أدب عربي

احتراق فراشة

احتراق فراشة


 (1)

السيِّدُ الصديق

سبق أن أخبرتُكَ أنَّ الزواج قيدٌ، وما من شخصٍ يحبُّ القيود وإن كانت مصنوعةً من الذَّهب – كما يزعمون في عبارة القفص الذهبي. أنا امرأة متحررة تحيا في عالم الكتب أكثر مما تحيا في العالم الواقعي الزاخر بالنساء المفخخة ألسنتهن بالشتيمة والنميمة، وقد عاشرتُ هؤلاء النسوة في الكلية فلم أجد في نفسي إلا نفورًا منهن وغرقًا في الكتب، ورأيت من الرجال أصنافًا جعلوني أدرك أن حريتي أثمن من أن تباع مقابل عامٍ من العسل وحفنة أبناء أغدق عليهم حناني، وألمي، وخيبتي، وحسرتي.

قد تجدني متطرفةً، وربما مجنونةً، ولكني حقًا أجد نفسي عاجزةً عن فَهم ما يجول في عقول النساء اللواتي يُلْقِين بأنفسهن إلى ذلك القفص الخرافي! أحيانًا، أوقف نفسي عن الاسترسال في مثل هذه الأفكار، وأقول قد ترمين بنفسك يومًا ما في ذلك القفص فلا تعدمين الشامتين، ثم ما تلبثُ نفسي الأخرى أن تظهر هاتفة: ليذهبوا إلى الجحيم!! من ذا يكترث بكلام النَّاس؟!

لكني أصدُّ عنها وأستمع لتلك النفس التي تخشى الشامتين، ثم ما ألبث أن أبرِّر لنفسي: لكن… ربما أقع في الحب، هذا الهلامي الشهي الذي لم أجد له تفسيرًا حتى الآن!

(2)

الأيام تمضي أسرع مما أتصور، لم يكن في استطاعتي يومًا استيعاب تراكض الأيام أمامي دون أن أملك من أمري شيئًا. تبقى الحياة غموضًا ملفوفًا بالغموض، وكلما حاولت رفع أحد تلك الأغلفة ظهر له غلاف آخر من خامة أخرى. أحيانًا تهمس لي نفسي أن كل شيء في هذه الحياة يستحق أن يعاش: الألم، الحب، الغضب، الخوف… وكل تلك الأشياء الغريبة والعجيبة. تهمس لي بضرورة الموت وقد جربتُ كل المشاعر البشرية. أن أستهلك طاقتي البشرية في خلق جديد، وكأنني إذا استهلكتُ كل مشاعري وبلغت الذروة سأصل إلى مرحلة نورانية كنتُ أصبو إليها…

نورانية؟

لست أدري، لكن كل ما أعرفه أن عليَّ أن أمضي قدمًا دون أن ألتفت إلى ما يشتت ظلمتي الداخلية، فلعلي بالنحت في ظلمتي أجد النور، فالنور مختبئ في الزوايا والجحور، وعيون البشر لا تستطيع إدراكه.

(3)

السَّيد الصديق

منذ مدةٍ طويلةٍ لم أرسل إليكَ، بل إنِّي لم أكتب إليكَ أيما سلامٍ أو تحية، لكن ذاكرتي دفعتكَ إلى ذهني أكثر من مرة ولست أدري لِمَ. ربما لأني حين غادرتُكَ فظَّةً ولم ألتفت. لكن… دعني أخبركَ أني تعمدتُ ذلك، تعمدتُ أن أنظر إلى عينيك وأقول (لا) غاضبةً متجهمةً، وأن أمنع كلَّ طريق آخر قد يمتد إليَّ، ليس لأني حقًا أقول (لا)، ولكني أدري أني إذا لم أقلها فإني سأجعلك تتعلق بسراب… سرابٍ مؤلم. ربما ليس لي في تجارب الحب، ولكني أدري حين تتعلق بشخص ما ولا ترى منه رفضًا ولا موافقة، تقعد في انتظار أن يستحيل السراب حقيقة… وتقعد طويلًا حتى يرديك اليأس.

(4)

الرجل… هذا الشيء الغريب عصي التفسير. صادفت كتابًا قبل مدة عنوانه (ملك ساحر محارب محب) لكارل يونغ، وقرأت بدايته قبل أن أغرق في مشاغل أخرى، لكني أدركت من تلك الصفحات أنه يتحدث عن النموذج الذي تتمناه المرأة في رجلها، ولدهشتي وجدت ذلك حقيقة!! إنه… مثال الرجل الكامل!!! ولأني أؤمن أن الكمال غير موجود على الأرض إلا في الأعين المغلوطة فقد اتخذت قراري مذ كنت في السادسة عشرة: لا زواج!

كم مرةٍ قرأت الروايات الرومانسية عسى أن أجد شيئًا مغريًا في الزواج، لكني لم أجد… إنها ليست الحياة التي أريدها! دائمًا ما أردد على نفسي هذا الكلام… ليست الحياة التي أريدها! ليست الحياة التي أريدها! ليست الحياة التي أريدها! ليست الحياة التي أريدها! وتبدو هذه التعويذة – أو ربما التهويدة – هي دائمًا ما يجعلني أهدأ وأتخذ موقفًا هادئًا أمام موضوع الزواج حين يُطْرَح. أنظر إليه نظرة المتعالي وأبصق في وجهه؟ لا، بل أبتسم وأقول إن هذه (ليست الحياة التي أريدها)! فقط. ثم ينتهي كل شيء… أو هكذا أظن.

في هذه المعمعة، الأب متوفى، والأم قانطة، والأخت ساخرة، والأخوة غاضبون. وحده أخي الأكبر – صديقي – من يدعمني. أخبرته مراتٍ أني لن أتزوج، وحاول إقناعي أن وأن… لكنه ما لبث أن ابتسم لي وقال إنه معي في كل شيء… لكنه يتمنى أن نبقى صديقين وألا أتزوج. وذات مغيب، تعاهدنا أن نبقى… إلى (الأبد)! رفيقين، وصديقين.

لكنه محض كذب يا حلوتي!

(5)

السِّيدُ الصديق،

لقد انقضت أعوامٌ مذ آخر مكالمة بيننا، بل مذ آخر رسالة، بل مذ آخر مرة ذكر أحدُنا الآخر. ربما لم يتبادر إلى ذهنك شيء عني، أو ربما تجاهلت ذلك العام من حياتك، أو ربما تناسيتني فنسيتني. أمَّا أنا فنفضتك من ذاكرتي نفضي لكل الأكداس التي بلا فائدة، كأني أقوم بحملة تنظيفية على البيت، كربة بيتٍ حريصة على تنظيف بيتها وعلى سلامة أبنائها. لم يكن ثمة ما يزعجني سوى كونكَ بقعة لا تزول، أدعكها بكل المنظفات فتترك أثرًا صفراويًا على البياض اللامع في منزلي! والآن… بعد قرابة خمسة أعوام أرغب أن أبصق على تلك البقعة الصفراء التي ظننتها اختفت بينا كانت في الحقيقة مستترة أسفل السجاد السميك.

أشمر عن ساعدي، وأعقد منديلًا حول شعري، وأرفع سراويلي حتى أعلى ركبتي، ثم أنحني بكل المنظفات عليك، لكني أسألك في البداية: لماذا لا تزال هنا في هذا الركن من الذاكرة؟

فتجيب: لأني خسارتك الأولى… ربما إغواؤك الأول… بل لنقل تجربتك الأولى!

أزمجر: لقد افتعلتُكَ. صنعتُكَ. سكبتُ كل الملوثات في هذه البقعة ثم اختبرتُ كل المنظفات عليك وقدراتي على استحمالك… بل اختبرتُ صبري عليك.

أجبتَ: لا، أردتِ فقط وصف عملية التنظيف بدقة. هذه أنتِ! أردتِ النجاح في مجال عملكِ فإذا بك تسقطين على أم رأسكِ في هذه البقعة الصفراء!!

صحتُ، وصحتُ وألمَّ بي ألم قاتل رغم أني كنت مدركة لحقيقة أنني لا أهتم… لا أكترث!

كنتَ أنتَ… الإغواء الأول؟ لقد أردتُ بكل إرادتي – وليس بكل مشاعري – أن أقع فيكَ، أن أستشعر تلك الأشياء التي يتحدثون عنها كي أكتبها بكل طاقتي، بكل إدراكي، بيد أنها جاءتْ متكلفة ثقيلة… لم يكن قلبي في المعادلة مطلقًا!

بقي قلبي صامتًا يراقبني بعينٍ ممتعضة، ولمَّا دقَّ بعد مدة طويلةٍ دقَّةً واحدةً امتزجت كل أخلاط الجسد في حُقَّة سحرية وسافرت بي إلى مجراتٍ أخرى، رغم أنَّ (ذَاكَ) لم يقترب. اكتفى بنظرات عابرة وبسمة حالمة، واستحياء. أنا تلك المرأة التي كفَّنت نفسها وروحها وكل أطراف حياتها بأوراق الكتب التي تتزاحم فيها حروف حيوات مختلفة. وقفتُ أمامه كالبلهاء – ربما لم أقف فعليًا، لكن قلبي توقف ثم أخذ ينبض على إيقاع مختلف. أترقب وجهه، وعينيه، وبشاشة بسمته بنظرات مختلسة خَجِلةٍ لم أتذوقها معكَ أنتَ!

إنه… الحب. ذلك الشيء الهلامي الذي يجعلك تشعر أن كل ما في الحياة يتزاحم حولك ليضيء، ويضيء، ويضيء حتى تستحيل حياتك كلها ضوءا منيرًا.

كم شخصٍ وقف أمامي ولفظ كلمة (أحبك)، ولم أستشعر معه شيئًا، وقد ظننت دائمًا أن الفراشات سترفرف في معدتي، وأن نبضات قلبي ستختل، وأن العالم من حولي سيتلوى دون صوتٍ… لكن أيما شيءٍ من ذلك لم يحدث!

وأمام تلك النظرات المختلسة شعرت بقلبي يرفرف. ربما النظرات أشدّ وقعًا من الكلمات، لكن كم رجلٍ نظر إليّ قبل أن يخطو نحوي، ولم تؤثر نظراته فيّ… لماذا أثَّرت تلك النظرات المختلسة والبسمة الشفافة في قلبي المغلف بأوراق الكتب العتيقة؟؟؟؟ مَنْ هوَ؟ مَن أنتَ يا ذا اللحية الزرقاء؟!

(6)

في وقتٍ مبكرٍ من حياتي، اعتزمت الرهبنة!! لبست مسوح العوانس مذ كنت في السادسة عشرة، وعزمت ألا ألفت نظر رجلٍ إليَّ، لكني كلما اعتزمت التنفير كان رد الفعل عكس ما أريد تمامًا. لعلّ لا نصيب لي في غير هذا. أريد أن أكون منفِّرة حتى أكتب، حتى أسخر كل حياتي للكتابة… لكني الآن، لا أنفك أفكِّر فيه.

(7)

لم أُصدق يومًا أن بإمكان الحب أن يفعل كل ذلك في المرء. حين يُحِبُّ ويعذَّبُ دون الاقتراب، يتغضن جبينه، ينحل جسده، إلا أن عينيه برقتان بالأمل. وحين يَكْشف أوراقه الزرقاء ويجد قبولًا، تزهر حياته، يبتهج، تتعالى ضحكاته، تنسحب الجاذبية من حوله وتحلِّق كل الأشياء. وحين يجد رفضًا، وحين يُترك، وحين يُهجر، وحين يبقى وحيدًا… يتبعثر كيانه كله.

حين تركته ومضيت، لم يكن قد بلغ الأربعين. كان شابًا مشدود الجسد، يحارب زحف العمر، وتساقط الشعر، يسكب العطر في مواعيده، والآن؟ جسده مترهل، رأسه يَخْلُو من الشعر، لحيته شعثاء، يبدو جائعًا دائمًا لشيء خفي أسطوري. أنا حزينةٌ لأجله، وتجرحني نفسي لِأَنِّي مَن تركته هناك وحيدًا جالسًا إلى طاولة وكتابٍ.

كم ستبقى نفسي تعذبني لأني خلفته ورائي ورحلتُ، لماذا؟ لقد أحبَّني! آمنتُ بذلك منذ حين، لكن لماذا أردتُه أن يكرهني؟ تعبتُ من قراءة نفسي. نعم، أنا لا أريد أن يحبني أحدٌ، لكن ليس لهذه الدرجة التي تجعل الإنسانة العاطفية داخلي تبكي كل ليلة لأنها تركت – في المقام الأول – إنسانًا دون كلمة تطيب خاطره وتداوي جراحه، رغم أن صوت العقل لا ينفك يردد أني فعلت الصواب، تركت ورائي رجلًا لم أكن لأسعده يومًا رغم الحب العميق الذي ينبثق من عينيه.

إليكَ، أيها الصديق

أرجوكَ، سامحني، لا تتركني أتألم بألمك الذي يتجلى للجميع في عينيك الحانيتين. امسح غبار الدهر عنك، واغفر لي قسوتي، فأحيانًا يجب أن يكون المرء قاسيًا كي ينزع الحب. أتمنى أنك تبغضني الآن، أن كل الحب الذي كان في قلبك قد مُحِي.

(8)

ذا اللحية الزرقاء،

لم أفكر فيكَ مذ وقتٍ طويل، وأستشعر رغبةً الآن في الإفضاء إليكَ بآخر أخباري. ذات ليلةٍ، سرى أمامي شبحٌ واسع العينين، فضي القوام، شفاف الهيئة؛ ثم توقف طويلًا قبالتي ورنا إليَّ بعينيه الجاحظين فخفق قلبي فزعًا ولهثتُ بحثًا عن ملجأ عنه دون جدوى؛ كبلتني أيد الفزع، وجرجرتني أطراف الوجل، ولم أجد منأى عن نظراته؛ فحدَّقتُ فيه وتحدَّيته بنفس خائفة مذعورة.

مدَّ ذراعين ناحلتين شفافتين ومسَّ كتفي مترفقًا مخلفًا برودةً سحبتْ أنفاسي كلها وألقتها إلى الليل، فاختنقتُ. ضُغِطَ جسدي أسفل كومة من الركام، تسرَّب السواد إلى عيني، صُمَّت أذناي؛ ثم على مهلٍ تسرب شعورٌ غريبٌ بالطفو. تحسستُ الهواء حولي فألفيته باردًا، وسحبتُه إلى رئتي لأتنفسه لكني لم أعثر عليه، فتلويَّتُ أطفو في الفراغ البارد دون أن أعثر عليَّ.

(9)

لسنوات طويلة عشت في كنف صداقة رؤى. وبعد أن تزوجت، صار كل فكرها موجهًا نحو طفلين صغيرين وثالثٍ كبير. كنت أسمع صوتها مرة في العام خلال الهاتف، وكنت أراسلها أحايين متفرقة، ولم تكن بيننا حقًا أحاديث بل هذيان أمٍّ متعبة، وعانس مهمومة بالكتب.

لم أتمكن لحظة من كره حرف الراء رغم مقابلتي كثيرًا من الأوغاد بهذا الاسم، وقد كان من دأبي أن أبغض شخصًا كريهًا ثم أسقط الحكم على كل من يحمل نفس الاسم!

لم أعرف الصداقة عقب رؤى… مطلقًا!  بل بدتْ لي شيئًا خرافيًا أشبه بخلود جلجامش، وتساءلتُ للحظة هل ثمة ملحمة للبحث عن الصداقة؟ أتذكر مسلسلات الكرتون التي كان جل همها إظهار الصديق! وبناء على هذا سلَّمتُ أن شغل الناس بمسألة الصديق راجع إلى استحالتها… وهكذا سلمتُ أن صديقتي رؤى كانت محض رؤى ليلية في حالة نفسية عجيبة، وأوهامٍ سرعان ما انقضت، وسلَّمتُ – فِي لحظة غباء منقطعة النظير – أني لن أجد أشخاصًا بدناءة الأشخاص الذين عرفتهم أيام المدرسة.

دلفتُ إلى الجامعة مثقلةً بالأماني، وتردد داخلي صوتٌ حالمٌ أنَّ الجامعة لا يبلغها سوى الأوفياء، والشرفاء، والأذكياء؛ فصدمتُ باللعنة السوداء في أروقتها وعيون البشر. كانتِ الجامعة مرحلة ملعونةً، وسأظل ألعن أيام الجامعة حتى الممات؛ ذلك أنني عشتُ في حالة أقرب إلى السابح في نهر تتزاحم فيه صخور ناتئة لم تعمل المياه والطبيعة كلها على تنعيم زواياها وأطرافها. وهذا النهر القاتل ما هو إلا نهر شديد التدفق مفضٍ إلى شلال صاخب. فالسابح يقاوم التيار ويحارب الصخور، ويحارب البرد والريح، ويحارب جروحه المدماة، ويحارب وحش النهر الذي يتغذى من دمائه!

(10)

ذا اللحية الزرقاء،

لشد ما تراودني نفسي لأركض إليكَ حيث أنتَ، بيد أن الأمنيات لا تحققها يد الأحلام، ولا يكشف عنها رذاذ النوم، فتتجلى لنا رغباتنا التي لا ننفك نقاومها ونتجاهلها في تظاهر مريض بالقوة والجَلَد. أشتاق إليكَ، وأتمنى لو أن لك صورة عندي فأستغرق في النظر إليها بدلًا من خيالي المتوهج الممزوج بذعر من إغفال بعض تفاصيلكَ.

(11)

ذا اللحية الزرقاء،

منَّيتُ النفس دائمًا بلقياك؛ لكن ثلاثة أعوام انقضت دون أن يلوح طيفك إلا في الأحلام. ليتني ما منَّيتُ نفسي أن أراك، ليتني ما حدَّثتُ الأحلام عنكَ، ليتني ما تنفستُ عبق عطرك حين خنقنا الزحام ووجدتُ نفسي قربك!

 لكن هذه محض أمنيات لا معنى لها؛ فأنا الآن أحلم بك، وأتمنى لقياك، وأرجو أن يدفعني القدر إليكَ دفعًا؛ لكني في الوقت عينه أخشى لقياك إذ ربما يختلف حالي. ربما ألقاك مصحوبة بزوجٍ لمَّا يأت، وربما ممسكة بيد ابني، وربما محتضنة رضيعي… حينها لا أريد من طيفك شيئًا! إذا رأيتُك بعد زواجي (وأنا أقول زواجي؛ لأن الأم القانطة لم تعد تملك من الصبر شيئًا على كلام النَّاس الذي أصبحت سيرة عنوستي عنوانًا لتفشيه اللئيم، والأخت الساخرة ترغب في الزواج، بيد أنَّ العادات تفرض عليها أن تنتظر زواج الكبرى – زواجي أنا! وهكذا، أعيش الآن بين المطرقة والسندان… وأثق أني، قريبًا، سأستسلم!).

أقول إني إذا رأيتُكَ بعد زواجي، فَلن أرفع بصري إليكَ مجددًا، ولن أحلم بكَ، ولن أفكر في وجهكَ، أو صوتكَ، أو اسمكَ. سأحبُّ زوجي وأخلص له، سأحب أبنائي ولن أسمي أيًّا منهم باسمكَ، لن أبتاع الألوان التي كانت مهنتكَ، لن أنظر إلى اللوحات التي تذكرني بكَ، لن أفعل شيئًا سوى دفنكَ.

(12)

أصبحت أكره اجترار الذكريات،

أعيشها لحظتها، ثم أقذفها بعيدًا عن ذاكرتي لأنها لا تفتأ تنكأ جراحي وترحل، دون أن يكون في الواقع ما يساندني.

الذكريات البغيضة،

لا تنفك تراودني، فأصرفها كما أصرف الذبابة المزعجة، ثم ما ألبث أن أسحقها.

الغضب،

يعتصرني، يتركني ذابلة متجهمة لا أقوى على شيء، ولو أن ذلك الاعتصار يتحول إلى شيء آخر مفيد لكنت في وضعٍ آخر… أفضل.

الألم…

هذه المفردة التي أقلعت عنها، أجد نفسي أجترّها ثم ما ألبث أن أنفضها عني بفزع، فالطريق الطويلة التي يتراكم على جانبيها عذابات الإنهاك والإرهاق لا يمكن أن تُختصر بأي وسيلة نقل!!!

أنا… مُتعبة!

(13)

فَتح الأخُ الأكبرُ الباب ودلف وشقيقتها نائمة، أغلق الباب واستند عليه ونظر إليها صامتًا، فابتسمتْ قائلة: مرحباً!

لكنه لم يبتسم كعادته ولم يتحرك من مكانه، بل همس شاحبَ الوجه: من هو؟

رفعتْ حاجبها قائلةً: من؟

جاء صوته أجشًا مثقلًا بالهموم: ذلك الرجل…

ثم ذكر اسمه فاهتز قلبها، وجعل يضرب طبول الحرب، ويصرخ في أبواقها، لكن لم يبد على وجهها شيء؛ بل قد ابتسمت قائلةً: آه! ذلك الرجل… لقد كان يوماً صديقاً ثم انتهت الصداقة.

عندئذ، تساءلتْ كيف عرف عن الشخص الذي قالت له (لا)؟ كيف عرف عن شخصٍ خلَّفته وراءها قبل خمسة أعوام؟ من أين جاء بالخبر بعد أن انتهى كل شيء؟

اقترب منها سريعاً، وقبل أن تلحظ، دوى صوت الصفعة في الغرفة. أخذها شعور غامض إلى لحظة صفاء هلامية، وتسرَّب إليها شعورٌ أنَّ ذلك السيِّد الصديق هو نفسه من تحدَّث في الأمر وأسبغ عليه أثواب البذاءة والرذيلة. ربما هو الانتقام! أجل، فالذكر تأخذه الكرامة. ربما انتفض لكرامته المهدورة أخيرًا، وقرر الانتقام!

رفعت عينيها إلى عينيه الغاضبتين وهمستْ: لو أنك رأيته، أو سمعت عنه، أو أدركته، وظفرت به ولم تقتله… فأنت عار على العائلة!

اهتزت يده، فقالت وهي محدِّقَةً في عينيه: ثم عد لقتلي إن أردت!

لكنه لم يعد، بل سيقت في كفنٍ أبيض إلى تابوت آخر مبتسم.

(14)

الصوت الصارخ في رأسي لا ينفك يسخر مني: صدَّقتِ؟ ما أبشع الخذلان يا حلوتي! صغيرةٌ أنتِ على كل هذا الاكتئاب والعذاب والوعود الكاذبة! صغيرةٌ أنتِ! هشَّةٌ أنتِ! قلبكِ تجويف فارغ! عيناكِ فراغ هائل، الموسيقا خدوش في صدركِ النحاسي! لا شيء يبهجكِ! تبتسمين، تصرخين، تغنين، تعملين، تقرأين… وتعلمين أنكِ تفشلين، أنكِ تسقطين، أنكِ خاسرة!

نعم، أعلم أيها الصوت الذي لا يصمت. شفتاي مطبقتان بقسوة، لا شيء في الدنيا يوازي صراخ القلب المجوف الفارغ، أنينه في الليل لا يسمعه الموتى المرهفون، ولا الملائكة المعذبون، لا يسمعه الأطفال الباكون، ولا الأشباح الطوَّافة!

كأن مركبة خيالية تسبح في الفضاء وترمي أشلائي لكائنات الاكتئاب الجائعة، فتتنازعني، وتنهشني، وتلعق مخالبها.

(15)

لفترة طويلة، لم يعالج الغيم جروحه الهشة، ولم يرفع رداءه عنا.

مزَّق العتم ضوءه النَّير فوقنا وأماط اللثام عن وجهٍ قبيح.

وهج الحقيقة وحده يروي بقايا داكنة في جسدي.

(16)

تقابل في حياتك امرأ جهولًا، بل غارقًا في السفه، والعته، والتفاهة، إذا كلمته كلامًا جادًا رصينًا تسفه وأخذ في القهقهة، وإذا مازحته تجهم وجهه ورفع قبضته. وأنت إنما تكلمه لضرورة اجتماعية؛ فليس في مجلسكَ أحد غيره، وليس أمام وجهكَ إلا وجهه، وقد حسبت أن طول العشرة تهذب الطباع، فطبعكَ من طبعه طبع الأسد من النمر، هذا يتأنق في أكله، وذاك يأكل الجيفة ولا يرى في ذلك بأسًا. وتحسب أن الصمتَ خيٌر فتصمت لكن زمجرته ترتفع وتطغى، وما يلبث أن يتمثل طباعه في أسوأ حالاتها فيأخذ في الشجار والعراك، وأنت إذ ذاك تنظر إلى عينيه وتتساءل عن مدى الشبه بينه وبين الفأر… فنفسه نفس فأرية!

(17)

حين تغضب…

تطفو ملامح وجهها في الضباب، وتسير خفيفة الوقع كقطرات المزن؛ لا يتبدى شيءٌ من الغضب على وجهها؛ فلا تحتقن سحنتها، ولا تعبس قسماتها، ولا تتكالب الوحوش في عينيها. تسير كأنها تطفو، تتكلم كأنها تهدهد طفلًا، تتحرك كأنما تراعي خيوطًا عنكبوتية تتحكم في مفاصلها؛ ولا شيء في عينيها يتحرك. تبدو عيناها كأنما بحيرةٌ ساكنةٌ في الفراغ لا ريحٌ ولا حركةٌ حولها تبعث الحلقات على أديمها. ثبات الماء المعتم في حدقتيها يثير امتعاض الدهر… لكن ذلك هو غضبها.

(18)

عائلته،

هم يكرهونني، لا لشي سوى أنهم يرون فيَّ صورة لجدي الراحل/

الصراحة، الفظاظة، اختلاق المشاكل!

هم يبغضونني، وحين يعرف زوجي بالأمر يتهمني بسوء تعاملي.

هم يجتووني، ويرون أني السبب وراء كل اختلال كوني!

هم ينفرون، ويربتون على أذرع الشياطين الحارقة…

يرسلونها إليَّ دعاةَ سلام، فلا يرجعون!

أمزق أشلاء الشياطين كلها،

ألتهمها،

أدوس بمخالبي فوقها

وأعوي!

أي قلب يضاجعه قلبك أيها الأنين الصارخ في جفون الليل؟!

(19)

يبدو الموت سهلًا وشهيًا؛ إذ يمثل الخلاص من كل شيء عالق! مشاكلك الاجتماعية، ديونك، مشاكلك المهنية، مشاكلك الدراسية، مشاكل… مشاكل، مشاكل! أفهم الآن لماذا ينتحر الناس. الحقيقة أني وقفتُ دائمًا موقف عداء إزاء الأشخاص الكئيبين الذين يستلذون الألم ويفتشون عنه، لكني الآن أصبحتُ واحدةً منهم! لا شيء يداوي هذا الوجع المتمدد داخلي. كل ما أرغب به لعلاج هذا الوجع هو شيء يفعله الناس دائمًا ويوميًا.

أريــــــــد أنـــــــ أخـــــــــرج!

لكن، بطبيعة الحال، لا أحد ينصت. وبعد أن عاد زوجي العزيز من سفره القصير، أجد ما كان رغبةً تحول هوسًا، بيد أنَّ هذا ليس نابعًا فقط من ذاتي (المتمردة)، بل لأن زوجي المُحِبّ يحاصرني الآن ويحصي على أنفاسي وسكناتي، فلم يعد ثمة مجال للخروج للتبضع، ولم يعد ثمة مجال لرفع الستار قليلًا والنظر للخارج، ولستُ أدري كيف يفكر! عادةً، يرتاب ويظن أنني أنظر شخصًا ما، أو ربما أعاكسه، أو ربما أغوص في حالة خيانة! ودائمًا تتبادر إلى ذهنه المحظورات، فحين يتحدث شخصٌ ما عن عدم ارتياحه لشخص آخر، يبدأ في التفسيرات التي لا تحتمل الصواب، بل إنها تجانب الاحتمال! ومؤخرًا أخذ يدَّعِي أني أميل لأخيه!

والحقُّ أني لا ألوم زوجي إذ يترقبُ مني الخيانة؛ فالجميع يقرأ عن أولئك الحفنة من المثقفات التعيسات – أو شخصيات نسائية في رواياتهن – اللواتي تزوجن ثم استطبن الخيانة. وهن دائمًا يُحَسِّن لفظ الخيانة؛ فيقلن إنهن اتخذن عشيقًا، وهو أمرٌ أشدُّ سوءًا. وإني لألعنهن في كل مرة أقرأ رواياتهن، ولا أدري لأي شيء يصورن عهرهن وسفالتهن، بل ويتفنن في وصفها.

لقد تزوَّجتُ… ولن أخون. لكنهن لو سمعن قولي لبررن لي كل الفواحش؛ لأني أجبرتُ على الزواج من شخص لا أعرفه، من شخصٍ يريدني صورة نمطية عن أمه، من شخصٍ يمنعني من الكتابة والقراءة؛ ثم بعد ذاك يزيِّن لي الخيانة ويدعين أنَّها تحرر! إذا كن يسعين إلى التحرر، فلماذا لا ينفصلن عن أزواجهن؟ لماذا يستطبن الخيانة تحت أسماء أولئك الرجال الغافلين؟ وأدرك أنَّهن في سعارهن إلى الحرية أسقطن العرف، والدين، والأخلاق؛ ولم يعد أمامهن سوى ذلك الادعاء الباطل الذي حين يبلغنه لن يبلغنه إلا عرايا من كل شيء… أقرب إلى الحيوان منه إلى المرأة!

رضيتُ بقدري قبل مُدَّةٍ، فلو سمعن لقلن ضعفٌ واستسلامٌ! لكني أبحث عن محاسنه، وأحسِّن عيوبه، وأبحث عن بقعة محايدة للحوار. أسعى لنجاح زواجي، وإن فشلتُ سأحاول مجددًا، وإن يئستُ واستسلمتُ بعد طول نضال، فسأنفصل، ولن أخون.

(20)

ليتني أستطيع أن أغير ما أملكه من حياتي!

لكني لا أملك شيئًا، وليس لهذا القفص الذهبي اللعين باب كي أفتحه وأتسلل هاربة إلا إذا كان الأمر يعني أن أفتح باب الشقة وأغادر، أن أمشي في الشوارع دون أن يأمرني أحد بالتزام وقفة معينة، أو عدم النظر حولي، أو إغلاق نافذة السيارة.

(21)

العزلة… التقوقع… الانكفاء. هذه الكلمات لم أعد أميز غيرها، وتشدني إلى كلمة القوقعة جاذبية عجيبة؛ فلا أنفك أرددها: قوقعتي الآمنة! وكل هذا بعد أن تأكد لي أن العزلة ليست مرضًا، ليست عيبًا، وليست جنيًا انطوائيًا بداخلي.

قال ابن زيدون:

لا عار لا عار في الفرار فقد فر نبي الهدى إلى الغار

وهكذا قتلت روحي العاشقة للهيام في القفار، والضياع في الجبال، وانصاع جسدي لعقلي فتوقفت كل مطالبه، وانكببت على القراءة والكتابة انكبابا. لم أعد أريد الخروج. أريد فقط أن أنعم بلحظات الهدوء بعيدًا عن أوامره المتكررة كأنما أنا بائعة هوى لا تنفك تتغنج بين الناس بينا الحقيقة أن الخمار ما عاد يحتمل تشددي في الستر!

(22)

كنت أتسائل إذا ما كان علي أن أكتب شيئاً رومانسيًا بينما رائحة البخور تعصف برأسي، وحلقي يقف ملتهبا أمام هذه الرائحة! لا أعلم هل علي أن أبتسم وعيني مثقلتان بالنعاس وقد انقضت ساعة ظللت فيها أتخبط على سواحل النوم دون الولوج إليه، ودون الرجوع عنه! والآن أقف أمام هذه الأسطر أفكر هل أكتب أم أعود عن الكتابة؟ لقد انقضت فترة طويلة مذ آخر مرة كتبت فيها في هذه المذكرة؛ إذ لا ينفك الزوج العزيز يصرخ ويشتم حين يرى في يدي ورقة أو قلمًا. وهو يفضل أن أقعد على التلفاز منذ الصباح حتى الليل على أن أقرأ كتابًا. يفضل أن أكون حمقاء، حالمة، مفتونة بقصص الحب التركية، والهندية، والكورية على أن أكون مثقفة. ربما يعرف قول غسان كنفاني: المثقَّف أوَّل من يُقاوِم، وآخر من ينكسِر. وربما يعرف قول سيفن كينغ: سنحت لنا الفرصة لنغيِّر العالم، لكننا فضَّلنا التسوّق التلفزيوني. وربما لا يعرف أيًّا من ذين الإثنين، بل يملك الثقافة الشعبية السائدة، وتحمله أمُّه الغيور على النيل مني، وتردد أخواته أن الكتب هي الداء.

هو لا يريد أيَّ تغيير؛ إذ اعتاد على نمط المرأة العاكفة على التنظيف، والطبخ، والتجمُّل آخر الليل. وهو وإن لم يقرأ كتبي، وإن لم يقرأ كتاباتي، وإن لم يقرأ أفكاري؛ يستطيع أن يتنبأ أن بداخلها أفكارًا تغييرية وثورية؛ ففضل التسوق التلفزيوني.

آهٍ! لماذا أفكِّر فيه؟

لماذا أكتب عنه؟

أليستِ الكتابة الملجأ منه؟

فلماذا أستحضره الآن بهذا الإلحاح المقيت؟!!

كنتُ أقول…

أصبت بالحمى ليلة الجمعة، واليوم هو الأربعاء. لقد انصرفت الحمى، وأصبحت متعافية -ولله الحمد- إلا من تمرد حلقي على قانون الشفاء، وبعض الصداع الذي يضرب رأسي ساخراً.

أشعر أحياناً أن المرض عبارة عن كائن سباعي الأطراف، أمَّا رقم سبعة فهو الرقم السحري الذي تبادر إلى ذهني هذه اللحظة، على الرغم من أني لا أراه سحريا مطلقاً، بل قد أصبحتُ أذعر من ظهوره أمامي متلبسًا ثوب السحر المُشِّع.

يقف هذا الكائن فوق رأسي ليمد أطرافه الطويلة ويشمل الجسد ويسبل عليه الوهن والحمى، ثم يسكب شلالات من الدموع والمخاط الذي تكون المناديل عاجزة عن تجفيفها، فتلهث علبة المناديل، وتشهق، ثم تسقط فارغة مخلفة كومة من المناديل المجعدة إلى الجانب الآخر مني، تكاد تغادر سلة القمامة الحمراء.

يبقى هذا المخلوق في رأسي يجوبه ضاحكاً معربداً، بعباءة سوداء تكنس الأرض خلفه، وقد تشبث بعصا لها رأس أعجف معكوف يذكرني بشعر جدتي الأبيض، وتلك الشعرات التي انتزعتُ أول ظهور لها في رأس أمي، فارتفعت أمامي نحيلة، لامعة، قاسية التعرجات.

يتوقف صاحب العباءة ليرفع تلك العصا الأشبه بمجس، وهو ينظر بعينين واسعين جداً، لا يكاد يرى من وجهه سواهما. يرفع العصا إلى ما يصادف أمامه، ويتجاوز ما يتجاوز أحياناً، لكنه يعود دوماً ليرفع تلك العصا العجفاء ويمدها نحو خيط من تلك الخيوط في رأسي، ويدخل ذلك الرأس النحيل لعصاه بين الخيوط، ثم ينتزع خيطًا بعينه. يشده ويشده فأبكي، وأصرخ، وأتلوى ألما؛ لكنه لا يقطعه بل يضحك، ثم يتخذه وترًا لمعزوفاته التي تستمر ليل نهار مدَّةَ أسبوع.

ينتزع ذلك المخلوق – ولنسمه ضميم الشعرة البيضاء – خيوطًا كثيرة ليضمها إلى عصاه العجفاء، ويتربع فوق كومة من الخيوط الممزقة، ويأخذ في الغناء بصوت صارخ بينما يضرب الأوتار بعنجهية مفرطة، ويستمر حفله لأيام ثم ينقطع.

لكن كل ذلك هين! فهو لا يبقى سوى أسبوع ثم يرحل ملولًا، لكن يبدو أنه لا يمل أبداً من أولئك الذين تباغتهم الشعرات البيضاء. دوماً هنالك ما يبهج ليستمر بقاؤه حتى تتساقط الشعرات التي انشب فيها البياض ليعلوها بياض الكفن… حينذاك فقط يغادر (ضميم الشعرة البيضاء) ويرحل متنهدًا مهمهمًا، لكنه يجد الكثير من الشعرات البيضاء التي تجعله يتناسخ أثناء غنائه الصاخب، ليعبث بالكثير من الخيوط بضوضائية مريعة، ليبعث الكثير من الأمراض والآلام وأحياناً ماذا يحصل؟ قد لا يبقى الفرد سوى أياماً قليلة يسمع فيها غناء ضميم بأنين، ثم يرحل مع الفجر حين يكون ضميم في قيلولة مريحة.

(23)

طلب مني أن أتقدم، ولم أكن إذ ذاك قد وثقتُ به، ولأكن صادقة فإن أدبه وسلوكه المحترم مؤخرًا كان قد أخذ يبذر بذور الثقة في نفسي، وبذور الاعتقاد بصلاحه. توقفتُ لحظةً على عتبة الباب، وهو على بعد خمسين سنتيمترًا مني، ولم أجد بدًا من الخروج، وكان إذ ذاك واقفاً قاطبًا حاجبيه، زامًّا شفتيه، قابضًا كفيه، شادًا قبضتيه، عاضًا ناجذيه؛ قد انتفخت أوداجه، وعظمت عروق رقبته، وانتفخ صدره، واحتقن وجهه، يكاد الدم يتسرب من شق فمه.

كل هذا أرجعني عن تصديق حسن نيته، ولم أكن أجهل سوءها، وما كنت أعرف شيئًا أكثر من معرفتي تلك الحالة التي كان عليها؛ فهو ما إن يرفرف الذباب جواره حتى يطوحه بكف شمشون وسيف آخيل! وأغلب الظن أن نفسه مشبعة بالعزة والأنفة، كما هي مشبعة بالبطش والتجبر، ولعله لا ينفك يردد، وهو يسير: لقد زادني حبًّا لنفسي أنني بغيض إلى كل امرئ غير طائل! فهو على الرغم من الكراهية المنسكبة عليه بصديدها، كان يتنشقها تنشق العطار لوصفاته الأولية، فإذا لم يجد أن كل العشرة الذين في الحجرة لم يسكبوا صديد كراهيتهم عليه، راح يثخن في الظلم والبطش حتى يحوز كل كراهيتهم.

وعليه فقد بقيتُ واقفة لا ألوي طرفي عن ذلك العرق النابض في جبينه، فزمجر بي: اذهبي إلى المطبخ!

وكان المطبخ خلفه، ولم أجد بدًا من الامتثال. تساءلتُ إذا كان بمقدوري أن أركض فلا يبطش بي بكفه الضخمة، وهرولت، لكن كفه بطشت برأسي من الخلف حتى خيل لي أن عيني قد تدلتا على وجهي، أو لعل رأسي قد خلع من مكانه وحلق في الهواء غير لحظة، ثم عاد وحط على رأسي وأنا في المطبخ.

(24)

لستُ ملكًا لك، لستُ ملكيةً خاصة مسجلة باسمك؛ إذ أنَّ الله لم يخلقنا إلا عبيدًا له، لا عبيدًا لآبائنا، ولا لإخوتنا، ولا لأزواجنا! أعطانا الله الحرية الكاملة للعيش وبيَّن لنا الحلال من الحرام، وأنا الآن أقول لك إنك لا تستطيع أن تحرمني حرية العيش! وإذا كنتَ تعترض، وتقاوم، وتسخط؛ فليلعنك الله، وليجعلك مشردًا في حياتك، وحيدًا في معاشك، متروكًا في مماتك؛ ويعوضني خيرًا.

(25)

احتقرتُ الرجال الذين يتجاهلون زوجاتهم حين يتكلمن، أو يسيئون إليهن، أو ينتقصون من قدرهن على مرأى ومسمع من الجميع. احتقرتهم وتمنَّيتُ لو أستطيع سحبهم كالدواب إلى المعتقلات وتركهم للقذارة، والجيفة، ثم الموت. احتقرتهم، وتمنيت لو أستطيع مجابهتهم، وشتمهم، وفرض احترامي. وتشدَّقتُ أني سأستطيع لو وضعتُ في الموقف نفسه، سأقول له: أنا لا آمنك، ولا أثق بك، ولا أعوِّل عليك. ثم أنتفض انتفاضة العنقاء وأمضي.

لكن حين وقعت الواقعة عليَّ، خلخل الخوف عظامي، وبطاقتي المتبقية رفعتُ حقيبتي الكبيرة وجمعتُ ثيابي، ثم فررتُ. صرختُ أمام أخي الأكبر، تمرَّدتُ، اشتعلتُ؛ وفي النهاية أعادوني.

عيشي ذليلةً… كما عاشت كل النساء قبلكِ!

(26)

حماتي تُهنئني على الحمل.

شكرًا لتهنئتكِ!

لساعات طويلة ظننتُ أن كل أولئك الأشخاص المحشورين في هاتفي على هيئة أرقام، سيعرضون كل الإعراض عن تهنئتي. لقد بلغتُ هذا الحد من الكآبة، ومن التقصي لظلال المودة الباهتة، فقط، خلال ذين الشهرين بعد أن رأيت من التعب صنوفه، كل تلك الصنوف التي أحجم عن تمثلها مرة تلو أخرى حتى لا تقتلني!

من ذا يزعم أن الجانب الأبيض في أولئك البشر الذين أخالطهم سيغلب على الجانب الأسود؟ من ذا يزعم؟ لقد انتظرتُ كما ينتظر الرجل أمام حجرة الولادة منتظرًا ابنه البكر… انتظرتُ أتخيل تغلب الجانب الأبيض، وبقيت طوال ثلاث سنوات أرعى أولئك البشر… أرعى جانبهم الأبيض بحنو، وأرجو كما يرجو الأب أمام حجرة الولادة أن يكون ابنه سليم الصحة، وألا يصيبه المرض… لكن حينما خرجت الممرضة لم تكن تحمل بين يديها مولودًا ملفوفًا بالأقمطة المزركشة، وإنما كانت تحمل صحنًا بداخله شيء مقزز، شيء قالت عنه: لم تكن زوجتك حامل… كانت تحمل ورمًا كبيرًا في بطنها!

وذلك الورم… شقق بطنها، وقتلها!

كذلك غلب جانبهم الشرير الأسود على الجانب الأبيض وقتل ما كنت أرعاه ثلاث سنوات كاملة دون أن يروه أو يستشعروه. هذه عائلته، بل هذا هو المجتمع كله، بل هؤلاء هم البشر!

(27)

صغيري،

حين تكورت في بطني جعلتني أتلهف لمقدمك بينما كنت أخشى وجودك في دنياي؛ أخشى رؤيتك متألمًا، مريضاً، متوجعاً، وأخشى رؤيتك عاشقًا، وأنا أدرى الناس بأن “حبك الشيء يعمي ويصم” وأنكَ لن تستمع إليَّ حتى تخوض تجربتكَ وتخرج منها برأيكَ. تجرُّ سيوفك مشققة محطمة؛ فالحب، رغم جذوته المستعرة، يخمد كالأغصان الخضراء التي قلما تشتعل. وأخشى عليكَ من الثقة، فقد تضعها في غير موضعها – كما وضعتُها أنا في الأخ الأكبر – وقد تحب من لا يستحق الحب، وقد تترك لحظك يجرح خد فتاة فتسلبكَ لبكَ، وقد تشتهي شيئاً ولا تجده، فتنساق في الحرام.

أيها الوليد بعمر اليومين، يا ملاكي الصغير!

الحمرة التي كست وجهي يوم طلبت دنياكَ، والرعدة التي شملتني، والخوف الذي تملكني لم يكن من الولادة التي هي خيط من نسيج الموت، وإنما لأني رأيتُ طيفك واقفاً أمامي يطلب عروسًا، ثم رأيتك تخبرني أن زوجك تحمل حفيدي، فتعجبت أنى لكَ أن تقول ذلك ولستَ إلا نطفة اقتحمت أحشائي ثم انتفختْ؟ فذكرتُ الله، وتلقفتني ذراعا أبيك، وجعلتُ ألهج لك بالدعاء لعلمي أن هذه الحياة لن تسعدكَ؛ فستكون من جيل لا يرضيه سخط الحياة التي هي لدى من سبقك مداعبة. ستطمع؛ لأن هذه هي الغريزة، وستكره، وتسخط؛ فيومٌ ستفشل ويومٌ ستنجح “فيومٌ لكَ ويومٌ عليكَ” وستصرخ في وجهي يوماً متأففًا، لكنكَ ستعود لأني أحبكَ، ولأن ما من امرأة ستحوي في قلبها حبَّ أمكَ لكَ.

وبعد أن تكبر وتبتعد عني، سأشتاق لتكوركَ في بطني والغيرة من هذا العالم تنهش قلبي، وسأتساءل: لماذا سلبتك أمور الدهر الواهية مني، بينما كنت تصرخ طالباً صدري وحضني وابتسامتي؟

وسأتساءل: هل ستعود بعد دروبكَ الطويلة تطلب لمستي لجبينكَ، ومداعبتي لخدكَ؟ هل ستعود لتلقي بحمل كاهليكَ في حضني فأمد أنامل داعبتها الشيخوخة وأفكُّ عقد أفكاركَ متروية، وأهفو لبسمتكَ المبتهجة؟ هل ستأتي يوماً تفترش الأرض عند سجادتي، تنتظر فراغي من لقاء ربي لتهمس بصوت خاشع “تقبل الله يا أمي!” فأداعب لحيتكَ النامية بأنامل متعرقة، فتنحني تضم الجسد النحيل كعود سواك جاف وأنت تكتم عبرة متألمة؛ لشيخوختي… فأقول لك: كلنا إلى التراب يا ولدي، وإنا إليه راجعون!

أتذكر الآن في هذه اللحظة الملفوفة بالسعادة والحزن قول إليزابيث ستون: (إنَّه لأمرٌ جلل أن تُقرر إنجاب طفل، فهذا يعني أنَّك تقرر السماح لقلبكَ أن يحوم خارج جسدكَ للأبد). وهأنتذا – يا قلبي الرائع – تنظر إليَّ، وغدًا ستنطلق بعيدًا عني.

(28)

صغيري الرائع،

أتفكر اليوم في ذي اللحية الزرقاء الذي أقسمتُ أني لن أفكر فيه. أتصدق أني أحنث بقسمي؟ لكني لا أهيم به، ولا أشتاق، ولا أحنّ؛ بل أنا أتفكَّر فقط، أتعاطى مع ذكراه بحيادية. وأنا لم أفكر فيه سوى لأني أتفكَّر في الحبِّ نفسه؛ إذ أن أخت زوجي العزيز وقعتْ وقعتي، ويعتزم شقيقها أن يمسكها في البيت حتى يتوفاها الله! أتصدق، يا صغيري؟ تلك الشابة الرقيقة لم تفعل شيئًا. كل ما جرى أن قلبها أخذ ينقبض وينبسط بحركة غير تلك المعتادة. هي حتى لم ترفع بصرها، ولم تلتق به، ولم ترسل إليه؛ لكنهم يرونها اقترفت إثمًا!

دعني أُحدِّثك عن الحبِّ في هذه اللحظة الغريبة – حيث يلتقي الوهم بالسحر والواقع؛ إذ أن الساعة الآن تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، وزوجي المحب لا يزال في بيت أهله؛ بغرض التوبيخ.

لا أعلم كيف حدث ذلك!

ربما يمكن القول إنه بدأ في اللاوعي، حينما كانت الطفلة الصغيرة بداخلي تحتاج أنيسا قوياً – عوضًا عن الأب المتوفى- يمد ذراعيه القويتين ليرفعها من كومة الرماد التي سقطت عليها، وينفض روحها من الغبار الرمادي المؤلم… ثم انتهى كل شيء، ظهوره كان بداية النهاية، كالروايات الرومانسية التراجيدية الحديثة التي تنتهي بظهور ذلك الشخص الذي يملك معطفا حتى ركبتيه، يقف حين الأصيل بينما تدفع الرياح معطفه إلى الخلف… وربما يصبح أكثر درامية لو وقف على جواد أدهم وقد وضع قبعة زورو على رأسه، ثم تنتهي القصة والبطلة، المنهكة من هموم الدهر، فاغرة فمها دهشةً وقلبها يتمزق ألماً… ثم ماذا؟ تأتي موسيقى الخاتمة ويقترب الشاب ذو القبعة لينظر إليها من أعلى جواده ويرفع القبعة وينحني وعلى وجهه سيماء الإعجاب بها، ثم تنزل الستارة… إنها حكاية مملة!! لكن… رغم كل شيء يصبح صاحب اللحية الزرقاء في الخاتمة بديلاً عن صاحب العينين الخضراوين في المقدمة والوسط؛ فكاتب القصة لا يظهر ذو اللحية الزرقاء إلا ليمسح على قلب البطلة اليائسة برفق، ويقحم منديله الخشن في عيني القارئ ليجفف الدموع التي تراكمتْ، ويجعله يبتسم قائلاً ضمن السطور: لقد وجدتْ بطلتنا الحب الحقيقي… لا داعي للبكاء.

هنا يتساءل القارئ ناقمًا: لماذا لم تحكي لنا تفاصيل حبهم؟ هل سنقرأ جزءًا آخر؟

يشبك الكاتب أصابع كفيه ويقول مُغترًّا: لا!

تتسع عينا القارئ ويهم بضربه بمنفضة السجائر التي تقبع على المنضدة -كشيء لا بد منه في مشهد كهذا- يقول الكاتب، وهو يتجنب منفضة السجائر: دعنا نكتف بالجميل… ونترك القبيح.

ما زالت عينا القارئ على اتساعهما. يتنحنح الكاتب، ثم يقول: لقد كان لقاء بطلتنا بأخضر العينين لقاء جميلاً أيضاً.

يتنبه القارئ لذلك، فيقول: هل تعني أن ذي اللحية الزرقاء قد يكون دنيء الصفات سيء الأخلاق مثل أخضر العينين؟

يهز الكاتب رأسه، وهو يطالع ساعته بنفاذ صبر، فيقول القارئ وعيناه تضيقان في محاولة للفهم: بماذا تحاول أن تقنعني؟

يرفع الكاتب رأسه، ويقول: أوه!

ثم يعود لينظر إلى ساعته، يقول: أنا لا أحاول أن أقنعك بشيء.

ثم يقف وهو لا يزال ينظر إلى ساعته، ويقول: أنا أخبرك فقط أن توقفنا عند نقطة بعينها في الرواية لا يعني بالضرورة النهاية السعيدة… قد يهبط ذو القبعة – ذو اللحية الزرقاء من على جواده ويخطف البطلة أو يقتلها لنزعة إجرامية في نفسه… ولكنَّ كلَّ ذلك يحدث بعد أن أسدلنا الستار؛ فمن قد يعلم بما جرى؟! نحن فقط نحكي لكَ ما ترغب في سماعه.

يتنهد الكاتب، وهو يصلح هندامه بينما تعلو الصفرة وجه القارئ وهو يتأمله بصمت ناقم قبل أن يلتفت الكاتب إليه باسمًا ويغادر الحجرة رافعاً كفه اليمنى في وداعٍ باسمٍ.

بعد هذه السنوات، أعلم أني ما حزتُ من الحبِّ إلا الأمنيات والأوهام، ورغم هذا أنا راضيةٌ تمامًا؛ إذ لم أكن لأحتمل وقوفي على حقيقة ذي اللحية الزرقاء بعد كل الأمنيات والأوهام؛ فالحبُّ أسوأ شيءٍ في التاريخ، وسيظل الأسوأ والأجمل في الوقت عينه!

(29)

صغيري الحبيب الراحل،

ليس في وسعي سوى أن أحتمل حتى يحين الوقت الذي أقول فيه للأيام وداعًا يا تاريخًا من البشاعة والأذى. حين تمكث في مكانٍ ما مدة طويلة فاقدًا أنيسك الصغير الوحيد، رازحًا تحت وطأة احتمالات كثيرة للعيش، محتملًا ضروب الإهانة كلها؛ تفقد طوال تنقلك بين تلك الاحتمالات الكثيرَ من الأحاسيس المتناقضة والمتشابهة، وما يبقى لديك سوى رصيد ضخم من الفقد، والضياع، والكثير من اللاشيء، متخبطًا في زوايا وأركان حجرة سوداء.

(30)

اُخنق كل الذكريات، اِطعنها، شَقِّقها، مَزِّق أشلاءها أكثر فأكثر، فَتِّتها حتى لا يصبح هنالك متسع لعودتها من جديد، اِنزع الحدقتين اللتين تدوران باستمرار بحثاً عن ذرات الحياة، مَزِّق تلك الحنجرة التي ينبعث منها الأنين!

هل بإمكانكَ أن تفعل أيها القلب؟ هل ستمحو كل تلك الصور؟ أم سترفع ذلك الغبار الذي يدمي عيني، ثم تجلس محزونًا تحدق في الصور ذات الإطارات القديمة؟ زاعمًا أني سأتخلص من الألم من كثرة النظر، من التردد على تلك الصور، حتى أفرغ إلى القول إنها صور عادية، إنها مواقف سخيفة؟ هل ستقول ذلك يوماً؟ لا! إنك تقولها الآن! لكن اسمع، أيها القلب الحالم! سأبقى أنظر وأبكي، حتى ولو شققت تلك الصور، فإن حملها أحد إليّ يوماً فسأبكي وأنصب ذلك الرمح ذو الأغصان المسننة لأمزقكَ!

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

شعر الغزل في العصر الأموي

شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…

2 weeks ago

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…

2 weeks ago

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج  30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…

3 weeks ago

إَلِى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى

إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج  5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…

4 weeks ago

بين ألسنة الليل

بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج  12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…

4 weeks ago

نُوح

نُوح في الحلم، كان اسمه نوحًا، وكان يعرج، وكان يحمل الماء إلى أهله. السماء داكنةٌ…

4 weeks ago