أو علي، ولعل عليَّا هو أكثر من ظهر في المنامات، والسبب في هذا واضح في الأحداث التاريخية وموقف المسلمين من عليّ. وفي هذه القضية تذكر رؤيا إبراهيم بن المهدي للإمام عليّ وإخباره أنهم أحق منه بالأمر فما رد عليه إلا بـ: (سلامًا سلامًا!). (المصدر السابق: 145).

وقد يظهر في المنام هاتف مجهول، من مثل ما جاء في منامات الحافظ راويًا منام عمر بن عبد العزيز، يقول: «رأيت فيما يرى النائم كأني دفعت إلى أرض خضراء واسعة...» ثم يرى مناديًا ينادي الخلفاء الأربعة ثم يناديه فيجلس إلى جوار عمر ثم يسمع هاتف، يقول: «فسمعت هاتفًا يهتف، وبيني وبينه حجب من نور: يا عمر بن عبد العزيز، تمسك بما أنت عليه، واثبت على ما أنت عليه...». (منامات الحافظ: ص 89).

ولا يغيب عن الذهن تلك المنامات التي ترد في الكتب بغزارة، والتي تتمحور حول ظهور بعض الأموات في المنام أو يرى أحدًا من الصالحين فيخبره شيئًا، أو يطلب شيئًا من الحي، أو يوجهه إلى مكان، أو يسأله عن شيء. وقد يرى النائم أنه في الجنة ويرى شخصًا أو فئة، أو يرى نفسه في النار ويرى من دخلها؛ ويذكرنا هذا برسالة الغفران التي تجلت فيها قضية الغفران كل التجلي. وأذكر هنا الوهراني الذي يقف يوم القيامة أمام فلان وفلان من الناس مصرحًا بأسمائهم وأعمالهم، غير موارٍ سوءته هو الآخر، ويعبر عن آرائه الاجتماعية، كما فعل مع الصوفية إذ ذكر أنه رأى الرسول في موكب عظيم والناس من حوله يبكون يستغيثون ويطلبون الشفاعة، وهو يسير حتى ينتهي إلى شاطئ المشرعة فيتقدم الصوفية «وعلى أيديهم الأمشاط وأخلة الأسنان وقدموها بين يديه، فقال الرسول (ص) من هؤلاء؟ فقيل له: هؤلاء قوم من أمتك، غلب العجز والكسل على طباعهم، فتركوا المعايش، وانقطعوا إلى المساجد يأكلون وينامون، فيقول الرسول (ص): فبمَ كانوا ينفعون الناس، ويعنون بني آدم؟ فقيل له: والله ولا بشي ألبته، ولا كانوا إلا كمثل شجر الخروع في البستان، يشرب الماء ويضيق المكان فساق ولم يلتفت إليهم». (منامات الوهراني: ص48)

والوهراني في منامه الكبير الذي يعتبر ظلًا لرسالة الغفران، نلاحظ أن المعري تجنب كل لفظ معيب، بينما لم يتحرج الوهراني لحظة في إيراد لفظ معيب فاحش، بل إنه يميل إلى الأسلوب العامي، وتفيض مشاهد منامه بالمجون والسخف وكل ذلك موجه فلا يذكر شيئًا إلا ويذكر فلانًا، ويعبر عن موقفه تجاه عليٍّ بن أبي طالب والتشيع له بصورةٍ جليةٍ في أحلامه، إذ وصف الرسول مستمعًا تارةً إلى عليٍّ وتارةً إلى عثمان غير متحيزٍ إلى أيٍّ منهما.

ومن خلال ما سبق نتبين بنية المنامات. من ناحية الشكل، تتألف المنامات من السند والمتن، ويحوي السند ذكر الراوي والرائي، ويتضمن المتن ذكر الرؤيا، ويتبع هذا تعقيب الراوي. من ناحية المضمون، يرد ذكر الرسول، والصالحين، والملائكة، والأموات، والهاتف المجهول، والجنة والنار، والثواب والعقاب؛ وهي الفكرة التي تشكل الركيزة الأساسية لأدب المنامات. وقد اتخذت الأخبار المنامية السند إطارً لها، وأعتقد أن هذا أهم معايير النصية، وهو بتأثير العلوم لاسيما علم الحديث، وما اشترطه الإسلام من الصدق في الإخبار، وما جاء في منامات الحافظ قد اُبتُدئ بالسند. وأرى أن عدم ذكر الرائي كأن يكون شابًا، أو امرأة، أو شيخًا دون اسم، سببه عائد إلى الاهتمام بنوع الكلام لا بالمتكلم. أمَّا التأويل، أو التحقيق، أو التعليق، فلا يذكر المنام مجردًا من التعقيب، ويكون في نهاية الخبر المنامي. والتأويل على نوعين: نوع أوَّل وفق مطابقته للواقع وما هو حاصل، ونوع يستشرف المستقبل. (دعد ناصر: ص31).

أهداف المنامات

ذكرت خلال هذا البحث المقتضب أهداف هذه المنامات متناثرة، وحقيقة الأمر أن هذا النوع السردي اعتبر منصة يجهر المرء فيها برأيه بكل وضوح محصنًا بحصن منيع يتمثل في أن لا سلطة للرائي على الحلم، وأنه من الله ولذلك هو حق، وغرض المنامات هو التصريح الذي تتفرع عنه مجالات، وهذا كله بصرف النظر عن حقيقة حدوث الرؤيا أو اختلاقها، أو تأثير أفكار الرائي أو نفسيته أو غير ذلك، وهذه الأهداف هي:  

(1)  بيان مساوئ ومحاسن اجتماعية، كما في شأن الوهراني. وقد جاء منام في حث الشباب على العمل.

(2)  بيان موقف ديني أو مذهبي (الإسلام/ النصرانية/ اليهودية)، (السنة/ الشيعة).

(3)  كشف فساد سلطوي.

(4)  محاولة تقويم ما انحرف عن الجادة.

(5)  كسب المال؛ إذ كان البعض يدعي رؤية الرسول لمطمع مادي ينزله عليه المتلقي.

(6)  الغفران، وأسباب دخول الجنة. كأن يرى ميتًا فيسأله عن سبب دخوله الجنة فيذكر له دعاءً أو عملًا صالحًا، واظب على فعله، كما في منام الذي ذكر شخصًا جاء من الآخرة وجعل يحدثهم عمّا رأى هناك.

وخلاصة القول أن المنامات شكلٌ من أشكال السرد العجائبي، يتجرد فيه الراوي من سلطة العقل، وينأى بنفسه عن التصنيف بسبب ما يسبغه الدين الإسلامي على الرؤيا من تقديس. ولا يمكننا الجزم بصدق المنامات كلِّها أو كذبها، لكنني أزعم أن ما بدأ منها صادقًا تحوَّل بعدها كذبًا، وافتراء، واختلاق؛ بيد أن الصدق لا يتدخل في حكمنا عليها نصًا سرديًا عجائبيًا زخر بصفات المنام العجائبية مكانًا وزمانًا.

المصادر والمراجع

- أساس البلاغة، أبو القاسم الزمخشري، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1998م.

- إعراب القرآن، أبو جعفر النحاس، تحقيق زهير غازي زاهد، مكتبة النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1985م.

- الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي، عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2006م.

- السرد العربي القديم، الأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل، ضياء الكعبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2005م.

- السرد العربي، مفاهيم وتجليات، سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى،2012م.

- الغائب، دراسة في مقامة للحريري، عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2007م.

- الكلام والخبر، مقدمة للسرد العربي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1997م.

- المعجم المفصل في الأدب، محمد التنوجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1999م.

- المنامات في الموروث الحكائي العربي، دراسة في النص الثقافي والبنية السردية، دعد الناصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008م.

- المنامات لون نثري في الأدب العربي، دراسة في المنام الكبير للوهراني (ت575هـ)، علاء الدين محمد رشيد، مجلة جامعة تكريت للعلوم، المجلد التاسع عشر، العدد السابع، تموز، 2012م.

- بناء النص التراثي، دراسات في الأدب والتراجم، فدوى دوغلاس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.

- كتاب الأغاني، الجزء العاشر، أبو الفرج الأصفهاني، دار الكتب المصرية، 1938م.

- كتاب الوافي بالوفيات، الجزء الرابع، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، تحقيق أحمد الأرنأووط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م.

- المنامات، الحافظ ابن أبي الدنيا، تحقيق مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع.

- منامات الوهراني ومقاماته ورسائله، الشيخ ركن الدين محمد بن محرز الوهراني، تحقيق إبراهيم شعلان ومحمد نغش، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 1998م.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@