هاجر منصور سراج
16 مارس، 2025
بُعثَ محمَّدٌ بن عبد الله رسولًا بعد قرابة ستة قرون من ظهور المسيح عيسى بن مريم. وقد جعل الله رسالته آخر الرسالات السماوية، وجعلها ناسخةً لما قبلها. وقد عاش الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، اثنين وستين عامًا، أنفق منها ثلاثة وعشرين عامًا رسولًا. ومن هذه السنوات، أنفق ثلاثة عشر عامًا في مكَّة، ثم هاجر إلى المدينة، وأنفق فيها عشرة أعوام. وفي هذه العشر الأخيرة، انتشر الإسلام في بقاع الأرض، ودخل الناس في الإسلام أفواج. وبالإسلام، انتقل المجتمع العربي من البداوة إلى الحضارة. وانتقل من قبائل تتحكم فيها العصبيات القبلية إلى أمَّة واحدة لا يفضَّل فيها الأبيض على الأسود، ولا العربي على الأعجمي إلا بالتقوى.
ورغم نبوة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، لم ينفك الرسول يؤكد أنَّه محض بشر؛ فهو ضعيفٌ متواضع، لا يفتأ يتوجه إلى الله بطلب الرحمة والمغفرة مرددًا أنَّه محض عبدٍ مستضعف. وقد أكَّد القرآن على هذا أيضًا، في قوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم يُوحَى إِلَيَّ إِنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ)) (فصلت - 6). وهو على هذا بشرٌ ذو خلقٍ عظيم؛ إذ اجتمعت فيه خصائص الكمال الإنساني، وقد وصفه القرآن في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم - 4)، وقد قال الرسول عن نفسه: (أدَّبني ربي فأحسن تأديبي).
وقد عرف المسلمون خصائص النبي صلى عليه وسلم، فصوَّروها في أشعارهم، وصوَّروا حبَّهم له. ويصنف البعض هذا اللون الشعري تحت باب المديح ويرونه نوعًا من أنواع الشعر الديني. وهذا النوع قيل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يسمى رثاءً؛ لأنَّه لا يحمل عاطفة المفجوع المحزون، بل يحمل مديح الشاعر للأحياء. ولهذا النوع الشعري مكانةٌ كبيرةٌ عند المسلمين بسبب تعلقه بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مرَّ هذا النوع الشعري بخطواتٍ متأنيةٍ حتى ظهر في سماته كلها عند المتصوفة في العصر المملوكي، ثم ما لبث أن انتشر بين المسلمين حتى أصبحنا نرى الشعراء يتسابقون في المناسبات الدينية، لا سيما المولد النبوي، لمديح الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد احتفى المسلمون بهذه القصائد، فبلغت بعضها مائتي بيتٍ، كما أطلقوا عليها أسماء تدل على احتفائهم هذا، مثل (البردة، نهج البردة، تفصيل البردة، أمان الخائف، الفتح المبين، فتوح الحق). (محمد، 1996، 17).
جاء في لسان العرب، المدح هو نقيض الهجاء، وهو حسن الثناء. يقال مدحته مدحةً واحده. ومدحه مدحًا. والمدائح جمع المديح من الشعر الذي مُدِح به كالمِدْحة والأمدوحة.
والمدح في الأدب العربي عادةً ما يساق بغرض التكسب، فكان الشاعر يتوجه إلى الخليفة، أو الأمير، أو أحد القادة، أو أحد كبار الدولة بحثًا عن عطيةٍ أو مال. والمألوف أن يخلع الشاعر على الممدوح أفضل الصفات وأعلاها، وأن يصفه وصفًا دقيقًا مصوِّرًا بطولاته ومواقفه. وكان الشعراء يتحرَّون نظم هذه قصائد على مستوى عالٍ من اللغة والبلاغة.
وفي العصر المملوكي، دعت عدَّة أسباب إلى ظهور قصائد مديحٍ نبوي، تسعى إلى إبراز شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان سيادته وأفضليته، كما تسعى إلى بيان سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض مواقفه؛ فيكثر فيها ذكر الأماكن الحجازية التي أمضى الرسول فيها حياته. وهي قصائد غرضها روحاني، يسعى بها الناس إلى تذكر الرسول ومنهجه. وفي نهاية هذه القصائد، يصرح الشاعر بطمعه في أن يشفع الرسول له يوم القيامة. وتتميز هذه القصائد بصدق العاطفة، ورقة الإحساس.
لم يبلغ المديح النبوي صورته الأخيرة إلا في العصر المملوكي الذي احتفى فيه الشعراء بالقصائد وتسابقوا لنظمها، وأفردوا لهذا الغرض الشعري دواوين خاصة. ورغم هذا، خضع المديح النبوي لمراحل تطور حتى اكتمل شكله، وقد بدأ هذا بمرثيات حسَّان بن ثابت. أمَّا قصيدة الأعشى التي نظمها في مدح الرسول، فلا تقع ضمن المدائح النبوية إطلاقًا؛ لأن الشرط الأساسي في هذا النوع هو صدق العاطفة الدينية. (مبارك، 1935، 29). كما لا تُعدُّ قصيدة (بانت سعاد) ضمن هذا النوع؛ فالشاعر كعب بن زهير لم يقصد مدح الرسول إلَّا خوفًا من القتل. فكأنما استشفع بشعره عند الرسول، فكان أن شفع له. وهذه القصيدة - على كثر ما تغنى بها المسلمون وما عارضها الشعراء - قصيدةٌ جاهلية لا يكاد يظهر فيها شيءٌ من سمات الإسلام، وليس فيها إلَّا ما انتهى إليه كعب بن زهير حين مدح الرسول من قوله:
أُنْبِئتُ أنَّ رسول الله أوعدني ♦♦♦ والعفو عند رسول الله مأمولُ
وقد تغنَّى المسلمون بهذه القصيدة واحترموها، حتى أصبحت نوعًا من الأذكار يعاهد بعضهم نفسه على قراءتها كل يوم؛ تبركًا بالممدوح فيها. (مبارك، 1935، 26). أمَّا قصائد حسَّان بن ثابت فلا تصنَّف في هذا أيضًا؛ لأنَّها إنَّما قيلت مدحًا لهجاء قريش، وقد قيلت على طريقة أهل الجاهلية في مقارعة الخصوم. وهو إذ يفتخر بالرسول وبالمسلمين، يهجو المشركين. فلم تُقَل لهدف روحاني، أو بعاطفة صادقة، بل دفعته إليها العصبية. كما جاءت قصائده تحمل سمات القصائد الجاهلية من ذكر المحبوبة والخمر، ثم التطرق إلى وصف الناقة وما إليه. غير أنَّ بعضًا من بوادر التصوف تظهر في قصيدته الهمزية:
فمن يهجو رسول الله منكم ♦♦♦ ويمدحه وينصره سواءُ
فإن أبي ووالده وعرضي ♦♦♦ لعرض مُحمَّدٍ منكم وِقاءُ
أمَّا الروح الدينية في قصائد حسان بن ثابت، فلم تظهر إلا في مراثي الرسول. وفي قصائده هذه ذكرٌ للمسجد، والمصلى، والمنبر، وذكر لهدى الرسول ورشده وتعاليمه، وذكر لشوقه للقاء الرسول في الفردوس. وفي هذه القصائد رقةٌ لا تشبه القوة التي كانت في قصائده حين كان يهاجي قريشًا، حتى ليُشك أنَّها منحولة. (مبارك، 1935، 27). ومراثي حسان هذه أسَّست للمدائح النبوية التي قيلت لاحقًا؛ إذ اقتفى الشعراء أثره في ذكر بعض العبارات، مثل: (طيبة، بكر آمنة، صلى الإله على)، كما اتبعوه في الخاتمة التي اختتم بها مراثيه، في التصريح بالرغبة بالاجتماع بالرسول في الجنة. مثل ما قاله:
وليس هوائي نازعًا عن ثنائهِ ♦♦♦ لعلي به في جنة الخُلْدِ أُخْلُدُ
مع المصطفى أرجو بذاك جوَارَه ♦♦♦ وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأَجْهَدُ
ولمَّا قامت الدولة الأموية، ظهرت قصائد تمدح الرسول، إلَّا أنَّ مدحه كان وسيلةً إلى مدح آل بيته وتمييزهم. وقد نشأ العطف في قلوب المسلمين على أهل البيت حين خُذِلَ عليّ بن أبي طالب يوم رأى نفسه أحقَّ بالخلافة، ويوم قتل، ويوم قتل الحسين. وقتل هذا الأخير أجج مشاعر المسلمين تجاه آل البيت، وجعل من الحسين إيقونةً للقصائد، والخطب، والرسائل. كما أضيف ذكر آل بيت الرسول في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن شعراء الهاشميين، أو شعراء الشيعة: الكميت بن زيد، ودعبل الخزاعي، والشريف الرضي. والكميت كان متشيعًا، وكان يمدح الهاشميين في قصائد طوال ومقطَّعات. وتدعى قصائده المدحية بالهاشميات. وتحمل قصائده قيمةً تاريخية كبيرة؛ إذ تبرز فكر معتدلي الشيعة أواخر القرن الهجري الأوَّل، وأوائل القرن الهجري الثاني. (فروخ، 1981، 598). وأشهر هاشمياته مطوَّلةٌ من مائةٍ وأربعين بيتًا، مطلعها:
طَرِبت وما شوقًا إلى البيض أطربُ ♦♦♦ ولا لَعِبًا مني وذو الشيب يلعبُ
وقد قال فيها:
إلى النفر البيضِ الذين بحبِّهم ♦♦♦ إلى الله فيما نابني أتقرَّبُ
بني هاشمٍ رهط النبي فإنني ♦♦♦ بهم ولهم أرضى مرارًا وأغضب
إليكم ذوي آل النبي تطلعتْ ♦♦♦ نوازع من قلبي ظِماءٌ وألبب
أمَّا دعبل الخزاعي، فشاعر عباسي عُرف بمخالطته للشطار والصعاليك، وبهجائه جميع الناس حتى من أحسن إليه، وبهجائه الخلفاء أيضًا. غير أنَّه كان يحب آل البيت حبًّا غامرًا، وربما يكون قد نشأ على هذا الحب، فنشأ متشيعًا لهم. من أشهر قصائده تائيته التي مطلعها:
مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ ♦♦♦ ومنزلُ وحي مقفرُ العرصاتِ
وقد قال فيها:
ملامَك في آلِ النبيِّ فإنهم ♦♦♦ أحبَّاي ما عاشوا وأهل ثقاتي
فيا رب زدني من يقيني بصيرةً ♦♦♦ وزد حُبَّهم يا ربُّ في حسناتي
أمَّا الشريف الرضي، فكان علويًا، وكان ولي نقابة الأشراف العلويين. وكان يحمل ثورةً مكبوتةً تجاه العباسيين، وكانت تبرز في مراثيه للحسين وآل البيت التي يصوِّر فيها التفجع والحزن حتى لَقَّبه البعض بالنائحة الثكلى. من شعره:
مرهقًا يدعو ولا غَوثَ لهُ ♦♦♦ بأبٍ بَرٍّ وجَدٍّ مصطفى
وبأمٍّ رفع الله لها ♦♦♦ عَلَمًا ما بين نِسوان الورى
يا رسول الله يا فاطمةَ ♦♦♦ يا أميرَ المؤمنين المرتضى
كيف لم يستعجل الله لهم ♦♦♦ بانقلاب الأرض أو رجم السما
وشعراء الشيعة هؤلاء لم ينطلقوا في شعرهم من تأمل شخصية النبي؛ بل شعرهم هذا مظهر من مظاهر الصراع السياسي. (مكي، 1991، 60). ولم يكن تناول سيرة الرسول هدفًا مقصودًا لذاته، بل كان موظَّفًا لمدحهم آل البيت. فكان «مجرَّد مُنْطَلَق لهم لكي يبسطوا قضيَّتهم وحججهم لأحقيَّة أئمة آل البيت في الخلافة». (مكي، 1991، 73). ورغم هذا، كان لأشعار شعراء الشيعة أثرٌ كبيرٌ في ظهور المدائح النبوية. كما كان لشعراء الدولة الفاطمية دورٌ كبيرٌ أيضًا في مدح الرسول وآله وسيلةً لمدح الخلفاء الذين أحاطوا أنفسهم بهالةٍ من القداسة. وقد جاء شعر هؤلاء موجَّهًا، في أصله، إلى المنتصر، ولا ينطلق من نزعة صوفية روحانية ولا من عقيدة تشيع. ومن شعراء الفاطميين ابن هانئ الذي كان يمدح خلفاء الفاطميين مدحًا تجاوز به المسموح والمألوف في التشبيه حتى رفع فيه الممدوح فوق مستوى البشرية.
وشعر المدح التقليدي ومدح آل البيت مرحلتان، ثم جاءت المرحلة الثالثة التي ظهر فيها شعر المتصوفة الأوائل الذين قصدوا الانصراف عن زينة الدنيا وزخرفها، فاتخذوا الرسول والصحابة قدوةً. ولمَّا اشتدَّ التصوف وتشكَّل في صورته الأخيرة، ظهر في شكل التشوق إلى المقدسات الذي كان الشعراء يبرزونه في موسم الحج. ثم انتقل إلى المرحلة الأخيرة، فتجلى في شكل القصائد التي تقال في المولد النبوي. وهذه المراحل الثلاث ظهرت في عهد الدولة الفاطمية والأيوبية، واشتدت في عهد الدولة المملوكية.
يُصنَّف العصر المملوكي ضمن مصطلح الدول المتتابعة الذي أشار الحمصي إلى أنَّه يبدأ ببدء الحروب الصليبية عام 489 هـ/ 1095 م حتى وصول الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون، إلى مصر عام 1213 هـ/ 1798 م. وهذا التاريخ يشمل أواخر الدولة الفاطمية، وأواخر الدولة السلجوقية، وأواخر الخلافة العباسية، والعهد الزنكي، والأيوبي، والمملوكي الأوَّل والثاني، ثم العهد العثماني. (الحمصي، 1981، 5).
ويوصف الأدب في هذه العصور بالضعف والتفاهة، إلَّا أنَّه يتخلى عن تفاهته حين يجبره واقع حروب الصليبين على المجابهة، والدفاع عن الإسلام، والتحريض على الجهاد. وقد حدث هذا في عهد الدولة الزنكية، والأيوبية، والمملوكية الأولى. وكان من ضمن هذا الدفاع والمجابهة، مدح الرسول والإشادة برسالته السماوية التي هي خاتمة الرسالات كلها.
وإذ نتحدث عن المديح النبوي، نجد أنَّ عدَّة أسباب أدَّت إلى ظهوره وتطوره، ثم اتضاح سماته، كما اشتهر شعراء أجادوا هذا النوع الشعري، وأفردت دواوين خاصة بهذا النوع الشعري. وقد كان لهذا الانتشار وهذه الشهرة أسباب سياسية، واجتماعية، ودينية.
تتمثل الأسباب السياسية في اضطراب العصر؛ إذ كان ثمة حروب صليبية بالإضافة إلى الغزو المغولي. فكان لذين التهديدين دورٌ كبيرٌ في زعزعة نفسية المسلمين؛ إذ شكَّلا تهديدًا للوجود الإسلامي نفسه. وإذ هبَّ المسلمون للدفاع عن بلادهم، شارك الشعراء أيضًا في الجهاد، إمَّا بشعرهم أو بأرواحهم. ولمَّا كان الصليبيون قد اتخذوا الدين ستارهم في الحروب، كان حتمًا على الشعراء أن يدافعوا عن الإسلام وعن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وكان لهذه المدائح مقاصد عديدة، فمنها الدفاع عن الرسول والإسلام، ومنها الدعوة إلى الجهاد، ومنها الدعوة إلى تذكر الدين القويم، وتذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها تشجيع المجاهدين على الإقدام بتذكيرهم بجهاد الرسول وصحابته، وبصبر الرسول واحتماله، ثم التشفع به وطلب نصرته.
وإلى هذا، لم يكن للعرب في هذا العصر أي دور سياسي؛ إذ حكم المماليك الدولة ولم يتركوا لهم شيئًا، بينا كانوا يرون أنفسهم أحقُّ بالحكم لأنهم عرب، ولأن الرسول منهم. فكانت وسيلتهم للتعبير عن شعورهم هذا بتقديم الشعر الديني، ثم التسلل منه إلى ذكر آل البيت والرسول، ثم الخلوص إلى أنَّ الرسول عربي وأنَّ العرب هم الأحق بالسلطة، لا سيما آل البيت. فهم في هذا كانوا في صراع داخلي يفاخرون فيه بالعنصر العربي سواء في الدين أو غيره.
إضافةً إلى هذا، أذكى المماليك الشعور الديني عن طريق تشيجع المتصوفة وسيلةً لإخراس الشعب وشغلهم بالدين والتصوف عن المعارضة السياسية؛ فكان أن بنوا لهم التكايا والزوايا، وأحيوا الاحتفالات الدينية. من هذا ما كان من احتفالهم بالمولد النبوي الذي كانوا يوزعون فيه الصدقات، ويقيمون فيه الولائم، ويُقرأ فيه القرآن، وتنشد فيه قصائد المديح النبوي. كما كانوا يحتفلون بموسم الحج، وبالحجاج قبل سفرهم إلى مكة. وكانوا يقيمون احتفالات شعرية ينظم فيها الشعراء قصائد مديح الرسول، والتشوق إلى زيارة مكة والمدينة، وخصوصًا قبر الرسول. (محمد، 1996، 20 وما بعدها). ومثال التشوق إلى الأماكن المقدَّسة، قول الصرصري:
ألا ليت شعري هل أزورُ قبابها ♦♦♦ فتحمدُ فيها العيسُ شدّي ورحلتي
وأنشد في أكنافها مُتعرِّضًا ♦♦♦ لمن نظمُ مدحي فيه تاجي وحليتي
وقول الصفدي:
أكرِم بآثارِ النبي محمَّدٍ ♦♦♦ من زاره استوفى السرور مزارهُ
يا عين دُونك فانظري وتمتَّعي ♦♦♦ إن لم تريه فهذه آثاره
تتمثل الأسباب الاجتماعية في الطبقية؛ إذ ساد النظام الإقطاعي العسكري في عصر المماليك، وكان المماليك في قمة الطبقات الاجتماعية، إضافةً إلى استئثارهم بالوظائف الكبرى، وبثروة البلاد، وبالحكم. وكان الناس يضيقون بهذا، لكنهم لا يملكون الجرأة لتعبير عن هذا، فكان مدحهم للنبي له غرضان: تقديم مثلٍ أعلى للحاكم، والمقارنة بين حال المسلمين في الماضي وما صاروا إليه. إضافةً إلى هذا، ازدحم العصر المملوكي بالكوارث والأزمات التي كان الناس يعتقدون أنَّها عقاب الله بسبب المجون واللهو السائد بين الطبقات العليا؛ فكانوا يتخذون هذا النوع الشعري وسيلةً للاستشفاع والتوسل، وللتكفير عن الذنوب.
تتعلق الأسباب الدينية بالأسباب السياسية السابقة في أنَّ الصليبيين اتخذوا الدين ستارًا، فهاجموا الإسلام وهاجموا الرسول، فكان أن رد عليهم المسلمون بقصائد المديح النبوي وبالجدل الديني الذي أذكاه الجدل بين المذاهب الإسلامية أيضًا. إضافةً إلى ما كان من انتشار التصوف واتساع متبعيه؛ فنما الشعور الديني، وساهم الأمراء المماليك في إذكاء هذا الشعور. وقد زخر هذا العصر بكثيرٍ من البدع الدينية من قبيل إضافة الصلاة على الرسول عقب الأذان، وانتشار الحديث عن الرؤى، لا سيما رؤية الرسول في المنام، كما انتشر التنجيم، والشعوذة. وكانت هذه البدع الأخيرة دافعًا إلى الاستغفار والاستشفاع بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم. (محمد، 1996، 36 وما بعدها).
ويمكن أن أختزل هذه الأسباب في عاملين اثنين، هما: انتشار الصوفية، وتشجيع الصوفية. فانتشار الصوفية بسبب ما كان من الأوضاع السياسية والاجتماعية السيئة التي كانت تدفع الناس دفعًا إلى العودة إلى الدين، فكان أن سلك فيها أناسٌ كثر. أمَّا تشجيع الصوفية فبسبب المماليك الذين رأوا فيها وسيلةً لتهدئة الأوضاع، فأسروا رواتب للعلماء والطلاب، واعترف سلاطين المماليك بشيوخ الطرق رسميًا.
من حيث مضمون المدائح النبوية، أشاد الشعراء بأخلاق الرسول، ومظهره، ومواقفه، ومعجزاته. فمدحوا أخلاقه العربية الكريمة، وأخلاقه التي وهبها الله له، ولم يتعلمها من بيئته. وصوَّروا جمال هيئته، ومواقف رحمته، وشجاعته، وقوَّته في الحق، وبطولاته في الغزوات. كما صوَّروا معجزاته بأرق الألفاظ، وزادوا عليها مما شاع بين الناس من مبالغات. وبسبب هذا، جاء المديح النبوي مختلفًا عن المديح التقليدي الذي لم يكن يُسبغ على الممدوح فيه إلا أكمل الصفات البشرية من الكرم، وطيب المحتد، وعراقة الأصل. وقد ميَّز الشعراء الرسول في هذه المدائح بسبب إدراكهم لمفهوم النبوة وميزتها، وأنَّ النبي مختلفٌ عن بقية البشر في صفاته، وأنَّهم يمكن أن يمدحوا جانبه الإنساني، وجانبه الروحي، والديني، والنبوي. ومثال مدح المحاسن الجسدية، قول الصرصري:
ستر الحُسْنُ منه بالحسن فاعجب ♦♦♦ لجمالٍ له الجمالُ وقاءُ
فهو كالزهر لاح من سَجَفٍ الأكـــمـــام والعودُ شُقَّ عنه اللِّحاءُ
ومثال مدحه بقوته في الحق، وبمعالجته مشاكل مجتمعه:
مُتمكِّنُ الأخلاقِ إلا أنَّه ♦♦♦ في الحُكْمِ يَرضى للإله ويغضبُ
يَشْفي الصدور كلامه فدواؤه ♦♦♦ طورًا يَمُرُّ لها وطورًا يَعْذُبُ
ومثال مدحه بطيب المنبت وسمو الأصل:
لله مما قد برا صفوةٌ ♦♦♦ وصفوةُ الخلقِ بنو هاشمِ
وصفوةُ الصفوة من بينهم ♦♦♦ محمَّدُ النور أبو القاسم
ومثال مدحه بسمو الأخلاق والمواهب الإلهية:
خلائقه مواهِبُ دون كسبٍ ♦♦♦ وشتان المواهبُ والكسوبُ
وآداب النُّبوة معجزاتٌ ♦♦♦ فكيف ينالها الرجلُ الأديبُ
ومثال مزج أخلاقه بجماله وقوَّته:
نَبيٌّ سخيٌّ حييٌّ وفيٌّ ♦♦♦ أبرُّ البريِّةِ قولًا وفِعلا
وسيمٌ عليه يَلوحُ القبولُ ♦♦♦ وسيما السعادة مذ كان طفلا
وما زال يملأ أرض العدو ♦♦♦ في طاعة الله خيلًا ورِجلا
وإذ تملَّك الشعراءَ الشعورُ الديني إزاء الرسول، اختلط الحب في قصائدهم، وتجلَّى في تعابيرهم، فأبدوا شوقًا لمقابلة الرسول، وأبرزوا سموه وكماله، وتعلقهم به واحترامهم له. وتميَّز المتصوفة بجملةٍ من التعابير الخاصة، واهتموا بجانب الغيبيات في شخصية الرسول، وإبراز أنَّه كان مهيأً للرسالة. (محمد، 1996، 210 وما بعدها). من ذلك قول البوصيري:
ألِفَ النُّسك والعبادة والخلـــــوة طفلًا وهكذا النُّجباءُ
وإذا حلَّتِ الهداية قلبًا ♦♦♦ نشطتْ في العبادةِ الأعضاءُ
ومثال التغني بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، قول البوصيري:
صدِّق بما حُدِّثتَ عنه ففي الورى ♦♦♦ بالغيبِ عنه مصدِّق ومكذِّبُ
فاطربْ لتسبيحِ الحصى في كفِّه ♦♦♦ فمن السَّماعِ لذكره ما يُطرِبُ
والجذعُ حنَّ له وبات كمُغرمٍ ♦♦♦ قلقٍ بفقدِ حبيبه يتكرَّب
واهتز من فرحٍ (ثبيرٌ) تحته ♦♦♦ ومن الجبال مُسَبِّحٌ ومُؤوبُ
وشفى جميع المؤلِمات بريقه ♦♦♦ يا طيب ما يرقي به ويُطَيِّبُ
أمَّا من حيث أسلوب المدائح النبوية، فقد ظهرت ثلاثة أساليب. الأول، اتباع الشعر التقليدي القديم، وهذا الاتباع نبع من رغبة العرب آنذاك في مقارعة الصليبين، وكانت وسيلتهم في ذلك اتباع الأسلوب القديم. والأسلوب الثاني، الأسلوب البديعي الذي كان سائدًا آنذاك؛ فكان حشر ضروب البديع في القصيدة هدفًا إلى جانب هدف مدح الرسول. أمَّا الأسلوب الثالث، فالأسلوب الشعبي من موشحات، وزجل، وغيرها. وقد كان يقصد إلى هذا عامة الشعب، وهو شعرٌ ملحون لأنَّ قائليه لم يحصلوا على ثقافةٍ عالية. ورغم هذا، حرص الشعراء في هذا العصر على نظم قصائد عالية منطلقين من ذلك من شعور أنَّ النبي لا يمكن أن يمدح في قصائد غير جيِّدة، فتميِّزت المدائح النبوية بالجزالة وحسن السبك دون بقية القصائد آنذاك. (أمين، 1986، 269). أمَّا ما كان من تخميس القصائد وتشطيرها، أو من نظم الموشحات المدحية والزجل المدحي فقد كان الغرض إنشاديًا؛ إذ أرادوا إنشادها في مجالس الذكر والاحتفالات الدينية. (محمد، 1996، 310 وما بعدها).
أمَّا من حيث بنية القصيدة، فقد غلب على قصائد المدح النبوي تقليد المنهج القديم الذي كان يسعى إلى خلق جوٍّ نفسي خاص، فيبدأ إمَّا بوصف الأطلال، أو بالغزل. وقد اشتهرت قصائد المدح النبوي بذين المقدمتين رغم تنوع المقدمات. أمَّا وصف الأطلال، فيكون بذكر الأماكن الحجازية التي طاف فيها الرسول، وإظهار الشوق والحب لتلك الأماكن. وأمَّا مقدمة الغزل، فالمحبوبة متخيلة، والتغزل بها سطحي عفيف، وقد يرد بصيغة المذكر. مثال الغزل:
سيف العيون على العشاق مسلولُ ♦♦♦ وصارم اللحظ مسنونٌ ومصقولُ
والخد كالجمر أو كالورد في شبه ♦♦♦ والخال في خده بالنار مشعولُ
وثمة قصائد خلت من المقدمات، كما هنالك مقدمات عُني أصحابها بتقديم المواعظ والحكم، وضرب الأمثال. والهدف من هذه المقدمات هو التذكير بزوال الدنيا والدفع إلى الخشية ومراقبة الأعمال. من ذلك:
قم فبادر من قبل رفع النعوشِ ♦♦♦ حلبة السبق ذا إزار كميش
وتدبر خلق السماء ففيها ♦♦♦ عبرٌ جمَّةٌ لذي التفتيشِ
وتفكَّر في خلقة الأرض تنظم ♦♦♦ عجبًا في مهادها المعروشِ
ينتقل الشاعر بعد هذه المقدمة إلى وصف الرحلة شأنه في هذا شأن الاتجاه التقليدي في الشعر حين كان الشاعر يصف الرحلة الطويلة حيث يعاني الصعاب لبلوغ الممدوح؛ بيد أنَّ شعراء المدائح النبوية جعلوا الرحلة وسيلةً لإظهار شوقهم وحبهم، كما أسبغوا هذه المشاعر على الراحلة أيضًا لترك أكبر أثرٍ في نفس السامع. ومثال هذا قول الشاعر:
ألستَ تراها كلَّما ذُكر الحمى ♦♦♦ تمدُّ له أعناقها وخطاها
سرىً وحنينٌ واشتياقٌ ثلاثةٌ ♦♦♦ برت لحمها بري السهام مداها
تتكون البردة من مائة واثنين وثمانين بيتًا، وهي أشهر المدائح النبوية، وقد نظمها البوصيري المولود في عهد الدولة الأيوبية، عام 608 هـ/ 1212 م، وهو محمد بن سعيد بن حمَّاد الصنهاجي، وينسب إلى بلدة أمِّه (أبو صير)، أمَّا أبوه فمن بلاد المغرب. كان شاعرًا مجيدًا ذا نفسٍ صوفي وإن لم يكن من المتصوفة، ولعل هذا بسبب غلبة التصوف على العصر. والبردة هي قصيدته الميمية، وله قصيدة مشهورة أخرى همزية. وللبردة أثر كبيرٌ على المسلمين حتى ليقرأها البعض صباحًا ومساءً، ويقام لها مجلسٌ يوم الجمعة بعد صلاة الفجر، وترتَّل في المولد النبوي في إجلال وخشوع، ويقرأها الأطفال في الجنائز، وتكتب في التمائم والأحجبة، كما جُعِلَ لكل بيتٍ فائدة إما في الشفاء أو في الحفظ، وهذه كلها تخاريف! وقد وضعت لها شروحٌ كثيرةٌ، وعورضت، وشطرت، وخمِّست، وسبعت. واحتفاء المسلمين بها جعل لها طبعات كثيرة، وقد طبعت قرابة خمسين طبعة في القاهرة. (مبارك، 1935، 162). وأغلب الظن أنَّ سبب احتفاء المسلمين بهذه القصيدة هي قصة القصيدة التي أحيطت بهالة من التقديس والتعظيم؛ إذ يروى أنَّ البوصيري كان مصابًا بالفالج، فنظم هذه القصيدة يستشفع بها، وكرر إنشادها، ثم نام فرأى الرسول في المنام. وإذ ذاك، مسح الرسول صلى الله عليه وسلم وجه البوصيري بيده، وألقى عليه بردته، فنهض البوصيري ليجد نفسه معافى وقد برأ تمامًا من فالجه. وإيغالًا في المبالغة والتقديس، قام البوصيري وغادر منزله، فلقي فقيرًا طالبه بقصيدته التي رأى في المنام أنَّها أنشدت بين يدي رسول الله، ثم ألقي على قائلها بردة رسول الله.
وهذه القصة دفعت الكثيرين إلى التبرك بالقصيدة وإلى ترديدها في المرض، وفي الجنائز، وفي الكوارث، وفي الشدائد لدفع الأذى والضر اقتداءً بالبوصيري. (أمين، 1986، 265). ولستُ أرمي هنا إلى تكذيب هذه القصة أو تأكيد صحتها، إنما كان قد شاع من ذكر رؤيا الرسول، صلى الله عليه وسلم، في هذا العصر ما يجعل التشكيك فيها أوَّل حكم.
وتتضمن البردة النسيب الروحي الرمزي الذي هو في ظاهره غزلٌ إنساني كما هو الحال عند غزل الصوفية، بينا هو في حقيقته غزل رمزي. وفيها أبيات عن هوى النفس وتحذير منها، ثم أبيات مدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبياتٌ عن مولده ومعجزاته، ثم أبياتٌ في مدح القرآن، ثم أبياتٌ في الإسراء والمعراج، ثم أبيات في جهاد الرسول، ثم استغفار ومناجاة وتوسل. ومطلعها:
أمِنْ تذكُّرِ جيرانٍ بذي سلم ♦♦♦ مزجتَ دمعًا جرى من مُقلةٍ بدمِ
والنسيب هنا تشوُّق إلى موطن الرسول، والأماكن التي زارها، وقد برع في تصوير شوقه وعاطفته حتى لكأنها موطنه أيضًا. يقول:
أيحسب الصبُّ أنَّ الحُبَّ منكتمٌ ♦♦♦ ما بين منسجمٍ منه ومضطرمِ
لولا الهوى لم تُرقْ دمعًا على طللٍ ♦♦♦ ولا أرقتَ لذكرِ البانِ والعلمِ
فكيف تنكر حبًّا بعدما شهدتْ ♦♦♦ به عليكَ عدولُ الدمعِ والسقمِ
وأثبتَ الوجدُ خطى عبرةٍ وضنى ♦♦♦ مثل البَهارِ على خدَّيكَ والعَنَمِ
نعم سرى طيف من أهوى فأرَّقني ♦♦♦ والحب يعترضُ اللذاتِ بالألمِ
وفي أبيات التحذير من هوى النفس، معانٍ جيدةٌ ما لبثت أن سيقت مساق الأمثال، مثل: (والشيب أبعدُ في نُصحٍ عن التهمِ، إن الهوى ما تولَّى يُصمِ أو يَصِمِ، إنَّ الطعامَ يُقوِّي شهوة النهم، والنفس كالطفل). وفي أبيات مدح الرسول، يتحدث عن عباداته وعن إيثاره، وعن زهده، وفي نهاية ذلك يقول:
منزَّهٌ عن شريكٍ في محاسنِهِ ♦♦♦ فجوهر الحسن فيه غيرُ منقسمِ
دع ما ادَّعته النصارى في نبيِّهِمِ ♦♦♦ واحكم بما شِئْتَ مدحًا فيه واحتكمِ
وانسب إلى ذاته ما شئتَ من شرفٍ ♦♦♦ وانسب إلى قدرهِ ما شئتَ من عِظَمِ
فإن فضل رسولِ الله ليس له ♦♦♦ حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفمِ
وله أبياتٌ قويَّةٌ جزلة، رغم أنَّ أخيلتها مقتبسة من صورٍ قديمة، وله أخيلةٌ عامية في التفضيل، وهي من المديح المبالغ الذي «ينافي الأدب الجميل في رعاية حقوق الأنبياء، وهو يساير به نزعةً ساذجةً لا يقرها عقل، ولا يدعو إليها دين». (مبارك، 1935، 156). وهذه المبالغة ترجع إلى قول المتصوفة بالحقيقة المحمدية التي قامت عليها قبة الوجود؛ أي سيد الوجود الذي كان تمجيدهم له جزءًا من تمجيد الله. وقد قوَّى هذا الاعتقاد بأنه سيد الوجود، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس ولا فخر، وأنا سيد ولد آدم، وأنا خيار من خيار). (أمين، 1986، 264). وهذه المبالغة في قوله:
وكل آيٍ أتى الرسلُ الكرامُ بها ♦♦♦ فإنما اتصلتْ من نُورِهِ بهمِ
فإنَّه شمُ فضلٍ هم كواكِبُهَا ♦♦♦ يُظْهِرنَ أنوارُها للناس في الظلمِ
ثم يتكلم عن مولد الرسول وانصداع إيوان كسرى، وانطفاء نار الفرس، وسقوط الشهب على الأصنام. وأغلب الظن أنَّ هذه الحوادث من وضع القصاص، وقد شاع هذا حتى أصبح الكثيرون يؤمنون بحدوثها، وحتى أصبحت شائعةً في المدائح النبوية. كما ذكر معجزاته كسجود الأشجار، وسير الغمامة، والحمامة والعنكبوت في غار ثور، وشفاء المريض والمجنون وغير ذلك مما لم يثبت، ويحتاج إلى تحقيق. (مبارك، 1935، 157). ثم انتقل، بعد هذا، إلى الحديث عن القرآن، فوصفه أنَّه المعجزة الباقية:
دامت لدينا ففاقتْ كُلَّ معجزةٍ ♦♦♦ من النبيين إذ جاءتْ ولم تَدُمِ
ثم تحدث عن الأسراء والمعراج في أبياتٍ جميلة، ووقع على أبياتٍ ذات مبالغة، وختمها ببيتٍ ذي تورية أثقلت خفة الأبيات السابقة. قال:
وقدَّمتك جميع الأنبياء بها ♦♦♦ والرسلِ تقديم مخدومٍ على خدمِ
وأنت تخترق السبع الطباق بهم ♦♦♦ في موكبٍ كنتَ فيه صاحبَ العلمِ
حتى إذا لم تدع شأوًا لمستبقٍ ♦♦♦ من الدنو ولا مرقًى لمستنمِ
خفضتَ كُلَّ مقامٍ بالإضافةَ إذْ ♦♦♦ نوديتَ بالرفعِ مثلَ المفردِ العلمِ
ثم انتقل إلى الحديث عن الجهاد، فوصف الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام بالقوة والشجاعة والبأس، ثم انتقل إلى التوسل بالرسول في نهاية البردة:
يا أكرمَ الخلقِ ما ليَ من ألوذُ به ♦♦♦ سواكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العممِ
ولن يضيقَ رسولَ الله جاهُكَ بي ♦♦♦ إذا الكريم تحلَّى باسم منتقمِ
ومن أبرز شعراء المديح النبوي أيضًا: ابن نباتة المصري، وابن حجر العسقلاني، والشاب الظريف، وشعراء البديعيات، وعلى رأسهم صفي الدين الحلي، وعز الدين الموصلي، وابن حجة الحموي. وينسب البعض ابتكار البديعيات إلى صفي الدين الحلي، بينا ينسبها آخرون إلى ابن جابر الأندلسي. (سليم، 1996، 70؛ أمين، 1986، 267).
البديعيات هي قصائد طويلة نظمت في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظمت جميعها على البحر البسيط، وروي الميم المكسورة، ويتضمن كل بيتٍ منها نوعًا من أنواع البديع. وبحر البسيط وروي الميم هنا هو اقتداء بميمية البوصيري. وقد استحدث هذا الفن في القرن الثامن الهجري، وظاهره مدح الرسول، وباطنه العناية بالبديع. ويبدأ البديعيون بديعياتهم بالتغزل بالأماكن المقدسة في الحجاز، من هذا قول ابن جابر الأندلسي:
بطيبةَ انزل ويمم سيد الأمم ♦♦♦ وانشر له المدح وانثر أطيب الكلم
وقد اعترف معاصرو ابن جابر بسبقه في هذه، ثم جاء بعده صفي الدين الحلي ونظم بديعيته (الكافية البديعية في المدائح النبوية، ومطلعها:
إنْ جئتَ سلعًا فسلْ عن جيرةِ العلمِ ♦♦♦ واقرَ السلامَ على عُرب بذي سلمِ
وقد كان هذا العصر عصر عناية بالصنعة البديعية حتى وصفه مؤرخو الأدب بالضعف والتكلف، وهم على حقٍّ في صفة التكلف لا سيما إذا عرفنا بديعيات تلتزم السين في بداية كل بيت وفي روي كل قافية، وهي بديعية الفازازي:
سلامٌ كعرفِ الروض أخضله الندى ♦♦♦ على خير مخلوق من الجن والإنس
سليلُ خليل الله خاتم رُسله ♦♦♦ وفي الختم منعٌ للزيادة في الطرس
سيادته للرسل غير خفيَّة ♦♦♦ ولا عجب أن يَفْضُل الشخص في الجنس
وهذا التكلف يبرز أنَّ مدح الرسول لم يكن هدفًا، إنما كان وسيلةً لطرح بديعهم وتكلفهم اللفظي الذي يذهب الشعرية، ويخضع الشاعر للضرورات والمعان الجامدة. (محمد، 506 وما بعدها؛ عمراني، 143 وما بعدها).
للمدائح النبوية أثرٌ كبيرٌ على مستويات عديدة، فقد وفَّرت المدائح النبوية أمثلةً عظيمة من العدل الاجتماعي، وأذكت في نفوسهم مفهوم العدل، والمساواة، والكرامة الإنسانية ما أدَّى إلى ظهور التململ الاجتماعي، كما كان لها من تأثير على الروح القومية المرتبطة بالدين. وكان لها دورٌ كبيرٌ في معالجة الانحراف والفساد، وفي ازدهار التأليف سواء في سيرة الرسول، أو في شروح القصائد، أو في فن البديع. وكان لها تأثيرٌ كبير في شاعرية الشعراء وإبعادهم عن تفاهة الأدب في ذلك العصر، فتحروا الألفاظ الجزلة وأقبلوا عليها، كما دفعتهم أيضًا إلى الدرس والتحصيل في الأمور الدينية.
إذن، كان للمدائح تأثير على المستوى الاجتماعي، والديني، والثقافي. ورغم كل هذا، فإنَّ التقديس الذي أُسْبغ على قصيدة البردة ليس من الدين الإسلامي في شيء، رغم قيمتها اللغوية والبلاغية. وقد روي أنَّ الرسول نهى عن مدحه في أكثر من حديث صحيح، من ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب أنَّه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله».
وفي نقد قصة القصيدة كلامٌ كثيرٌ، منه ما ذكره عبد البديع صقر أنَّ رؤية الرسول، صلى الله عليه وسلم، لا توضع في ميزان الحسنات، وأنَّ الشعر ليس وسيلةً لرؤية الرسول في المنام؛ إذ أمر الله بالصلاة عليه لا بمدحه بالشعر. وقد روي أنَّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذ رأيتم المدَّاحين، فاحثوا في وجوههم التراب». أمَّا تلاوتها بين يدي رسول الله، فكلام لا دليل على صحته. (صقر، 1983، 23).
أمَّا المبالغات الكثيرة في قصيدة البردة، فلا أصل لها في الدين، ولم يميِّز الرسول نفسه عن أحدٍ، بدليل قوله تعالى ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم)) (فصلت - 6)، وقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان - 20). أمَّا قول الشاعر (محمد سيد الكونين والثقلين))، فكلامٌ خاطئٌ؛ إذ أنَّ سيد الكونين هو الله عز وجل. ويروى أنَّ الرسول نهى عن مدحه حين وصفه وفد بين عامر بسيدهم، فقال: (السيد الله تبارك وتعالى)، ولمَّا قالوا له: وأفضلنا فضلًا وأعظمنا طولًا، نهاهم قائلًا: (قولوا بقولكم - أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان).
وتمييز البوصيري للرسول عن سائر الأنبياء ليس من الدين في شيء؛ إذ قال الله تعالى ((وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)) (النحل - 49). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى، ودينهم واحد فليس بيننا نبي)، وهذا الأسلوب الأخوي في الكلام، لا يجيز ولا يتفق مع وصف البوصيري من مبالغة وتضخيم لشأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بين بقية الأنبياء الذين رأى أنَّهم يلتمسون من الرسول. وخلاصة القول أنَّ كل المبالغات الواردة في قصيدة البوصيري مبالغات لا أصل لها في الدين الإسلامي، ولا يجوز وصف الرسول بها؛ لما فيها من التعظيم الذي لا يجوز إلا لله. كما ورد في قصيدة البوصيري (أقسمت بالقمر)، وهو القسم المنهي عنه. والاستشفاع والالتماس من النبي صلى الله عليه وسلم طلبًا للرزق والمغفرة غير جائز؛ إذ أنَّ الرازق الله، ويدخل هذا القول في باب الشرك. (صقر، 1983، 23 وما بعدها).
أمَّا تقديس الناس للقصيدة فبدعةٌ من البدع السائدة، مثل تقرّب المسلمين وتمسحهم بالقبور، وهو الشيء الذي نهى عنه الرسول، ونهى عن فعل ذلك بقبره أيضًا؛ إذ روي أنَّه قال: (لا تجعلوا قبري وثنًا يعبد). وفي نقد البردة من هذه الوجهة الشرعية كلامٌ كثيرٌ يحط من قيمتها البلاغية والأدبية، ويجعل معظم أبياتها ضربًا من الشرك. والسبب وراء هذه المبالغات الكثيرة عائدٌ إلى الصوفية التي تؤمن بالحقيقة المحمدية وتراه قبة الوجود. وفي الصوفية كثيرٌ مما لم يأمر به الدين الإسلامي، بل ومما ينهى عنه. وسبب هذا أنَّ وجود الصوفية سابقٌ لوجود الإسلام، فهي اتجاه روحاني يسعى للبحث عن الله وغير ذلك مما في أقوالهم وعقائدهم.
المراجع
(1) الأدب العربي وتاريخه، عصر المماليك والعثمانيين والعصر الحديث، محمود رزق سليم، دار الكتاب العربي المصري، الطبعة الأولى، 1957.
(2) المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي، محمود سالم محمد، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1996.
(3) المدائح النبوية في الشعر الأندلسي، فاطمة عمراني، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، الطبعة الأولى، 1428 هـ.
(4) المدائح النبوية، زكي مبارك، دار المحجة البيضاء، 1935.
(5) المدائح النبوية، محمود علي مكي، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة الأولى، 1991.
(6) تاريخ الأدب العربي، عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1981.
(7) مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني، بكري شيخ أمين، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1986.
(8) نحو فهم جديد منصف لأدب الدول المتتابعة وتاريخه، ج1، نسيم الحمصي، مطبعة ابن خلدون، دمشق، الطبعة الأولى، 1981.
(9) نقد البردة، عبد البديع السيد صقر، المكتبة الثقافية، بيروت، 1983.