هاجر منصور سراج
2 نوفبمر، 2024
في العصر العباسي ازدهر تأليف الكتب وترجمتها. وقد اندفع المولدون إلى الترجمة برغبةٍ قويِّةٍ دافعها نصرة أصولهم، فألَّف ذوي الأصول الفارسية كثيرًا من الكتب في ذكر محاسن الفرس، ومعايب العرب؛ وهؤلاء كثر، بيد أنَّ هذا لا يعني أنَّه لم يكن ثمة للعرب من يناصرهم، إذ نجد الجاحظ على رأس هؤلاء رغم ما يروى من أنَّه ليس من أصلٍ عربي. وقد انطلق في تأليفه من منطلق عقلي يحاول فيه فضَّ الخلافات، وإرجاع كل ظاهرةٍ إلى أصلها وسببها. وقدرته على هذا تنبئ عن ثقافته الغزيرة إذ كان معتزليًا له مذهبه الخاصة، وقد أخذ عن النظَّام قدرته على الجدال، فساق في كتبه جدالًا وتفصيلًا لكثيرٍ من الأمور بشكلٍ منظمٍ جذاب تطفو فيه فصاحته وبلاغته. ومن هنا، وضعه الكثير على رأس كتَّاب العصر العباسي الثاني.
هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة. ويروى أنه عربي ليثي من كنانة، ويزعم البعض أنه كان مولى لبني كنانة. أما ما لقِّب به فراجع إلى جحوظ عينيه، ويذكر آخرون تسميته بالحدقي. قيل إن والده توفي وهو صغير، عندما عجز المؤرخون عن الخروج بنبأ يقين، لكنهم عرفوا أن أمه كانت تقوم على رعايته، فكانت ترسله إلى حلقات العلم، حتى إذا بلغ من السن ما يمكن من الخروج للبحث عن عمل، طلب من أمه طعامًا فأتته بالكراريس التي كان يشتريها ساخرة منه ومما يعكف عليه؛ فجعل يعمل في بيع الخبز والسمك على ضفة نهر صغيرة بالبصرة.
وتظهر شخصية الجاحظ في مؤلفاته، فهو رجلٌ مفكِّرٌ، واثقٌ بنفسه، وعلمه، وثقافته، ومنزلته في مجتمعه. وكان يخاطب الوزراء والعظماء كأنه فردٌ منهم، دون أن تذوب شخصيته في شخصياتهم، ويعاشر عامة الشعب كأنه لا يخالط غيرهم. (ومنشأ ذلك أن الجاحظ رجل من الخاصة في فكره وفي كتابته وأسلوبه، وفي بحثه وتأليفه، فإذا فكر فبعقل الخاصة، وإذا كتب أو ألَّف فبأسلوبهم، ولمن يفكر في مجال تفكيرهم)، (خفاجي، 308).
ويذكر أنه كان محبًّا للكتب، متبحرًا في مجالات عدة. وكان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للمطالعة حتَّى جمع ثقافاتٍ كثيرة. واختلف إلى النظام فتعلَّم منه حسن الجدل وتنظيم الكلام. حتى إذا جاء بغداد في عهد المأمون، قربه منه ورأسه ديوان الرسائل بيد أن الجاحظ لم يستطع الاستمرار في ذلك فطلب اعفاءه فأعفاه الخليفة ليتفرغ بعد ذلك للتأليف؛ فهو لم يكن أديبًا في ديوان السياسة، وما طاب له يومًا أن يكون كذلك، بل كان أديبًا مجتمعيًا يعمل فكره في كثيرٍ من الأمور، وقد سخَّر نفسه لذلك. ويذكر أنه لم يتزوج، ولم يرزق الأولاد، وكان يعيش مع جاريتين، وقد أصيب بالفالج مبكرًا، دون أن يجد هذا المرض قوة على اقعاده عن الحركة والكتابة، وقد توفي عن عمر خمسة وتسعين. وكان يذم مرضه، يقول عنه: (نصفه مفلوج لو حُزَّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرسٌ لو طار الذباب بقربه لآلمه). وروي عنه قوله لما دعاه المتوكل (ما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شِق مائل، ولعُاب سائل، وعقل حائل).
يعتبر الجاحظ علمًا بين أئمة أهل البيان، ولعله يكون أهم الاعلام وأبرزهم. كما هو أحد وجهاء المكتبة العربي؛ إذ كان من أوائل من صنعوا أخشابها ووضعوا الكتب بين رفوفها. وقد وجد الجاحظ في أهم عصرين في العهد العباسي، ألا وهما عصر هارون الرشيد، وعصر المأمون؛ وهما العصران اللذان فيها توافدت الثقافات على العربية، ونهضت بها نهضةً لم يكن فيها أيُّ شعبٍ من الشعوب حينذاك. وكان معين العلم في عهد هذين الخليفتين يفيض مغرقًا العقول، دافعًا إلى التأليف والترجمة دفعًا. وكان أمام هذا السيل المعرفي ثلاثة هم أوفر العلماء أخذًا من هذا المعين: أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى، ويقول صاحب الوفيات إن مصنفاته تقارب مائتي مصنف، بينا سرد ابن النديم مائةً وخمسة؛ والمدائني، ويذكر له مائتان وأربعون مصنفًا؛ وهشام بن محمد الكلبي، وذكر له مائة وتسعة وثلاثون. (هارون، مقدمة الحيوان). وإلى هؤلاء الثلاثة اندفع الجاحظ منافسًا، ويذكر أن شعاره كان: (إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح).
ويذكر هوس الجاحظ الشديد بالكتب متمثلًا في شهادة كثر بقراءته لأي كتاب يقع بين يديه، فخرج عن يديه ما يقارب ثلاثمائة وستين مؤلفًا، عاش الناس عليها، في عصره وبعد عصره؛ حتى قيل إن الناس عاشوا عيالًا عليه في البلاغة والفصاحة.
كما أن الجاحظ اتصل باليونان وثقافتهم مما ترجم عنهم، وعن طريق المتكلمين، ومجالسته للمتثقفين باليونانية. كما حذق الثقافة الفارسية مما ترجم من الفارسية، وتأثر بخطابة أرسطو، وقد شابه أصحاب الخطابة في استعمال القياس المضمر وهو المذهب الكلامي عند البديعيين. وقد نقد التراجم والمترجمين من اليونانية لاسيما كتاب المنطق، فذكر أنه خرج في أسلوب سقيم، ويظهر من كتاب البخلاء أن الجاحظ يعرف اللغة الفارسية، فكان يحدث أهلها بها. وهذه الثقافات واضحة جلية في كتبه.
ويعد الجاحظ من أكثر المؤلفين طرفة في أسلوبه؛ إذ لا يعبس في كتبه، ولا يحمل القارئ على العبوس، بل يمس مواضيعه بعصا الفكاهة فتندفع كلها مداعبة تتدفق منها الفكاهة، وكان لهذه السمة قدرة على جمع قلوب القراء في عصره وعصرنا. وتذكر في عصره حكايات البحث عن كتب أبي عثمان عمرو بن الجاحظ، ويذكر ابن الأخشاد بحثه عن كتاب الفرق بين النبي والمتنبي، ونداءه في عرفات في الحرم بذلك. كما يشهد له خصومه ومنافسيه بمهارته وقدراته، ومن هؤلاء المسعودي-وكان شيعيًا- وقد شهد له بالصدارة والجدارة رغم ما كان عليه من الاعتزال وعداوة الشيعة.
ويذكره ثابت بن قرة قائلًا: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته؛ والثاني الحسن البصري، فلقد كان من درارى النجومًا علمًا وتقوى؛ والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين…إلخ. ويروى في شهرته أنه قيل لأبي هفان: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيها ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.
ويشير شوقي ضيف إلى الجهل ببداية كتابات الجاحظ، ثم يبدو له أنه كان يلقى كثيرًا من الإهمال أول الأمر، حتى كان يضطر حين يؤلف إلى أن ينسب عمله إلى بعض الكتاب القدماء النابهين أمثال ابن المقفع، أو الخليل، أو العتَّابي؛ حتى إذا كان عصر المأمون، سُئل الجاحظ في عقيدة الإمامة ومستحقيها من العباسيين والشيعة-وكان أمرًا شغل المأمون – فكتب وأجاد وأعجب المأمون بما كان منه، وهنا بدأت شهرته. وقد روي عن ابن العميد قوله: (إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا).
عُني الجاحظ بصياغته، وكان يبتدئ كتاباته بألفاظ على حال من الجزالة والرصانة، أو العذوبة والرشاقة. وكان يقول بعدم انحطاط اللفظ إلى السوقية، وعدم بعده إلى الغريب الوحشي. وكان الجاحظ شديد العناية بأسلوبه مراعيًا للعلاقات بين الألفاظ والجمل، قادرًا على الملائمة بين المعاني والألفاظ والموضوعات، مجملًا إياها بالطرفة، متنقلًا في كتاباته بين الجد والهزل بشكل رصين. والسمة الغالبة على كتاباته هي حشد الحقائق، وغرائب الطباع، والنكات الطريفة، والأمثال؛ ما ينبئ عن سعة ثقافته التي هي خليطٌ من ثقافاتٍ عدةٍ، وطبقات مجتمعيةٍ كثيرة. وقد صرَّح في البيان والتبيين أنه قصد إلى ذلك. وهذا الحشد لا يستقيم إلا بالاستطراد، وهي السمة التي لا يمكن ذكر أسلوب الجاحظ وإغفالها؛ فأسلوبه لا يستقيم إلَّا بها، ومن هنا كانت فرادته. وسرد الشواهد، والنوادر، والتراجم لا يتم إلَّا بهذا الأسلوب.
وأقصر رسائله تحمل خصائص أسلوبه؛ فتحوي الشعر والخبر، وتشير إلى مهارته العقلية وقدراته المنطقية. أما الرسائل الأدبية، فيذكر شوقي ضيف أنها تعد بالعشرات، وهي مجموعة في (رسائل الجاحظ)، وفيها مناقب الأتراك، وفخر السودان على البيضان. وإلى جانب هذه الألوان الكتابية، القصص النثرية التي تنثر في كتبه. ولون آخر في كتاباته، هو كثرة ما أذاع فيها من النوادر ترويحًا عن نفس القارئ، وكان ينبه على حكاية النوادر كما هي، ومع أهلها؛ وضمَّن هذا في البلاغة. وأدب الجاحظ كما يقول بعض الباحثين، هو أدب واقعي طبيعي يؤثر فيه التصرخ على التلويح، كما هو أدب حي مستمد من الدرس، والتفكير، والتجربة؛ ويعتمد على بلاغة العرب في الجاهلية، وعلى الإسلام والكتاب والسنة، وما نقل إلى العربية، ويعتمد أولًا على تفكيره ورأيه. ويذكر خفاجي براعة الجاحظ ويعده إمام الوضع والتأليف نظيرًا لابن المقفع إمام الترجمة، (خفاجي، ص 335).
وفي كتابه البيان، شدد على عناصر مهمة إذا التزمها المتعلم لم يجانب البلاغة والفصاحة، وهي: مطابقة العبارة لمقتضى الحال، البيان ووضح الدلالة، الإيجاز وعدم التكلف.
وكثر من رسائله طبعت بطابع المناظرة، وكان مناظرًا متمكنًا، اعتنق مذهب المعتزلة وخالف أستاذه النظام في أشياء كثيرة. أما موقف الجاحظ من الشعوبية، فقد وقف لهم بالمرصاد يدحض ما يجيئون به، ويبرهن على الضد من كلامهم، وينصب لهم أبوابًا في الجدل في كتبه قائم على المنطق والرصانة، تظهر فيه لفتات سريعة من السخرية والفكاهة. أما رسائله الإخوانية، فتموج بطرافته وبلاغته.
للجاحظ مؤلفات كثيرة، وإن كان قد سقط منها البعض. وقد أغنت المكتبة العربية وسدَّت كثيرًا من النواقص في كثيرٍ من الأمور؛ فإذا تطرق الباحث إلى أمرٍ لا يجد فيه شواهد عند كثيرٍ من الكتَّاب، فإنَّه يجده جليًا وواضحًا في عبارةٍ فصيحةٍ عن الجاحظ. وقد ذُكر أنَّ له ثلاثمائة وخمسين كتابًا تشكل موسوعةً لثقافات كثيرة اختلطت في عصره. ورغم أنَّ كثيرًا من رسائله قد أخضعت للتحقيق، إلَّا أن كثيرًا منها لا يزال محفوظًا مخطوطاتٍ مبعثرة. ولثقافته الواسعة، كتب في مجالاتٍ مختلفة. فنجد له مؤلفات في: الفلسفة والاعتزال والدين؛ والسياسة والاقتصاد، والاجتماع والأخلاق، والتاريخ والجغرافيا، والعصبية وتأثر البيئة، والأدب واللغة.
أمَّا الفلسفة والاعتزال والدين، فله كتاب في خلق القرآن، وكتاب آي القرآن، وكتاب الرد على اليهود، وكتاب الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير، وكتاب الاعتزال وفضله؛ وهو ما شاع باسم (فضيلة المعتزلة)، وقد ردَّ عليه الراوندي بـ (فضيحة المعتزلة)؛ وكتاب الاستطاعة وخلق الأفعال.
أمَّا في السياسة والاقتصاد، فله رسالة في مناقب الترك، وكتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب. وله أيضًا رسالة في الخراج، وكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب، وكتاب فضول الصناعات ومراتب التجارات.
وفي الأخلاق، له رسالة أخلاق الفتيان وفضائل أهل البطالة، وكتاب البخلاء، وكتاب أخلاق الشطَّار، ورسالة في إثم السكر.
وفي العصبية، كتب كتاب القحطانية والعدنانية، والبيضان والسودان، والسودان والحمران، والعرب والعجم. ورسائل أخرى.
وفي التاريخ والجغرافيا، كتب عن الأمم السالفة والملوك، وكتاب الأمصار، وكتب الأخبار – وهي كثيرةٌ، وبعضها سيق في مجمع كلامه في البيان والتبيين. وكتب أيضًا في العلوم، فله رسالةٌ في الكيمياء، وأخرى في المعادن، وأخرى في الطب.
وأذكر هنا أبرز ما ألَّفه:
المصادر والمراجع
(1) دراسات في النثر العباسي: القسم الثاني، حسام محمد علم، الطبعة الثالث، 2006
(2) الأدب العربي في العصر العباسي، ناظم رشيد، مديرية دار الكتب والنشر، الموصل، 1989
(3) الأدب العربي وتاريخه في العصر الأموي والعباسي، القسم الثاني، محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت.
(4) تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة.
(5) مقدمة كتاب الحيوان، عبد السلام محمد هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية.
شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…
أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…
عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج 30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…
إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج 5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…
بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج 12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…