تاريخ أدبي

المقامات في الأدب العربي

المقامات في الأدب العربي

هاجر منصور سراج

6 إبريل، 2025


تعد المقامات في الأدب العربي من أبرز أنواع النثر الفني في القرن الرابع الهجري، وقد تضمَّنت أقاصيص دارت حول فكرةٍ أدبية، أو فلسفية، أو دعابة، أو خاطرة وجدانية. وبديع الزمان الهمذاني هو أول من ابتدع فن المقامات في الأدب العربي، وإن كان لابتداعه هذا بواعث سابقة سواء من حيث الأسلوب والمضمون، أو من حيث تسمية هذا الفن. ويرى البعض أنَّ ابن دريد هو من ابتدع هذا الفن، وأن بديع الزمان إنما عارضه بمقاماته، مستندين في هذا إلى كلام الحصري الذي لم يثبته أحدٌ غيره. ورغم هذا، يظل لكل فنٍّ بدايات، ومن هذا يمكن أن نجعل أحاديث ابن دريد ورسائل ابن فارس بدايات لنشأة المقامات في الأدب العربي. فإن كان ابن دريد هو «المبتكر لفن المقامات، فإن عمل بديع الزمان في هذا الفن أقوى وأظهر، وطريقته في القصص تختلف عن طريقة ابن دريد، والذين كتبوا المقامات بعد ذلك لم يكن في أذهانهم غير فن بديع الزمان». (مبارك، 2013، 202).

وقد جسَّدت المقامات في الأدب العربي خصائص النثر الفني في القرن الرابع، ففي هذا العصر شَغُف الكتاب بالبديع، فقصدوا إلى استخدامه في كتاباتهم قصدًا حتى أسرفوا فيه؛ إذ استخدموا السجع، والتورية، والجناس، والمطابقة، والموازنة. وألوان البديع لها وقع خفيفٌ لطيف على نفس السامع، فتحرى الكتاب وجودها في كتاباتهم منذ القدم، لا سيما السجع، وفي هذا أمثلة كثيرة ترد في الخطب المأثورة منذ الجاهلية؛ لكنَّ كتاب هذا العصر لم يوردوه خفيفًا في مقدمة الخطبة، أو وسطها، أو خاتمتها بغرض إثارة الانتباه، أو التأكيد والتشديد، أو الختام الجذاب؛ وإنما تحرَّوا كتابة نصوصهم مسجوعةً من بدايتها حتى نهايتها، واشتغلوا عليها مرَّة بعد مرةٍ حتى استقامت. وكانوا إلى هذا يحشدون أطايب الشعر ومختار الأمثال؛ إلَّا أنَّ هذا لم يكن يتوفر لكل الكتاب؛ إذ أنَّ على الكاتب في هذا أن يكون واسع المعرفة مطلعًا.

وفي هذا القرن، لم يعد الكتاب يحصرون موضوعاتهم في الخطب، أو العظات، أو الرسائل؛ بل أصبحت كتاباتهم تتضمن فنون الشعر: المديح، والهجاء، والفخر، والغزل، والوصف، واشغلوا على فنون البيان فيه، فأضحى أكثر متكنًا في التعبير عن النفس من الشعر. وقد تفنن بديع الزمان الهمذاني في مقاماته، فجاء بالهجاء والغزل وغيره من الأغراض الشعرية في ثوبٍ نثري جميل برزت فيه الحالة النفسية للمتكلم. وإذ أنَّ النثر أقدر من الشعر على القص، كانت أقاصيص بديع الزمان الهمذاني فنًّا جديدًا بديعًا سواء لأهل عصره، أو للمحدثين الذين تقصَّوا عناصر القصة في مقاماته، ثم قلَّدوه وعارضوه.

معنى المقامات اللغوي

جاء في لسان العرب، في مادة (ق و م): المُقام والمُقامة الموضع الذي تقيم فيه، والإقامة. والمَقَامة بالفتح: المجلس والجماعة من الناس. فإذا كان من قام يقوم فهو بالفتح، وإذا كان من أقام يقيم فهو مضموم. (ج12، ص 498). وفي القرآن الكريم، جاءت بمعنى الموضع الذي قام عليه إبراهيم، في قوله تعالى: ((واتَّخِذُوا من مقام إبراهيم مصلَّى)) [البقرة، 125]. واستعملت بضم الميم بمعنى مكان الإقامة في قوله تعالى: ((الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)) [فاطر، 35].

وفي الشعر الجاهلي اُستخدمت كلمة المقامة بمعنى مجلس القبيلة، وبمعنى الجماعة في المجلس. أمَّا المعنى الأوَّل، فقد ورد في قول زهير بن أبي سلمى:

وفيهم مَقاماتٌ حسان وجوهها … وأنديةٌ ينتابها القول والفعل

وأمَّا المعنى الثاني، فقد جاء في قول لبيد بن ربيعة العامري:

ومَقَامةٍ غُلْبِ الرقاب كأنهم … جِنٌّ لدى باب الحصير قيام

وفي العصر الإسلامي، اُستخدمت بمعنى المجلس الذي يقوم فيه شخص أمام الخليفة أو غيره، ويتحدث فيه واعظًا، وقد كان هذا في العصر الأموي وأوائل العصر العباسي؛ إذ كان الخلفاء يستضيفون الزهاد ليعظوهم، وقد عنون ابن قتيبة فصلًا في كتابه عيون الأخبار: (مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك)، وأورد فيه عشر مقامات للزهاد أمام الخلفاء الأمويين والعباسيين، كما استخدم هذه اللفظة ابن عبد ربه في العقد الفريد، في فصل: (مقامات العُبَّاد عن الخلفاء). وعليه، يتبيَّن أنَّ هذه الكلمة كانت تحمل دلالة الخطبة أو الموعظة قبل القرن الرابع الهجري.

ثم اتسعت دلالة الكلمة بعد هذا، فأصبحت تطلق على استغاثة المتسولين؛ لترديدهم عبارة (ارحموا مقامي هذا)، بمعنى مكان الإقامة. وقد كانوا يوردون استغاثتهم مسجوعة في أغلبها، وفي كتاب البخلاء للجاحظ نماذج منها. وفي المقامة الأسدية، يقول بديع الزمان: (حدَّثنا عيسى بن هشام، قال: كان يبلغني من مقامات الإسكندري ومقالاته…)، فإيراده (مقامات ومقالات) هنا يدل على أنَّ المقامات في الأدب العربي إنما هي مرادف للخطبة والعظة. وقد استعمل القلقشندي هذه اللفظة بمعنى الاحدوثة التي تروى في المجلس في كتابه صبح الأعشى: «وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها».

معنى المقامات الاصطلاحي

بديع الزمان الهمذاني هو أوَّل من أعطى لكلمة المقامة معناها الاصطلاحي الدائر بين الأدباء؛ إذ تعبر عن أحاديث تلقى في جماعة من الناس، وبهذا هي قريبة في معناها من معنى الكلمة الحديث. فالمقامة نوعٌ سردي قصصي اُبْتِدع في القرن الرابع الهجري، وهي تكتب بعبارات مسجوعة منمقة، وتتضمن فكرة الكاتب الأدبية أو الفلسفية. وتتسم المقامة بطابع أدبي ساخر لاذع، وتحوي لونًا من الفكاهة الساخرة، كما ترد فيها آياتٌ قرآنية، وأحاديث نبوية، وحكم وأمثال، وأبيات شعرية. ويرويها راوٍ واحد هو في مقامات بديع الزمان: عيسى بن هشام، وبطلها واحد، وهو في مقامات بديع الزمان: أبو الفتح الإسكندري؛ فتبدأ بـ (حدَّثنا عيسى بن هشام)، ثم يروى عيسى هذا حديثًا بطله أبو الفتح الإسكندري. وهي، من حيث الأسلوب، تعتمد على الأسجاع، وتهتم بالمحسنات اللفظية والمعنوية. أمَّا من حيث الموضوع، فتحكي قصة حيلة يقوم بها البطل، وينخدع بها من حوله، ولا تنكشف الحقيقة إلَّا في النهاية.

وقد تبع الأدباء بديع الزمان الهمذاني فيما اختط لهم من الأساسيات في هذا النوع الأدبي، وساروا في ركبه، فمقاماتهم فيها راوٍ واحد وبطل واحد يتخذ شكل الأديب الشحاذ الذي يحكي للناس مواقفه ويخلب ألبابهم بفصاحته. ورغم توفر أركان القصة فيها من حبكة، وشخصيات، وعقدة، وزمان ومكان، وخيال، يرى البعض أنها ليست قصة، وإنما أحاديث شيقة كتبت لغرض تعليمي. (مرادي، 1388هـ، 125؛ ضيف، 1973، 8 و9).

نشأة المقامات في الأدب العربي

ليست مبالغةً في التأصيل قولنا إنَّ الاستجداء والتسول هو المنبع الأوَّل لتأسيس هذا الفن النثري؛ إذ أنَّ الفقراء سلكوا اتجاه اللغة في التسول، بينا سلك بعضهم طريق الحيلة والشعبذة. وقد بدأ هذا مع الأعراب الذين كانت لغتهم العربية قوية، وفصاحتهم فطرية، فكانوا يفدون على الخلفاء أو ذوي الجاه فيسحرونهم بفصيح القول ليجودوا عليهم بالمال. وكان البعض الآخر يكتفي بإلقاء كلامه الفصيح في الأسواق بين العامة، فيسحرهم بكلامه ويستغل الفرصة لسرقة أموالهم. ومن هنا ظهر مصطلحان أُطلقا على مهنة السائلين: الشحاذة والكدية، وراج المصطلح الأوَّل. (الحسين، 1995، 19).

وقد انتشر المكدون في العصر العباسي الثاني نظرًا إلى الفساد السياسي الذي أفضى إلى فساد اجتماعي واقتصادي، رغم أنَّ وجود المكدين يرجع إلى بدايات تأسيس الدولة العباسية. (الحسين، 1995، 30). وإضافة إلى العامل السياسي والاقتصادي، كان أن وجد المكدون مهنتهم مريحةً لا تحتاج عملًا ولا رأسمال. وقد كانوا يقصدون مراكز التجمع، من أسواق، وساحات عامة، وجسور، ومساجد؛ من هذا ما روي عن حيلة المفلفل الكان الذي كانت حيلته تقوم على ذهاب رفيقين إلى المسجد، فيقوم أحدهما في أوَّل صفٍ، والآخر في آخر صفٍ، فإذا فرغ الإمام من الصلاة، ينادي الأوَّل الثاني ليطلب منه أن يخبر الناس، فيرفض الثاني ويتلكأ، ويحثه الأوَّل، فيجذبان بهذا أسماع الناس وانتباههم.

فالحيلة هي السمة الأولى عند المكدين، أمَّا السمة الثانية فتبرز في حياة المكدي التي هي تجول وسفر دائم، فهو لا يقر في مكان، ولا يحل في دار. من هذا ما رواه أحد التجار أنَّه تصدَّق على مكدٍ في الأبلّه، ثم سافر إلى الصين، فرآه يكدي هناك أيضًا. ورغم هذا، ثمة قسم آخر من المكدين يفضِّل أن يظل مكديًا في مدينة واحدةٍ لا يفارقها.

أمَّا السمة الثالثة فتكمن في أنهم عادة ما يكدون منفردين، لكن قد يكونون فريقًا صغيرًا لداعي الحيلة التي تتطلب أكثر من شخص لتأديتها، أو لدواعٍ أمنية إن قبض عليهم وصودرت أموالهم؛ فإن كانوا فريقًا ضمنوا بقاء المال.

أمَّا السمة الرابعة، فتكمن في أزيائهم التي كانوا يبدلونها كل حين، ويختارون الألبسة المميزة المثيرة للانتباه. وهذه السمات ظاهرةٌ جليَّةٌ في مقامات بديع الزمان الهمذاني، فبطل مقاماته أبو الفتح الإسكندري «أديب شحاذ عظيم» يحتال على الناس ليجني المال، وآفاق لا يقر في بلدٍ، ووحيدٌ عادةً وإن اشغل مع فريقٍ أحيانًا كما في المقامة الساسانية، كما تختلف ملابسه في كل مقامة، ولا يكف على حالٍ، بل ينتحل شخصياتٍ كثيرة، ويبرز في مظهر المهرج المحتال. (الحسين، 1995، 39 – 45).

ومقامات بديع الزمان الهمذاني تبرز جو الكدية الاجتماعي آنذاك. فإذا كان قد أُجْمِع على أنَّ بديع الزمان استوحى مقاماته مما كتبه الجاحظ في أهل الكدية، ومما كتبه ابن دريد من أحاديثه المعروفة؛ فإن بديع الزمان قد عايش جو الكدية ورآه أثناء تجواله وتطوافه في البلدان.

وإلى الكدية لدينا تأصيل فن التطفل؛ إذ انتشر الطفيليون في هذا العصر، وهم أشخاص انتشروا في الحواضر العربية، وعني الأدب العربي بأخبارهم، وكان أشهرهم أشعب الطفيلي. والطفيليون هم الأشخاص الذين كانوا يغشون الولائم والأعراس والمجالس وغيرها من دون أن يدعوا إليها، وهذا النسبة عائدة إلى طُفيل، وهو رجلٌ من أهل الكوفة من بني عبد الله بن غطفان. (المعجم الوسيط، ص 580). وقد كان أشعب شديد الولع بأموال الناس، وطعامهم، وشرابهم، وراغبًا في نيل الطعام دون دفع مال، وراغبًا في المال دون عمل. وهذه الشخصية لا بُدَّ قد أوحت إلى بديع الزمان في تكوين شخصية بطله. إضافةً إلى أنَّ الطفيليين انتشروا في الزمن الذي عاش فيه بديع الزمان، ولا بُدَّ أنَّه رأى منهم الكثير، كما كان موضوع الكدية يشغل أذهان الأدباء آنذاك، فكان أن تناوله هو أيضًا في شكل قصصي، معالجًا قضيةً مجتمعيةً رائجة. وعليه لا يمكن أن نقول إنَّ المقامات في الأدب العربي نشأت عن أدب بعينه، أو معارضةً لأديب أو لغوي محددٍ؛ بل إنها نتاج مجموعةٍ من العناصر: أحاديث ابن دريد، ورسالة الجاحظ عن أهل الكدية، وقصيدتي الخزرجي والعكبري، وأحاديث الطفيليين، والمكدين المنتشرين في الواقع. (مرتاض، 1988، 118 و132).

وقد اختلف النقاد حديثًا في نسبة المقامات إلى بديع الزمرمان بسبب ما أورده الحصري من أنَّ بديع الزمان إنما عارض ابن دريد. وقد جاء البعض بكلام آخر، فاقتبسوا قول ابن خلكان من أنَّ ابن فارس كان له رسائل أدبية أنيقة، ومنها اقتبس الهمذاني أسلوبه. وهذه الأقوال لا تجعل ابن دريد أو ابن فارس مبتدعين للمقامات، وإنما تثبت أنَّ بديع الزمان تأثر بمؤثرات عدة أثناء ابتداعه هذا الفن النثري. وقد قامت كل هذه الآراء لأنَّ بديع الزمان لم يكتب مقدمةً لمقاماته، وإن كان قد كتب، فإنها قد فُقِدتْ. (مرتاض، 1988، 137 – 151).

خصائص المقامات في الأدب العربي

تتميز المقامات في الأدب العربي بجملة من الخصائص التي تميزها عن غيرها، وهي على مستوى المضمون والأسلوب. وأبرز خصائصها من حيث المضمون تتمثل في الهزل والمرح ما يدفع السامع أو القارئ إلى الضحك. وقد قصد بديع الزمان إلى الإضحاك في المقامات قصدًا. وهذا الإضحاك ناشئ عن البراعة في تحليل المواقف الهازلة تحليلًا نفسيًا قائمًا على النكتة. وبعض الهزل في مقامات بديع الزمان الهمذاني هزلٌ سيء من الناحية الخلقية، والدينية، والاجتماعية؛ لكنه يبرز سمةً من سمات المكدين والمحتالين في المجتمع آنذاك. وبعض الهزل هزلٌ شعبي يبدأ بحيلة وينتهي بمأساة، والبعض الآخر يقوم على طرافة الموقف، وليس فيه حيلة. وسواء كان مضمون مقامات الهمذاني والحريري حقيقةً أو خيالًا، فإنهما كانا يوفَّقان إلى إثارة ضحك السامعين مهما بلغوا من الرزانة، متبعين في ذلك وسائل شتى ما بين الحيلة، وطرافة المواقف، والتهكم، والتصوير النفسي للشخصيات، وحديث الشخصيات فيما بينها. (مرتاض، 1988، 283 و289 و292 و306).

أمَّا الخاصية الثانية فتتمثل في الاحتيال الذي قامت عليه حيل المكدين، وقامت به شخصية أبي فتح الإسكندري في معظم المقامات. فأبو الفتح الإسكندراني يخدع الناس في مأتم، فيخبرهم أن ميتهم حي كي يحصل على مالٍ لقاء ذلك، ويخدع أهل قرية يوشك الفيضان أن يأتي عليها.

أمَّا الخاصية الثالثة، فتتمثل في المواعظ والحكم؛ إذ أنَّ المواعظ من الأفكار التي أُولع بها كتاب المقامات، وليس معنى هذا أنَّها مواعظ دينية أو أخلاقية؛ إذ أنَّ بعضها كانت مواعظ سلبية تدعو إلى التواكل، وإلى نبذ الدنيا، وإلى عدم العمل، وإلى التحذير من الموت. وجليٌّ أنَّ هؤلاء الواعظين في المقامات لم يأتوا بعظات إيجابية؛ لما اتخذوا من السبل في حياتهم؛ إذ كانت الحيلة والكسل وسيلتهم للحصول على الرزق لا الأمانة والعمل.

وإذ أنَّ كتاب المقامات في الأدب العربي لم يكونوا يصوُّرون حياتهم، وكانوا بعيدين عن المكدين في صفاتهم، فإن ما كتبوه ينم عن نقدٍ اجتماعي. والنقد الاجتماعي في المقامات هو الخاصية الرابعة التي تمثل المقامات؛ بيد أنَّنا لا يمكن أن نطلق هذا الحكم على المقامات كلها، بل على مقامات الهمذاني التي قُلِّدت وعورضت؛ فهو أوَّل من ابتدأ النقد الاجتماعي، ثم جاء الأدباء من بعده، فحاكوه وعارضوه دون أن يأبهوا بالنقد الاجتماعي، أو ربما لم يخالطوا المكدين ولم يقاربوهم.

والوصف في المقامات هو الخاصية الخامسة؛ إذ تزخر المقامات بالوصف لشتى الأشياء، والغرض من هذا هو تصوير مكان الحدث وتصوير الشخصيات لغرض تمهيد وقوع الحدث، أو الإضحاك. أو لعرض البراعة اللغوية للكاتب كما كان في وصف الهمذاني للفرس، في المقامة الحمدانية.

وتتمثل الخاصية السادسة في الطرائف والنوادر الأدبية التي توردها المقامات. من هذا ما صاغه بديع الزمان الهمذاني من حكاية طريفة لأبي العنبس الصيمري الذي عاش في القرن الثالث الهجري. وقد تضمنت المقامات في الأدب العربي أغراض الشعر من مدح، وهجاء، وغزل، ورثاء؛ إلَّا أنَّ ورود هذه الأغراض في مواضع قليلة لا يجعل منها خصائص مفردة.

أمَّا من حيث الأسلوب، فإنَّ المقامة تبدأ بـ (حدَّثنا، حكى، روى)، أو ما يحمل معناها. وهذه العنعنة ميزةٌ في الأخبار العربية التي تشدد على ضرورة وجود راوية يبرز صدق الرواية؛ وقد وضعها بديع الزمان في مقاماته انطلاقًا من المبدأ العام في رواية الأخبار، وراويه هو عيسى بن هشام الذي يروي حدثًا بطله أديب بارع، أو مكدٍ محتال يظهر في النهاية أنَّه أبو الفتح الإسكندري، وقد يلعب الراوي دور البطل الرئيسي في المقامة.

أمَّا من حيث اللغة، فيستخدم كتاب المقامات لغةً جزلةً أنيقة، قد تتجاوز الجزالة إلى الغرابة والثقل. وهم يقصدون إلى العناية باللغة أكثر من عنايتهم بالموضوع ما أدَّى إلى غلبة الصناعة البديعية فيها. وألفاظ المقامات في الأدب العربي دالة في معظمها على أشياء محسوسة أكثر من الألفاظ الدالة على المعاني المجردة المتصلة بالعقل والتفكير. والألفاظ الجزلة كانت شائعة معروفةً لدى زمرة المثقفين آنذاك بينا لم تعد كذلك الآن. فإذا كان بديع الزمان قد تأنق في لغته جريًا على ما كان من الأدباء واللغويين الذين سبقوه، وكان هذا مألوفًا مقبولًا؛ فإن الكتاب الذين أتوا بعده، سواء في عصر متأخر أو في العصر الحديث، إنما تكلَّفوا المفردات، وحشدوا من المعاجم ما حشدوا، فكان أن خالفوا عصرهم وابتعدوا عنه حتى أصبحت المقامات الحديثة شيئًا في غير عصره.

ورغم قولنا هذا، استخدم بديع الزمان الهمذاني ألفاظًا غريبةً لم تكن رائجة الاستخدام، إلَّا أنَّ النقاد يبررون له هذا بأنَّه استخدم هذه الألفاظ على لسان رجل أعرابي، ليظهر لغة الأعراب شأنه في هذا شأن استخدام الألفاظ السوقية على لسان عامة الناس. واستخدام هذه الألفاظ قد يكون أحيانًا بقصد التحدي، وقد يأتي لغرض تعليمي.

أمَّا الخاصية الثانية في الأسلوب، فتتمثل في انتقاء الألفاظ ذات الظلال الشعرية والأجراس الموسيقية، والتركيز على عنصر الشعر الذي يوفِّر موسيقا مقاربة للموسيقا الشعرية، وعلى موازنة الجمل، أو ما يمكن تسميته (الموازنة السجعية)، إضافةً إلى لزوم ما لا يلزم، والطباق، والمقابلة، والجناس، والتورية، والاقتباس والتضمين. والاقتباس والتضمين شائع في المقامات، لا سيما في مقامات الحريري حتى إن بعض مقاماته تشتمل على خمس آيات مضمَّنة، كما ضمَّن هو وغيره الأحاديث النبوية، والأمثال العربية الشائعة، والحكم المأثورة، والأبيات الشعرية حتَّى عُدَّ الاقتباس والتضمين خاصيةً بارزةً من خصائص أسلوب المقامات. وإلى فنون البديع، اعتنى كتاب المقامات بفنون البيان من تشبيه، واستعاره، وكناية.

كُتَّاب المقامات في الأدب العربي

(أ) بديع الزمان

بديع الزمان الهمذاني هو أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى، ولد في هَمَذَان عام 358 هـ. وفي رسائله، يذكر أنَّه من أصلٍ تغلبي، وإنما ولد في همذان، وبهذا ينفي ما نُسب إليه من أنَّه فارسي الأصل، فهو عربيٌّ مضري تغلبي.

أخذ العلم عن أبيه، وعن العلماء والأدباء في بلدته. وكان ابن فارس، صاحب كتاب المُجمل، أهم أساتذته. وفي الثانية والعشرين من عمره، غادر همذان إلى الري قاصدًا الصاحب بن عباد لمدحه. ولمَّا سمع ابن عباد شعره، أُعجب بفصاحته، فقربه منه. واختبره بترجمة بعض الأبيات الفارسية إلى العربية، فكان أن رأى فيه الذكاء وسرعة البديهة. لكن بديع الزمان ما لبث أن ترك الري إلى جرجان، وأقام زمنًا في رعاية أبي سعيدٍ محمد بن منصور، ثم ما لبث أن غادر إلى خراسان ثم إلى نيسابور. وفي الطريق، اعترضه لصوصٌ، وسلبوا منه كل ما معه. ويروي الثعالبي أنَّه دخل نيسابور عام 382 هـ، وفيها ناظر أبا بكر الخوارزمي، وطارت شهرته بعد انتصاره في المناظرة. وبعدئذ ألَّف مقاماته، وألقاها على تلاميذه.

وبعد عام، فارق نيسابور وظل متنقِّلًا في خراسان حتى قامت الحرب بين السامانيين والغزنويين، فسافر إلى سجستان. ومرَّةً أخرى اعترض اللصوص طريقه وسلبوه كل شيء. وفي سجستان، نزل عند الأمير خلف بن أحمد، لكنه ما لبث أن تركه إلى هَرَاة في أفغانستان، وفيها تزوج، وأنجب، واشترى ضياعًا. وفي عام 398 هـ توفي، وكان حينها في الأربعين من عمره.

ويذكر الحصري أنَّ بديع الزمان كتب أربعمائة مقامة؛ بيد أنَّه لم يصلنا سوى نيفٍ وخمسين مقامة، ويظهر أنَّه كتب أربعين في نيسابور، ثم زاد ستًا في مديح خلف بن أحمد، ثم زاد خمسًا. وفي قضية الأربعمائة مقامة أقوال كثيرة، فثمة من يرى أنَّ الأربعمائة خطأ من الناسخ؛ فإذا صدق أنَّ بديع الزمان تحرى معارضة أحاديث ابن دريد، فحري به أن ينشئ أربعين فقط، وهذا ما كان قد وضعه أول الأمر، لولا أن زاد عليها بعد ذلك. (ضيف، المقامة، 17). وفي هذا الصدد، يرى حسن عباس أنَّ اتفاق القدماء على أربعمائة مقامة، وضياع المقامات حتى لم يقف معاصرو ابن شرف القيرواني في القرن الخامس على نحو عشرين، وحساد بديع الزمان؛ كل هذا يجعل الأربعمائة مقامة أمرًا مقبولًا. ويرى مرتاض أنَّ ضياع ثلاثمائة وخمسين مقامة زعم سخيف! (حسن عباس، 65 – 69).

(ب) الحريري

هو أبو محمد القاسم بن علي الحريري، عربي ولد سنة 446 هـ في المَشان، وهي ضاحية من ضواحي البصرة انتقل منها إلى البصرة ما إن شبَّ. وفي البصرة، أخذ العلوم الدينية، واللغوية، والنحوية، وكان ذكيًا، فصيحًا، بليغًا، فجذب انتباه كبار الدولة. ويروى أنَّ والي البصرة اهتم به، وهو من قصده الحريري حين ذكر في مقدمة مقامته أنَّ شخصيةً كبيرةً أمرته بكتابة مقامات مشابهة لمقامات بديع الزمان. وفي هذه الشخصية خلاف، فهناك من يقول إنه أنوشروان بن خالد، وزير الخليفة المسترشد، وهناك من يقول إنه ابن صدقة، وزير المسترشد أيضًا، والراجح أنَّه ابن صدقة. (ضيف، 1973، 44).

ويروى في مظهره أنَّه كان بخيلًا قبيحًا، وكان مبتلى بنتف لحيته. وقد اشتهر في حياته، ويروى أنَّه أجاز سبعمائة طالبٍ لرواية مقاماته على الناس. وللحريري، إلى مقاماته، ديوان شعر، ومجموعة من الرسائل، وكتب في النحو واللغة، أشهرها (درة الغواص في أوهام الخواص).

ويختلف في مكان تأليف مقاماته، فثمة من يقول إنَّه ألَّفها في بغداد، وثمة من يقول إنَّه ألَّف في البصرة أربعين مقامةً، ثم سافر إلى بغداد وعرضها على الأدباء، فاستحسنها البعض، واتهمه البعض بنحلها، ثم قالوا له إنَّ عليه أن يكتب مقامةً جديدةً ليثبت أنَّه كاتبها؛ لكنَّه مكث أربعين يومًا دون أن يستطيع كتابة شيء، فعاد إلى البصرة حزينًا، والناس يخوضون في سيرته. وبعد مدةٍ من الزمن عاد إلى بغداد وقد كتب عشر مقامات جديدة. بيد أن شوقي ضيف يرى أنَّ هذه قصص لا أصل لها من الصحة؛ إذ من الواضح أنَّ الحريري إنما قصد منذ البداية إلى كتابة خمسين مقامة يعارض بها بديع الزمان، كما يرى ضيف أنَّه ألَّفها في بغداد حين كان في رعاية المستظهر. (ضيف، 1973، 48).

(ج) ابن الوردي

ابن الوردي هو زين الدين عمر بن المظفر، وقد ولد في معرة النعمان، وفيها نشأ ودرس. ويروي ابن حجر العسقلاني أنَّه نشأ في حلب، وتتلمذ على يد قاضيها ومفتيها شرف الدين البارزي. وقد ولي قضاء حلب، ثم عزل منه لتوليته قضاء منبج؛ لكن ابن الوردي امتعض لهذا، فاعتزل القضاء وانصرف إلى التأليف حتى مات سنة 749 هـ. وقد نظم في الفقه الشافعي منظومةً في أكثر من خمسة آلاف بيت، وألَّف في اللغة والنحو، وله شعر جيِّد، ونثره أجود منه. وأولى مقاماته هي المقامة الصوفية، وفيها يجري ابن الوردي حوارًا بين مواطن من المعرة سافر إلى بيت المقدس وبين عشرة صوفيين. وفي المقامة، يتحرَّى انتقاد صوفية زمنه وسلوكهم من أكل، وشرب، ونوم، وكسل. ومقامته الثانية هي المقامة الأنطاكية، وفيها يزور شخصٌ من المعرة أنطاكية، فيصف الطبيعة فيها، ويحمد الله أن ردها إلى العرب، ويحزن لتباغض العرب والروم فيها. ومقامته الثالثة المنبجية، وهي على النسق السابق؛ إذ يزور شخص من المعرة منبج ويصفها. (ضيف، 1990، 323).

ومن هنا يظهر لدينا أنَّ مقامات المتأخرين لم يعد الهدف فيها الإضحاك والإمتاع، وإنما صار كلٌّ يقصد إلى هدفه، بينا ظلوا يعتمدون الأسلوب المسجع الذي يعنى بإيراد الألفاظ الجزلة والغريبة.

(د) السيوطي

السيوطي هو جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد. وهو من سلالة شيخ صوفي من أسيوط. وقد كان لأسرته وجاهة ورياسة في أسيوط. وقد هاجر جلال الدين السيوطي إلى القاهرة للدراسة، وكان أن ترك له والده ثروة كبيرةً أعانته على الانصراف إلى العلم، والاستزادة منه، والتفرغ له. ويروى أنَّه شرع في التصنيف وهو لا يزال في السابعة عشرة، سنة 866 هـ، كما يروى أنَّه أفتى سنة 871 هـ، وعقد له مجلس لإملاء الحديث سنة 872 هـ. ويروى أنَّه سافر إلى بلدان كثيرة، وتبحر في التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع.

أمَّا مقاماته، فقد كتب نحو أربعين مقامة ليس فيها من مقامات الهمذاني والحريري إلا الأسلوب؛ فهي تدور حول موضوعي المنافرة والمفاخرة، منها الوردية في مفاخرة الأزهار، والتفاحية في مفاخرة الفواكه، والزمردية في مفاخرة البقول الخضراء، والمسكية في مفاخرة العطور، والياقوتية في مفاخرة الأحجار الكريمة. وله مقامات أخرى، منها الأسيوطية التي بناها على ألغاز نحوية، ومقامة على لسان عشرين عالمًا يصف كل منهم ليلة زفافه بلغة علمه ومصطلحاته، وله مقامة الجيزية التي جعل موضوعها لغزًا شعريًا، وله المقامة السندسية التي جعل موضوعها نجاة والدي الرسول صلى الله عليه وسلم من النار. وجليٌّ أنَّه كان يرى المقامة قابلة لمناقشة أيِّ موضوع، فكان بهذا يبتعد عن أصل المقامة، ويؤكد أنَّه كان في علمه أنجح من أدبه. (ضيف، 1990، 455 – 485).

وقد كتب الكثير من الكُتَّاب مقاماتٍ اختلفت مواضيعها، لكنها اتفقت في ابتعادها عن أدب الكدية السائد في مقامات بديع الزمان والحريري، ومن هؤلاء: الزمخشري الذي كتب خمسين مقامة تناول فيها مواضيع الزهد، والتقوى، والتصوف، والأدب. وابن الجوزي الذي تغلب على مقامات الصبغة الصوفية العرفانية، والتي يغلب عليها الرمز. والحنفي الذي اتبع في مقاماته الاعتدال في استخدام الألفاظ، وحافظ على عنصر الهزل. والشاب الظريف الذي اشتملت مقاماته على معانٍ صوفية وروحية برز فيها تأثره بابن الفارض وابن عربي. والصفدي الذي تأثر في مقاماته بمقامات ابن العطار. والشهاب الخفاجي الذي تميَّزت مقاماته بالنقد الاجتماعي.

وهذه المقامات لا تشبه مقامات بديع الزمان والحريري سوى في الأسلوب، وهي أحق أن تسمى رسائل؛ لكنَّهم سمُّوها مقامات تبعًا للأسلوب الذي اتخذوه غافلين بذلك عن حقيقة عناصر القصة فيها، ما يعني أنَّ القدماء لم يروا في مقامات الهمذاني والحريري سوى هزلٍ وعبث في قالب أدبي، فاستهواهم القالب بينا نبذوا المضمون واعتبروه لانصًا تبعًا لمعاييرهم آنذاك.

أمَّا في العصر الحديث، فقد قلَّد الأدباء أسلوب المقامات، وقلَّد بعضهم المضمون أيضًا، واصطفى البعض عناصر القصة، وهؤلاء هم: أحمد البربير، وناصيف اليازجي، ومحمد المويلحي، وأحمد فارس الشدياق، وعبد الله فكري. أمَّا أحمد البربير، فمقامته على نمط القدماء المتأخرين؛ إذ وضعها في المفاخرة بين الماء والهواء، ويبدو أنَّ الهدف منها كان أخلاقيًا.

أمَّا ناصيف اليازجي، فقد اتبع الحريري في الأسلوب والموضوع في كتابه (مجمع البحرين)، وقد استعرض فيه طرائف الموضوعات، وبدائع الألاعيب البيانية والأدبية. وتقليده للحريري تقليد دقيق، وإن لم يبلغ شأوه. وقد كتب ستين مقامة، جعلها كلها في الكدية، ووسع فيها نطاق الاحتيال، ورتبها زمنيًا، وسرد فيها قصصًا عن حياة العرب وأدبهم في المدن الكبرى، كالقاهرة، وبغداد، ودمشق، وغيرها. وكان يبدأها بـ: حكى، حدَّث، أخبر، روى، وما يرادفها. وقد حشد فيها المصطلحات اللغوية، والطبية، والفلكية، وكانت الغاية من مقامته لغوية تعليمية. ورغم إبداع اليازجي، نراه خلق فجوةً زمنيةً بين القارئ المعاصر، ومقاماته؛ إذ يجب على القارئ أن يستعين بمعجم لفهم مقامات كتبت في العصر الحديث، بينا لم يكن الأمر كذلك في عصر الحريري، فجاءت مقاماته متكلفة. (صفدر، 2011، 123).

أمَّا محمد المويلحي، فقد كتب مقاماته تحت عنوان (حديث عيسى بن هشام)، وفيها استخدم الأسلوب القديم للمقامات، وطوَّر فيه ليستوعب القضايا المجتمعية الحديثة. ويعرض المويلحي في مقاماته مفارقات الحياة في المجتمع المصري. وعناصر القصة بارزة في مقامات المويلحي، ويعتبرها النقاد من ضمن الكتابات التي أسست لظهور فن الرواية، بينا اعتبرها البعض روايةً لعدم التزام الكاتب بالأسلوب المسجوع، وإن كان قد احتفظ بأركان المقامة الأصلية. أمَّا الهدف من مقاماته فاجتماعي إصلاحي؛ إذ استقى موضوعاته من الموضوعات الاجتماعية السائدة، فنقد القضاء، والشرطة، والدولة، وكشف النفاق المجتمعي. وقد اتبع نهج بديع الزمان والحريري في اتخاذ راوٍ وبطل، فراويه هو نفسه راوي بديع الزمان: عيسى بن هشام، وأمَّا البطل فشخصية تاريخية مصرية: أحمد الباشا المنيكلي؛ إلَّا أنَّ موضوع الكدية هنا غائب تمامًا؛ لأن البطل من أصحاب المال لا من أصحاب الكدية.

أمَّا أحمد فارس الشدياق، فله أربع مقامات كتبها في كتابه (الساق على الساق)، متخذًا أسلوبًا قصصيًا فنيًّا ظريفًا. وقد جعل راويها الهارس بن هشام وبطلها الفارياق، والتزم فيها السجع، ووشحها بالشعر، فالتزم بذلك قالب المقامة. وفي مقامته الأولى، وزان بين حالتي بؤس المرء ونعيمه، وفي مقامته الثانية (مقعدة)، تناول موضوع الزواج، وفي الثالثة (مقيمة)، برز العنصر القصصي، وفي الرابعة (ممشيّة)، تحدث عن الزواج والعزوبية. فمواضيع مقاماته تتحدث عن الحياة الاجتماعية ومشاكل العصر. واسم بطله منحوت من اسمه، واسم الهارس مشتق من اسم الحارث راوي الحريري. وأسلوبه له أسلوب المقامة العلمية، وشكل روائي يجمع بين المقامة والمقالة. وتصنف مقاماته هذه ضمن بدايات الرواية العربية. وقد ذكر أنَّ الهدف من مقاماته هو إبراز نوادر اللغة وغريبها، وذكر محامد النساء ومذامهن، ما يجعل الغاية من هذا غاية تعليمية.

أمَّا عبد الله فكري، فقد كتب ثلاث مقامات، الأولى تكاد تكون قصة قصيرة بالمفهوم الحديث، ولها راوٍ، وأسلوب قصصي، وهدف أخلاقي. وهي لا تشبه المقامات في البداية، ولم يلتزم فيها الكاتب بالسجع، ولم يعتمد على الصنعة اللفظية. أمَّا المقامة الثانية فموضوعها العمَّال والبطال، وهي في هذا قد اتخذت أسلوب المناظرات الذي اتخذه القدماء المتأخرون. وأمَّا المقامة الثالثة، فعنوانها (في الفكرية في المملكة الباطنية)، وتتحدث عن رحلة خيالية فلسفية لاستكشاف المعرفة الحقيقية.

أثر المقامات في الأدب العربي

لمقامات بديع الزمان قيمة اجتماعية كبيرة، ولمقامات الحريري قيمة لغوية كبيرة؛ إذ أنَّ بديع الزمان قصد إلى النقد الاجتماعي، بينا قصد الحريري إلى إبراز براعته اللغوية، وإن تعرَّض لبعض المواضيع الاجتماعية، كالكسل والتواكل. أمَّا المقالات التي كتبت في العصور اللاحقة، ما كتب في المشرق وفي المغرب وفي الأندلس، فإن قيمتها ضئيلة سواء من حيث التصوير الاجتماعي أو من حيث الشكل والفكرة. فهي إمَّا مناظرات ورسائل، أو تقليد مقموع الروح، كما في مقامات اليازجي. (مرتاض، 1988، 527).

ورغم هذا، لفن المقامات أثر كبيرٌ على الأدب العربي، من هذا مقامة الهمذاني (الإبليسية) التي دار فيها حوار بين عيسى بن هشام وإبليس المكنى أبا مرة. وقد قيل في هذا أنَّ ابن شهيد وأبا العلاء المعري تأثرا بها في التوابع والزوابع ورسالة الغفران.

كما كان للمقامات تأثير على التأليف؛ إذ تناولها الكثيرون بالشرح والتعليق، إضافةً إلى ما كان من التقليد والمعارضة. كما كلف المستشرقون بفن المقامات، منهم الإنجليزي مرغوليوث، والسويسري آدم متز، والألماني كارل بروكلمان، والفرنسيين رجيس بلاشير، وماصنو، كليمان هوار، ودوساي الذي قام بشرح مقامات الحريري بالعربية في مجلدين ضخمين.

كما تأثر الفرس بالمقامات؛ إذ ألَّف القاضي حميد الدين البلخي مقامات بالفارسية، وترجم اليهودي الحريزي مقامات الحريري إلى لغته، ثم كتب خمسين مقامة هزلية سمَّاها (سفر تهكيموني)؛ أي كتاب التهكم. كما تأثر الإسبان بالمقامات في قصص الشطار الرائجة في الأدب الإسباني. كما ألهمت المقامات الحريرية الرسامين، وفي هذا مخطوطان محفوظان في المكتبة القومية في باريس، والآخر في معهد الدراسات الشرقية في أكاديمية العلوم في لنجراد. وفي المخطوط الأول ثمة تسعة وثمانون لوحةً رسمها يحيى بن محمد الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي. (مرتاض، 1988، 533 – 538).

من هذا نرى أنَّ المقامات أذكت مجال النثر في وقتٍ كان الشعر يستأثر بالأغراض كلها، ولم يكن لدى الكتاب سوى وضع المصنفات العلمية، أو اللغوية، أو الأدبية، أو النحوية حتى جاء بديع الزمان وابتدع الخيال، والبلاغة، والبيان، والبديع في قالبٍ سردي قصصي بعيدًا عن الحكاية التي يشترط فيها أن يكون البطل شخصًا معروفًا لا متخيلًا. وبهذا اختط للنثر العربي وللأدباء أسلوبًا سرديًا عجزوا أن يتبعوه آنذاك تحت ضغط التقاليد العلمية، والأدبية، والنقدية؛ لكنَّه كان نورًا للمحدثين الذين اتبعوا أسلوبه في بدايات كتابة الرواية العربية.


المراجع

(1) أدب الكدية في العصر العباسي، أحمد الحسين، دار الحصاد، دمشق، الطبعة الثانية، 1995.

(2) المقامة بين الأدب العربي والأدب الفارسي – الحريري والحميدي خصوصًا، فرح ناز علي صفدر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2011.

(3) المقامة، شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، 1973.      

(4) النثر الفني في القرن الرابع، زكي مبارك، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013.

(5) عصر الدول والإمارات – الجزيرة العربية، العراق، إيران، شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1980.

(6) عصر الدول والإمارات – الشام، شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1990.

(7) عصر الدول والإمارات – مصر، شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1990

(8) فن المقامات في الأدب العربي، عبد المالك مرتاض، الدار التونسية للنشر، تونس، الطبعة الثانية، 1988.

(9) فن المقامات، النشأة والتطور؛ دراسة وتحليل، محمد هادي مرادي، مجلة التراث الأدبي، السنة الأولى، العدد الرابع، الثامن عشر من شوال، 1388 هـ.

(10) فن المقامة العربية، نزار شاهين، دار البداية، الأردن، الطبعة الأولى، 2015.

(11) نشأة المقامة في الأدب العربي، حسن عباس، دار المعارف

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

أين تختفي الأشياء؟

أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج  17 إبريل،  2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…

2 days ago

هِي خَائِفَة

هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج  15 إبريل،  2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…

2 days ago

وَجْهٌ ذَائِب

وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج  12 إبريل،  2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…

2 days ago

هِبَةُ القَصْرِ السِّحْرِي

هِبَةُ القَصْرِ السِّحْرِي هاجر منصور سراج  8 إبريل،  2025 تتدلى الثريات المضيئة من سقف المجلس…

2 days ago

فَأْرَة

فَأْرَة هاجر منصور سراج  1 إبريل، 2025 فتحت فأرة عينيها للنور في سيرك يعج بالمهرجين؛…

2 days ago

رثاء الريحانة العَطِرة

رثاء الريحانة العَطِرة هاجر منصور سراج  1 فبراير، 2025 ريحانتي الراحلة! تركتُكِ، في آخر زيارة…

4 days ago