هاجر منصور سراج
24 سبتمبر، 2024
يرجع بشار بن برد بن يرجوخ، المكنى بأبي معاذ، إلى طُخارِستان، في أقصى خُراسان، ويذكر كتاب الأغاني أنَّ جدَّه كان من سبي المهلَّب، ويروى أن بُردًا كان من قِنّ خِيرة القشيرية امرأة المهلب، ثم وهبته لامرأة من بني عُقيل، ولما ولد بشار أعمى، في البصرة أواخر القرن الأول الهجري، أشفقت عليه العقيلية وأعتقته. أمّا من جهة الأم فينسب بشار نفسه من جهة أمه إلى الروم، ويذكر حمّاد عجرد في أهاجيه أن أسمها غزالة، يقول بشار:
وقيصرٌ خالي إذا ♦♦♦♦ عددتُ يومًا نسبي
وبشارٌ لم يكن يستحيي أنَّه مولىً؛ «فالموالي كانوا تشكيلًا طبيعيًا في المجتمع، إنما يعنيه ألا يذكر أحدٌ أنه ابن طيَّان. ألا نستطيع-من هنا-أن نفهم لماذا حرص على أن يصطنع نسبًا طويلًا، بل نسبًا مفرطًا في الطول، ثم يتبجح فينتمي في شعره إلى كسرى أبًا وإلى قيصر خالًا!»، (درويش، 1988، ص 18).
وكان يفخر في مطلع حياته بولائه لبني عقيل، قال:
إنني من بني عُقيل بن كعبٍ ♦♦♦♦ موضعَ السيف مِنْ طُلى الأعناق
وقال في عماه:
عميت جنينًا والذكاء من العمى ♦♦♦♦ فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياءُ العين للقلب رافدًا ♦♦♦♦ لعقلٍ إذا ما ضيَّع الناس حصِّلا
وقد نشأ في بيئة فقيرة، وكان أبوه طيَّانًا، ويروى أن له أخوين: بشر وبشير، وكانا قصابين، كما يروى أنهما لم يكونا سويين أيضًا، فأحدهما أعرج، والآخر أبتر اليد. وكان يلقَّب بالمرعَّث لأنه كان في أُذنه وهو صغير رِعاث شأن غلمان الفرس، وقد تأثر بالبيئة من حوله القائمة على نقائض الشعراء، فتفجر الشعر على لسانه وهو في العاشرة، فاحترف الهجاء وجعل يهجو الناس، ويشكوه هؤلاء إلى أبيه فيأخذ في ضربه حتَّى قال له أن يقول لهم: (ليس على الأعمى حرجٌ). وقد هجا جريرًا بيد أن جريرًا استصغره فلم يرد عليه؛ فكان يردد: (لو أجابني جرير لكنت أشعر الناس).
ويروى أنه كان ضخمًا، عظيم البنيان، مجدور الوجه، جاحظ المقلتين، وقد تغشّاهما لحم أحمر؛ فكان أقبح الناس. وكان إلى قبح الشكل قبيح الأخلاق؛ إذ كان مستخفًا بالدين والأعراف متهتكًا بالأعراض، مغرقًا في التمتع بالنساء والخمر، لكنه كان ذكيًّا كما ذكر في شعره.
يذكر الرواة من ناحية جزالة لغته أن بشار رحل إلى البادية في وقت مبكر من حياته، وأقام هناك سنوات، ولما عاد إلى البصرة كان قد اكتسب السليقة العربية والفصاحة البدوية، كما اكتسب خبرة واسعة في حياة البادية وتقاليدها، ودائمًا ما كان يفاخر بفصاحته، ويردها إلى نشأته في البادية، وفي بني عُقيل، قال: (من أين يأتيني الخطأ، وقد نشأت في حجور ثمانين شيخًا من بني عُقيل كلهم فصحاء، فإذا عدت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم).
وقد ساهم اختلافه إلى علماء الكلام في تكوين ثقافته. ويذكر صاحب الأغاني حضوره المحاورات مع أصحاب المذاهب، لكن هذا الاختلاف لم يدم؛ إذ فَسُد ما بينه وبين واصلٍ حين عرف هذا الأخير بأمر اعتقاده بالرجعة والجبر، وما سُمع عنه من أقوالٍ إلحادية، فما كان منه إلا أن أخذ على نفسه إخراج المتزندق من البصرة، فحشد عليه الناس وأخرجه مرغمًا، ولم يجرؤ بشارٌ على العودة بعدها إلَّا بعد وفاة واصلٍ. يقول في الجبرية:
طبعت على ما في غير مخيَّرٍ ♦♦♦♦ هواي ولو خيرت كنت المهذبا
أريد فلا أعطى، وأعطى ولم أرد ♦♦♦♦ وقصِّر علمي أن أنال المغيبــــا
ومن صور ما قاله في تعظيم النار، وهو ما عدَّ أقوالًا إلحادية:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ♦♦♦♦ والنار معبودة مذ كانت النار
وما إن وصل إلى البصرة حتى تولى خليفة واصل عمرو بن عبيد طرده، فبارحها البصرة إلى بغداد، ونزل حرَّان ومدح سليمان بن هشام، ثم اتجه إلى واسط ومدح يزيد بن عمر بن هبيرة؛ حتَّى أقبلت جحافل العباسيين بقيادة أبي مسلم الخرساني وأقبل فرج بشار معها؛ بيد أنه لم يستطع الوفادة على السفاح ولا على المنصور، ولما أخذ خالد بن برمك الوزارة سعى إليه بشار باسم النسب، وأخذ يمدحه وخالد يجزل له العطاء.
استتب الأمان في محيط بشار، فأقبل على الدنيا بكليته، وجاهر بشعوبيته، وزندقته، ومجونه. وبين هذا وذاك، استمرَّ في مدح الطرف الرَّابح أيًّا كان. وحين أخذ المهدي الخلافة، هرول إليه بشار مادحًا؛ فأجزل له الخليفة عشرة آلاف درهمٍ، وعبدًا، وقينة، وخلع عليه خلعًا كثيرةً. بيد أنَّ المهدي كان في شدَّةٍ في شئون الدين، فلم يغفل عن استهتار بشار وإفساده المجتمع بغزله الماجن الذي ردده الغلمان والجواري في الشوارع خادشين ستار الحياء. أمر المهدي بشارًا أنَّ يكفَّ عن شعره الماجن، فامتثل بشارٌ، لكنه أخذ يردد ذكر طاعته للخليفة في شعره شأنه في ذلك شأن أبي نواس حين ظلَّ يردد أنَّه منع من ذكر الخمرة. إلَّا أن طاعة بشار لم تدم طويلًا؛ إذ سرعان ما عاد إلى مجونه وزندقته، وبلغ المهدي خبر زندقته فحرمه جائزته.
راجت الزندقة في عهد المهدي، فأخذ الخليفة على عاتقه تعقبهم ثم قتلهم؛ فرأى بشارٌ أصحابه أمامه يقتلون، ما جعل مشاعره تهيج حزنًا؛ فأخذ في رثائهم، وفي معرض رثائه هجا الخليفة ووزيره، فما كان من المهدي إلَّا أن أمر بقتل بشارٍ ضربًا حتَّى الموت.
بهذا نرى تكالب الظروف الفريدة التي جعلت من بشارٍ رجلًا معقدًا، حاد المزاج، كثير التذمر من عماه، ومهنة أبيه، وفقره، وإهانة العرب له. وهذا الأمر الأخير جعل منه شديدًا في عربيته – كما أسلفت – بحثًا عن تميزه في الشعر؛ بيد أنَّ هذا إلى جنب اعتزازه بأصله الفارسي جعل روحه تعيش في حيرة يتنازعها فخره بالعربية وشعوبيته، فكان انتهاؤه إلى الإفراط في المجون والزندقة أمرٌ طبيعي نظرًا للبيئة التي نشأ فيها حيث اختلاط الأعراق والديانات، وتوافد الثقافات والكتب المترجمة، واكتظاظ الأسواق بالجواري، وانتشار الخمر. ولعل إفراطه في المجنون راجعٌ إلى كونه أعمى لا يرى بعينيه، بل يعتمد على ما يحسه بيديه، إضافةً إلى عقدة النقص التي لازمته بسبب عماه، فأفرط في الغزل كاشفًا بذلك قدرته على مضاهاة المبصرين.
كان بشار شاعرًا مجيدًا يصنَّف على رأس مذهب الشعراء المحدثين؛ إذ اختط للشعراء من بعده طرقًا مستحدثةً في الشعر، وأكثر في البديع؛ فجاء من بعده شعراء ساروا في ركب أسلوبه وزادوا عليه حتَّى استحق أن يكون إمامهم، ومنهم: أبو نواس، ومسلم بن الوليد، وأبو تمام، والبحتري، وابن المعتز. وقد كان بشار أكثر شعراء عصره حظوةً عند النقاد الذين كانوا يسكبون سخطهم على شعراء ذلك العصر مدعين أنَّ الركاكة قد أتت على الشعر وأنَّ المحدثين لن يجودوا بشيء بعد أن شعر القدماء؛ إلَّا أنَّ بشارًا لم يسلك طريق القدماء، وكان له من الثقافة والموهبة الشيء الكبير، ما جعل الناس يتغنَّون بشعره غزلًا أو هجاءً أو زندقةً.
وأساليبه مطبوعة بطوابع النصاعة والإيجاز والتركيز، تشيع فيه الدقة والوضوح والجمال. ومعانيه وأغراضه بدوية. وعلى الرغم من ذلك، فقد زاوج بين الماضي والحاضر؛ لكن هذا غير محصور في بشار فقد شركه كل شعراء هذا العصر إلا نفر قليل منهم.
وفي هذا يتفق الشكعة (1986) مع غيره على أنَّ بشارًا إمام المحدثين، إلَّا أنَّه يره أنَّه «لما تسلطت عليه أضواء شديدة اللمعان أخاذة البريق لافتة للأنظار حتى ظن بعض المتأدبين أن ذروة الشعر لم يتسنمها أحد قبله، وأن كل من جاءوا بعده إنما هم عيال عليه دون غيره…»، (ص 99). إلَّا أنّه يرى أنَّ سمعة بشار خضعت لكثيرٍ من التهويل، وأنَّ في شهرته حملة دعاية واسعة إنَّما هي من تدبير الشعوبية التي نشطت في زمانه؛ يريدون اشهار شاعرٍ ذي أصلٍ فارسي.
وفي بنية القصيدة، حافظ بشار على الموروث في المديح، سواء من حيث جزالة المفردات أو من حيث القالب، وكان شديد الاحتذاء بالقديم، مفاخرًا بمقدرته، ولعل أبرز الأمثلة في ذلك هو أرجوزته التي شابه فيها رؤبة بن العجاج وغلبه به عقبة بن رؤبة. كما حافظ على مواضيع المدح: المدح بالشيم الرفيعة عند العرب. فكان في شعره شأن البصير الذي يدرك الطريق من حوله فيسير سير القدماء ويعبد الطريق خطوة خطوة وهذا ما لم يفعله من سار قبله. وفي شعره يتضح أثر الترجمات، وأثر المحاورات الكلامية، وكان يدرك صور الأقدمين فيستغل أخيلتهم، ويولد من معانيهم معانٍ جديدة فيأتي بما لا يأت به المبصرون؛ بيد أنَّ بإمكاننا ملاحظة بعض الدقائق التي لا يلاحظها سوى المبصرين لا سيما في الغزل إذ يعتمد في وصفه على السمع، والشم، واللمس. ورغم هذا يعدُّ شعره شيئًا جديدًا في تاريخ العزل العربي؛ إذ جاء مختلفًا عن غزل الشعراء القدماء وإن كان مشابهًا للأعشى في غزله بطبقة الجواري وبنات الهوى. ويظهر في غزله تأثره بكل اتجاهات الغزل القديمة حتى بالعذريين الذين كان يسخر منهم، فكان يقلدهم مع براعة تجديدية، من ذلك صورته الطريفة التي حاول فيها إضفاء شيءٍ بديعٍ على عاهته، وفلسفة موقفه، فأكَّد على القلب هو وسيلة الحب لا العين:
يزهدني في حُبِّ عبدة معشرٌ ♦♦♦♦ قلوبهم فيها مخالفةٌ قلبي
فقلتُ دعوا قلبي وما اختار وارتضى ♦♦♦♦ فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحب
فما تبصر العينان في موضعِ الهوى ♦♦♦♦ ولا تسمعُ الأذنانِ إلا من القلب
– يا قوم أذني لبعض الحي عاشقةٌ ♦♦♦♦ والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وقد جدد بشار على مستوى شكل القصيدة، فنظم في الرباعيات، والمزدوج، والمسمطات. وما دون ذلك فقد بقي محتفظًا بلغة الشعر وأساليبها الرصينة، وقد يرق ويلين دون أن يصيب أساليبه ضعف ووهن.
ومن الناحية الفنية، نجد شعر بشار على مرحلتين يختلف فيهما أسلوبه اختلافًا واضحًا، وهما المرحلتان العباسية والأموية، فشعره في المرحلة الأموية خشن خشونة البداوة، ملائمًا لما كان من ذوق بني أمية، وفي العصر العباسي لينًا سهلًا غير مفرط في السهولة وغير قادرٍ على التخلي عن فصاحته، ميَّالًا إلى البحور المجزوءة، تتضح فيه الثقافات الدخيلة، فهو في ذلك شأن حسان بن ثابت وشأن مخضرمي الجاهلية والإسلام؛ فحمل صفات القدم والحداثة ومزج بينهما مزجًا جميلًا. وقد أجمع مؤرخو الأدب على أنه آخر شعراء الدولة الأموية (الشعراء التقليديين) وفي مطلع شعراء الدولة العباسية (الشعراء المحدثين).
ورغم أن بشارًا يعدُ رأس المحدثين، إلَّا أنَّ علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنَّ الشعر يتطور ويتغير تدريجيًا، فقد تطور قبله على أيدي الشعراء الإسلاميين والأمويين حتى بلغ بشارًا معرَّضًا لمزايا حضاريةٍ وحديثة، فكان أن تابع خطى السابقين وأضاف على الشعر خصائص وسمات جديدةً تلقفها من بعده وحسَّنوا في الشعر حتى وصل الصورة التي وصل إليها في العصر العباسي. ورغم أنَّ اللغويين استشهدوا بشعره دون بقية المحدثين، إلَّا أنَّه قد تخفف في لغته من ثقل المفردات الجاهلية وإن كان فصيحًا متميزًا عن شعراء عصره حتَّى لامه البعض أنَّه ردَّ على حمَّاد عجرد الذي كان أدنى منه منزلةً.
المصادر والمراجع
(1) الشعر والشعراء في العصر العباسي، مصطفى الشكعة، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السادسة، 1986.
(2) الشعراء المحدثون في العصر العباسي، العربي حسن درويش، الهيئة العامة المصرية للكتب، الطبعة الأولى، 1988.
(3) تاريخ الأدب العربي – العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الثامنة.
شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…
أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…
عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج 30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…
إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج 5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…
بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج 12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…