هاجر منصور سراج
17 سبتمبر، 2024
منذ زمن بعيد، بدا للدارسين والفلاسفة علاقة الاستفادة بين الأدب والأسطورة، فراحوا في محاولات لتفسير هذه العلاقة، ومعرفة الكيفية التي يستفيد فيها الأدب من الأسطورة، والحد الفاصل بينهما. ومن خلال هذه المحاولات تشكل المنهج النقدي الأسطوري مستفيدًا من عدِّة علوم إنسانية أهمها: علم النفس، والأنثربولوجيا، وعلم الأديان، وعلم الآثار، والفلسفة.
أمَّا الخلفية التي قدَّمها علم النفس فتتمثل في النظرية التي قدَّمها كارل غوستاف يونغ في التحليل الجمعي حيث رأى أن الأساطير نتاج اللاوعي الجمعي أو اللاشعور الجمعي الذي يقع في مقابل اللاشعور الفردي. وبعكس اللاشعور الفردي عند فرويد، يختزن اللاشعور الجمعي موروثات الجنس البشري كله لا مكبوتات الأفراد. فيونغ يرى أن «الإنسان لا يرث الموروثات البيولوجية فقط إنما يرث معها أيضًا الموروثات العقلية والنفسية التي يشترك فيها جميع البشر بغض النظر عن اختلاف الأزمنة والأمكنة التي ولدوا وعاشوا فيها، كما يستوي فيها الإنسان البدائي والمتحضر»، (الربعي بن سلامه، ص 13). والأدب النفسي عند كارل يونغ نوعان: أولهما يتخذ مادته من مجال التجربة الإنسانية الفردية الواعية وهذا الإبداع لا يتجاوز في نشاطه حدود الوضوح والفهم، أمَّا النوع الثاني فهو القائم على الإبداع الفني القائم على الرؤى؛ وهنا يقول يونغ: «تصيبنا الدهشة، ويختلط علينا الأمر، ونصبح مضطرين لأن نأخذ حذرنا، وأحيانًا يصيبنا التقزز ونطلب تعليقات وتفسيرات. فهو لا يذكرنا بشيء في حياتنا اليومية وإنما بالأحلام والمخاوف الليلية التي نشعر إزاءها بالتخوف والرهبة»، (سمير سرحان، 1981، ص 100). هذا الإبداع نتاج اللاشعور الجمعي؛ فعالم المخاوف الليلية، والمناطق المظلمة في العقل هو – في نظر يونغ – عالمنا جميعًا، والتجربة الأدبية هنا مستمدة من أغوار النفس الإنسانية، وهي تقع في نفس المتلقي موقعًا حسَّاسًا إذ يعبر الفنَّان عن أفكاره وأحاسيسه على أوتار مشتركة بين أفراد البشرية جمعاء.
يأتي بعد ذلك دور الأنثربولوجيا في تعزيز هذا المنهج عن طريق نتائج توصل إليها من خلال دراسته ثقافات الشعوب وتطورها من البدائية إلى التحضر. ولعل أبرز ما أفاد منه النقد الأسطوري هو كتاب الغصن الذَّهبي لجيمس فريزر، الذي رأى نورثروب فراي أن تأثيره في النقد الأدبي كان أعظم من تأثيره على حقله الذي يدَّعِي الانتماء إليه. وقد تتبع فريرز في كتابه تطور السحر والدين. ويأتي بعد جميس فريزر المنتمي إلى المدرسة الأنثروبولوجية التطورية، كلود ليفي شتراوس المنتمي إلى المدرسة الأنثروبولوجية البنيوية التي لم تكتفي كسابقتها بتتبع الظواهر الثقافية ورصد التطورات التي تطرأ عليها، إنما حاول البحث عن البنية والقوانين الداخلية التي تحكم الأساطير، وذلك بعد دراسته لحوالي ألف أسطورة، وكان أن توصل في النهاية إلى أن الأساطير تتشابه في كل أنحاء العالم، وهذا التشابه راجع إلى وحدة التفكير البشري الذي هو نتاج وحدة البنية العقلية الموروثة.
وفي علم الأديان، تتبع مرسيا إلياد تاريخ الأديان وأجرى بينها مقارنة بنائية، كان نتيجتها أن وجد أن أساطير السحر والطقوس الدينية متشابهة في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يعني عودتها جميعًا إلى أصول مشتركة؛ وأن الاختلافات بينها إنما هي عارضة تقع في المظاهر الخارجية. ونظرة الإنسان إلى الطبيعة هي التي شكلت عالمية بعض الرموز كالرمزية المائية ورمزية الأرض والشجرة الكونية… إلخ.
أمَّا دور المدرسة الرمزية في اكتشاف الدلالات الرمزية المشتركة للأساطير، فتتمثل في عناية الأدباء والنُّقاد منذ منتصف القرن التاسع عشر برموز المجتمعات البدائية وسعيهم للبحث عن أصولها الفلسفية، ومحاولاتهم إدراجها ضمن نظرية المعرفة. ولما كانت الفلسفة العقلية قاصرة عن الإحاطة بأفعال وأنشطة الروح الإنسانية في تلقائيتها المبدعة؛ فقد اشتغل الفلاسفة على البحث في هذه الرموز الأسطورية، وكان منهم الفيلسوف الإيطالي جيوفاني فيكو الذي يعد الرائد الحقيقي لمنهج العودة إلى الموروث؛ إذ تقوم دراسته للفن من حيث اتصاله بمنابعه وأصوله الأولى، وكان ذلك في كتابه العلم الجديد الذي نشر 1725. وفيكو، في دراسته، يمزج بين الشعر والأسطورة فلا يفرق بينهما؛ فهما عنده متشابهان في النشأة والشكل والوظيفة. وقد درس فيكو التاريخ والأسطورة بهدف الوصول إلى قواعد الفعل والفكر الإنساني الجماعي، فقسم التاريخ إلى ثلاث مراحل: الآلهة، الأبطال، البشر. وجاء بعده إرنست كاسيرر الذي رأى أن اللغة والأسطورة يصدران عن دافع التشكيل الرمزي. (غزول، فصول، ص 106).
وقد اكتملت ملامح النقد الأسطوري على يد الكندي نورثورب فراي في كتابه تشريح النقد الذي قسَّمه إلى أربع محاولات جعل الأولى للنقد التاريخي (نظرية الأنماط) والثانية للنقد الأخلاقي (نظرية الرموز) والثالثة للنقد النموذجي (نظرية الأساطير) والرابعة للنقد البلاغي (نظرية الأنواع الأدبية). وقد بدأ في توضيح المنهج بداية من المرحلة الثالثة في المحاولة الثانية إذ أشار إلى أن ما يعتبره البعض تقليدًا هو الأدب الأصيل؛ لأن الأدب في تعبيره عن كل شيء لا يتشكل منه، فالأدب يشكل نفسه ولا يتشكل من الخارج، فالأشكال الأدبية لا توجد في الخارج، «والفرق بين الشاعر الأصيل والمقلِّد هو أن الشاعر الأصيل أشدُ إيغالًا في التقليد». (فراي، 1991، ص123)؛ إذ أن الأصالة هي العودة إلى أصول الأدب؛ والدراسة بحسب النظرية لا يمكن أن يقوم بها إلا النقد النموذجي. وفراي بحسب نظرية الأساطير يرى أن الأدب كله قد انحدر من المنابع الأسطورية، وسيظل ينحدر منها. وهذه المنابع تدور كلها حول أصل الكون، وحول ما يتداوله من خلق وفناء، أو موت وبعث، أو جدب وخصب؛ ولذلك قسَّم هذه المنطلقات بحسب نشاط الطبيعة إلى أربع ميثات أساسية تجسدها فصول السنة التي تمثل دورة الحياة: قصة الربيع: الكوميديا، قصة الصيف: الرومانس، قصة الخريف: المأساة، قصة الشتاء: السخرية والهجاء.
فالمنهج الأسطوري عند فراي يقوم على فكرة الفصل بين الأدب والتجربة الواقعية؛ فالأدب ترميز ميول العقل البشري، القديمة والعميقة الجذور، وهي الميول التي وجدت تعبيرها الأولي في الأسطورة؛ وبحسب هذا تكون المحاكاة الأدبية للخبرة التجريبية مجرد ستار يخفي مادة أقدم وأعمق جذورًا في النفس. وقد تعرض المنهج الأسطوري للكثير من النقد والطعن لكونه لا يهتم بالأدب وبقيمته، ولا يفرق بين الجيد والرديء منه، ولا يتخذه غاية في دراسته؛ وإنما يتجه إلى دراسة الأدب بوصفه في جوهره دراسة لعلم الإنسان. كما اُنتقدت الدراسات الأسطورية للشعر الجاهلي؛ لأنها أتت بمقولات معرفية جاهزة لتفرضها على الشعر الجاهلي. ويقول بن سلامه إن القراءة الأسطورية لا تعيد المتلقي إلى المعنى الواحد بل إلى القانون الواحد. (بن سلامه، ص 43)
أمَّا حنا عبود فيرى أن ما يُمَكِّنُنَا المنهج الأسطوري منه هو معرفة الإجادة في التعديل؛ حيث يزاح العمل الأدبي عن الأسطورة النموذجية بما يتناسب مع طبيعة العمل الأدبي، الأمر الذي يوضح مهارة الكاتب، فالمنهج الأسطوري يكشف الفروق والانزياحات في الأسطورة الواحدة الموظَّفة في أكثر من عمل أدبي. (حنا عبود، 1999، ص 108 – 110). ويذكر الربعي بن سلامه أن ثمة ميزات للمنهج الأسطوري أهمها تحرر النص الأدبي من أسر الواقع والتجربة، وينقل عن غراهام هو قوله إن المنهج الأسطوري يحيل إلى ترميزات ميول العقل البشري لا إلى التجربة العملية، والقول بمحاكاة التجربة العملية ليس إلا ستارًا يخفي مادة أعمق جذورًا في النفس.
وعلى الرغم من النقد الذي اقتنص عيوب المنهج الأسطوري، فقد لَقِيَ صدًى واسعًا عند النقاد العرب، ونشرت كثير من الدراسات التي اتخذت هذا المنهج منطلقًا في بحوثها، منها: دراستا ريتا عوض (أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث) 1978 و (أدبنا بين الرؤيا والتعبير) 1979، ودراسة علي البطل (الصورة في الشعر العربي)، ودراسة نصرت عبد الرحمن (الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث) 1982، ودراسة مصطفى الشورى (الشعر الجاهلي: تفسير أسطوري) 1986.
وفي منهج النقد الأسطوري لدينا ثلاث نظريات اكتملت بعد إرهاصات طويلة: نظرية أندرية يولس، ونظرية نورثروب فراي، ونظرية بيار برونال. أمَّا النظرية التي اتبعتها في التحليل الأسطوري في هذا الفصل فهي نظرية بيار برونال المكونة من ثلاث خطوات، وفي هذه الخطوات ثلاث فعاليات فقط، وهي: التجلي Emergence، والمطاوعة Flexibilité، والإشعاع Irradiation.
يعني بروز العنصر الأسطوري أو انبثاقه داخل النص الأدبي. والتجلي ليس الظهور؛ ذلك أن الظهور هو خاصة الشيء غير الموجود أساسًا، أمَّا التجلي فهو يميز الخصائص الجوهرية من العرضية للعنصر الأسطوري؛ ما يعني أن حضور العنصر يكون تامًا (مفصلًا) أو جزئيًا، فيدل عليه من خلال خصائصه وسماته، أو مضمرًا، وهنا يجب أن يحافظ العنصر الأسطوري على الحد الأدنى من خصائصه المميزة لها التي لا تسلبه هويته.
هي طاقة كامنة في العنصر الأسطوري تمنحه القدرة على التشكل وفق رؤية المبدع. فهي مجموع اتساعات الذاتية لعنصر أسطوري ما استجابةً لتحويرات المبدع من خلال توظيفه الواعي لذلك العنصر. وتتخذ المطاوعة أشكالًا عديدة، منها: انتزاع العنصر الأسطوري عن سياقه الأصلي وإدماجه في سياق جديد، والتصرف في أحد عناصره أو تبديلها بما يخدم رؤية المبدع الفكرية والجمالية. وقد يكون التصرف في الملامح الأسطورية من خلال الزيادة أو الحذف. وكلما كان التصرف في تحوير صفات العنصر الأسطوري، زادت مطاوعة ذلك العنصر؛ وقد يأتي التصرف عن طريق تشويه العنصر الأسطوري من خلال التوظيف العكسي، كتشويه الأبطال الأسطوريين. وهذا النوع من المطاوعة يعكس قراءة المبدع للعنصر الأسطوري وتفسيره له.
ويعني أن يمتلك العنصر الأسطوري خصائص ذاتية يستغلها المبدع كي تشع على مجمل العمل الأدبي، حين يلقي ذلك العنصر بضلاله على مجموع المساحة القرائية فيشكل الأرضية القرائية لذلك العمل الأدبي. ويشع العنصر الأسطوري انطلاقًا من موقعه النصي فقد يكون عنوانًا للعمل الأدبي، أو فاتحة، أو إهداء، أو فقرة على الغلاف الخارجي، أو لازمة نصية متكررة، أو جملة مكثفة الدلالات، أو إشارات أسطورية؛ كل هذا إذا لم يكن تجلي العنصر الأسطوري واضحًا.
وقد حضرت الأسطورة في رواية التِّلال حضورًا متنوعًا ما بين أسطورة بابلية، ومصرية، وإغريقية. وقد سعيت إلى تقصيها مستندة على المنهج الأسطوري بحسب معايير برونال (التجلي، المطاوعة، الإشعاع)، وخلصت إلى أنها ثلاثة أساطير: أسطورة الموت والانبعاث، أسطورة عشتار الأم الكبرى، أسطورة المعرفة.
ثمة أساطير كثيرة يمكن أن ندرجها تحت هذا العنوان، إلا أنَّ ما تناوله هاني الرَّاهب في روايته هما أسطورتان: أسطورة إيزيس وأوزيريس، وأسطورة العنقاء.
(أ) أسطورة إيزيس وأوزيريس:
تعتبر أسطورة أوزيريس رمزًا للصراع بين الخير والشر، ورمزًا لوفاء الزَّوجة المتمثل في إيزيس زوجة أوزيريس، ورمزًا للموت والانبعاث. فأوزيريس إله الخير الذي مَلَكَ مِصر، وكرَّس نفسه لتعليم رعاياه الزراعة والاقتصاد، ولتشريع القوانين، ولتعليم الناس عبادة الآلهة. كان أخوه سِت يمثل جانب الشر، وكان يضمر الغدر طمعًا في السلطة، وقد تربص بأوزيريس بعد أن لبث ثمانية وعشرين عامًا ملكًا على مصر، وقتله غيلة ثم رمى بتابوته في النيل الذي ساقه حتى البحر الأبيض حيث دخل في جذع شجرة نحيلة لم تلبث أن انتفخ جذعها وتضوعت طيبًا، واقتطعت الشجرة لملك ببيلوس. وهبَّت إيزيس الزوجة والأخت إلى هناك وعادت بتابوت أوزيريس وخبأته في الدلتا حتى لا يعثر عليه سِت، لكن هذا الأخير ما لبث أن وجده فأتى على جثة أخيه تقطيعًا، وتركها أربعة عشرة شلوًا راحت إزيس تجمعها من على طول البلاد حتى صارت إليها كل أجزائه إلا عضو الذكورة الذي أكلته نوع من الأسماك. وبعد أن عاد أوزيريس حملت إيزيس منه حورس. وكان أن رفض أوزيريس العودة إلى مُلْكِ الدُّنيا؛ فهبط إلى العالم السفلي ليكون ملكًا عليه. وحمل الإله أنوبيس حورس قائلًا بعودة أوزيريس. وقد دخل حورس في معركة مع عمه سِت استمرت ثلاثة أيام حتى قتله وأخذ الملك لنفسه.
وتتجلى هذه الأسطورة في ثيمة الاحتفال بعيد الفصح في الرواية حيث كان النيلوتيون يقيمون طقسًا في الربيع «عندما يصطبغ النهر بدماء إلههم أوزيري يخرج النيلوتيون من جميع فجاج الأرض – من الجبال والغابات والسهول والوديان والصحراء والنهر – ويرتدّون إلى همجيتهم العريقة»، (رواية التلال، ص 10). وقد وَرَدَ على لسان فيضة «ألا تخاف أوزيري؟»، (التلال، ص 17)، فأوزيريس حاضر في الرواية بوظيفته الأسطورية، إلهًا يساعد البشر ويعلمهم أمور حياتهم الدنيوية؛ فالمدينة القديمة «لعل أوزيري مرّ بها ذات يوم، إن لم يكن بناها بنفسه»، (التلال، 19). واستجلاب الرَّاهب لأوزيريس في الرواية رمزًا للبعث العربي ويتجلى هذا على لسان فيضة حين قالت إن «الآلهة لم تتعطَّف وتبعث أوزيري حيًا، وإنما أجبرت على ذلك. لأن الحياة كانت تموت بموت أوزيري. وإذا لم تكن ثمة حياة، فلماذا الآلهة؟ إذا لم يكن ثمة ثمار ونسل وحب وجمال وأغانٍ، فلماذا الآلهة؟ قالت إن الآلهة في ذلك الزمان، ومعها سماسرتها، كانت تخاف من انتفاضات الإنسان البدائي، الهمجيّ. فعندما تهدّد الشمس القمر، أو النهر المزروعات، أو العاصفة البيت، فلا تفعل الآلهة شيئًا لمنع الكارثة، كان البدائيون يهجمون عليها بفأسهم فيشطرون جبينها، ولا يكتفون بالتذمُّر أو السباب السِّريّ. لهذا اضطرّت إلى إحياء أوزيري»، (التلال، 33). والحق أن كلام فيضة هذا يلخص الرواية بالكامل؛ فالإنسان في الرواية باحث عن هويته وقوميته (الوحدة النيلوتية/ الوحدة العربية)، والآلهة التي ذكرتهم إنما يجسدون السلطة العليا التي تعاقب عليها مجموعة من الحكام، كانوا مجبرين لبعث الحياة، للبحث عن الثمار، والحب، والجمال، والأغاني.
وموت وانبعاث أوزيريس هو رمز لموت الطبيعة وحياتها، وقد تجلى هذا في الرواية «… أمَّا أن يموت إنسان ويحيا كل عام، وتموت معه الطبيعة وتحيا كل عام، فحدوثة لم تكن لتخطر على بالنا»، (التلال، 33). وموت أوزيريس وحياته رمز للنهضة، واغتياله رمز لتهديد النهضة العربية؛ فحينما غادرت فيضة بعليتا مروَّعة إلى المخاة وعمريت قبيل أن تحدث فيها محاولة لسلب الهوية العربية، قالت لمصعب السبئي: «شيء رهيب يجري في المخاة الآن. سيغتالون أوزيري هناك. سينثرون أشلاءه على وجه الأرض. سوف يقتلعون عروق الذهب من جوف الجبال ويطهّمون بها جيادهم وخزائنهم»، (التلال، 84). ويتجلى موت أوزيريس وانبعاثه في الطقس الإخصابي الذي كان يقوم به النيلوتيين. كما تُشع الأسطورة في الصور البلاغية على طول الرواية.
وفي الرواية تمثل فيضة إيزيس الباحثة عن أوزيريس، فهي «ستصنع قاربًا، وتبحث عن أوزيري. وأوزيري سيأتي من عالم مدموغ بالخطيئة، لأنه إذا لم تكن هناك خطيئة فهو لا يأتي، إذا لم يكن هناك غلط وقبح وقحط لا يجيء حاملًا غصنه الجميل البعيل. وأوزيري يجيء يوم يموت السمسار. أوزيري يجيء عندما يسقط عن العرش إله الدراويش وكاهن المشعوذين. هؤلاء السحرة، حَمَلَة البلاسم العقيمة، معتمرو التيجان الحمراء والوسخة، فشلوا في صدّ العاصفة والفيضان والقيظ. الطقوس التي أقاموها في الساحات، والعبادات السوداء داخل المعابد، كانت شعوذات خنقتهم بدخان الكبريت. هذه هي علامات أوزيري. السمسار مات. سماسرة آخرون يموتون. هذه هي علاماته»، (التلال، 134). وإيزيس هي أخت وأوزيريس وزوجته وأمه. فأوزيريس هو الجانب الذكري الكامن في إيزيس. فـــ
«إيزيس صاحبة السلطان وروح العدل حمت أخاها.
بحثت عنه بلا كلل، ولا أقعدها عناء.
بدموع جارية طافت كل البلاد فما استراحت قبل لقياه
ظللت جسده بريشها ورفت فوقه بجناحها.
نعم، إيزيس التي شدَّت أزر أخيها،
ونفخت في جسده المتلاشي العزيمة.
إيزيس التي تلقت بذوره في بطنها،
وحملت بوارثه فأرضعته في مأمن»، (السوَّاح، 2002، ص 323).
وقد تجلت هذه الأسطورة؛ حيث طفقت فيضة تبحث عن أوزيري فعبرت المخاة وعمريت وشقت الشعاب والأنهار حتى وصلت إلى باب إيل، وهناك التقت فيضي السعيد الذي رجَّح الجميع أنه والد الطفل الذي حملت به بعد عقم طويل. فأوزيريس في الرواية فكرة نهضوية تحررية، فكرة الهوية العربية المستقلة، فكرة الديمقراطية، فكرة الشعب الحر من ربقة الطبقات المتجذرة بسبب الاستعمار. وفيضة إيزيس التي تبحث عن تجلي أوزيريس في البشر الفانيين، تبحث عنه بلا كلل، ولا يقعدها عناء، وكان أولًا مرعي السنجاري، ثم فيضي السعيد الذي حملت منه. وحينما سمح مرعي السنجاري بحرية الفن والفنانين والديمقراطية في المسرحية التي تمَّ عرضها، لقيته فيضة لتقول له إنَّ فكرة القومية العربية الموحدة، فكرة التحرر، أوزيري الذي أنجبته بعد بحث طويل وعقم أطول لا يزال صغيرًا، وسوف يقتله بتصرفه: «أرخيت لهم الحبل يا مرعي. سيلفّونه حول عنقه. أوزيري صغير. سيكون دمه في رقبتك»، (التلال، 244). وإيزيس في الأسطورة تنتحب على زوجها أوزيريس وتناديه بأخي وزوجي وابني، وكذلك تفعل فيضة حين يُقْتَل مرعي السنجاري (أوزيريس الفكرة) فتناديه «أخي! ولدي! (…) أخي! حبيبي!». وفيضة لتضمن استمرارية الخصب، بذلت ابنها الوحيد لأوزيري من أجل خلاص بعليتا والوحدة النيلوتية. وهذه التضحية بالابن شائعة في الأساطير حتى تبنتها المسيحية وصارت ترتكز على هذه الفكرة إذ يجيء في إنجيل يوحنا: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، (إنجيل يوحنا، 3:16، نقلًا عن السوَّاح، 2002، ص385).
(ب) أسطورة العنقاء:
تعد أسطورة العنقاء أكثر الأساطير شيوعًا بين الشعوب، وهي تتردد بأسماء كثيرة، فهي العنقاء عند العرب، والسمندل عند الهنود، والفينيق عند الأشوريين واليونانيين والرومان، والسيمورغ عند الفرس، وبنو عند المصريين القدماء. والعنقاء طائر مديد العمر بعد مئات السنين يحترق في عشه ويصبح رمادًا ثم يولد من جديد، وهكذا في دورة أبدية. وهو رمز الأبدية، وهو بحجم العقاب أو النسر، وله ريش ذهبي وقرمزي. وقد وردت عند العرب، وجاء في أمثالهم: (جاء فلان بعنقاء مغرب)، يريدون: جاء بالعجب العجاب. وهو يعمر زهاء ألف وسبعمائة سنة، أمَّا المصريون فكانوا يزعمون أنه يعمر خمسة قرون أو ستة قرون. وأنه حين يشعر بقرب أجله يبني له عشًا ويضرم فيها النار محرقًا نفسه لكنه لا يلبث أن ينبعث من رماده شابًا. وقد ذكر هيردوت أن المصريون يزعمون أنه يوجد في معبد إله الشمس في هليوبوليس. وفي التراث المسيحي ترمز العنقاء لقيامة المسيح. ( شابيرو وهندريكس، 2008، ص 209؛ عجينة، 1994، ص 336؛ إمام عبد الفتاح إمام، ص 128).
وقد تجلت أسطورة العنقاء في رواية التلال عن طريق ثيمة البعث المتعلقة بالنهضوية، ووردت بتقنية الإشعاع عن طريق الصور البلاغية، فتعبر التشبيهات عن الرغبة في الحرية، أو في المقاومة، أو الرغبة الثورية وانتفاضتها كالعنقاء. جاء في الرواية: «… عندها انتفضت كالعنقاء رغبة الناس في تأديب الشركة العالمية»، (التلال، 245). والرواية بأكملها تتحدث عن فترات متعاقبة للحكام، تمر فترة واحدهم ثم تحترق ليخرج من رمادها عهد جديد ومدينة جديدة. وسلسلة الثورات والاحتجاجات في الرواية إنما هي تعبير عن ذلك الانبثاق من الرماد: «كانت تلك الصيحات أول خروج علنيّ شجاع ضد الاستبداد، حتى النساء وطالبات المدارس أشرعن أجساده وحناجرهن للحرية. ومع الاندفاع المنساح للموجة بدا أن عصورًا بأكلمها قد احترقت وخرج من رمادها مدينة جديدة»، (التلال، 41). فثيمة الانبثاق من الرماد ممتدة على طول النص بتقنية الإشعاع.
تجليات هذه الأسطورة كثيرة تُصرِّح بها عشتار: «أنا الأول، وأنا الآخر. أنا البغي، وأنا القديسة. أنا الزوجة، وأنا العذراء. أنا الأم، وأنا الابنة. أنا العاقر، وكُثُرٌ هم أبنائي. أنا في عرس كبير ولم أتخذ زوجًا. أنا القابلة ولم أنجب أحدًا. وأنا سلوة أتعاب حَملي. أنا العروس وأنا العريس. وزوجي من أنجبني. أنا أم أبي، وأخت زوجي وهو من نسلي»، (جيمس روبنسون، نقلًا عن السوَّاح، 2002، ص 7). كانت تماثيل الأم الكبرى أولَ تماثيل أنشئت للآلهة، وقد أنشئت عن حسٍّ ديني وخبرة أولى مع العنصر الإلهي. وكل التماثيل الأولى متشابهة: تُظهر الأطراف والرأس والكتفين والرقبة والذراعين والساقين نحيلة حتى لتكاد تختفي، وتُبرز منطقة الثديين والبطن والحوض وأعلى الفخذين مناطق ممتلئة بشكل مبالغ فيه لدرجة التشويه، وهذا التمثيل للأم الكبرى لم يكن غرضه التجسيد الصوري، وإنما تمثيل رمزي للخصب؛ فالبطن المنتفخ إشارة إلى الحمل الأبدي، وكل الامتلاء الذي حوله إنما هو إشارة إلى الخصب والنماء والفيض الطبيعي التلقائي المتمثل في الأرض ودورة الطبيعة؛ فالخصب والفيض نتاج تلقائي لا نتاج ذهني، (السوَّاح، 2002، ص 42 – 66).
ويذكر السوَّاح (2002) أن عشتار تمتلك عدَّة أسماء: فهي في السومرية نمو الآلهة البدئية، وإنانا إلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية، وفي بابل عشتار، وفي كنعان عناة وعستارت، وفي مصر نوت وإيزيس وهاتور وسيخمت، وعند الإغريق ديمتر وجيا ورحيا وأرتميس وأفروديت، وفي فرجيا بآسيا الصغرى سيبيل، وفي روما سيريس وجيانا وفينوس، وفي جزيرة العرب اللات والعزى ومناة، وفي الهند كالي، وفي حضارة السلت الأوربية دانو وبريجيت. وقد اقتبس من أحد النصوص من الفترة الرومانية النص التالي (الذي جاء على لسان إيزيس): «أنا أم الأشياء جميعًا، سيدة العناصر وبادئة العوالم. حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربَّانية. أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والإلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة. بيدي أقدار أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم. يعبدني العالم بطرق شتى وتحت أسماء شتى، أمَّا اسمي الحقيقي فهو إيزيس، به توجهوا بالدعاء»، (ص 27). وتجليات عشتار الأم الكبرى كثيرة. أمَّا تجلياتها في الرواية فـ: عشتار القمر، عشتار الخضراء، عشتار سيدة الجنون، عشتار البغي المقدسة.
(أ) عشتار القمر:
ثمة كثير من الأساطير التي تدور حول خلق الإنسان وخلق زوجه، هذا علاوة على ما تزخر به الروايات التفسيرية للنصوص المقدسة، فالمعروف الشائع أن الله خلق الإنسان (آدم) من طين، وخلع من ضلعه زوجه. وخَلْقُ الإنسان من طين يرد في أسطورة التكوين البابلية، وينسحب على بقية الأساطير، فيرد في سفر التكوين العبراني، وفي الأساطير الإغريقية، والأساطير الإفريقية، وأسطورة هندية أمريكية، وأسطورة فلبينية، (السوَّاح، 2002، ب، ص 46 – 48). وهذا ما ذكره القرآن. وبالنسبة لخلق المرأة، تذكر الأسطورة البابلية أن الإله ايا قد خلق مرة واحدة زوجين شابين.
«قام ايا بخلق زوجين شابين
وأعلا من شأنهما فوق جميع المخلوقات». (نفسه، ص 100).
وتذكر أسطورة أخرى أن الآلهة خلقت الإنسان من دمائها، وقد خلقت الرجل والمرأة مرة واحدة.
«لنذبح بعض آلهة اللامجا
ومن دمائهم فلنخلق الإنسان
…
(أوليجار) و(الجار)
سيكون اسماهما»، (نفسه، ص 104).
وتقول أسطورة أفريقية إنه في البدء لم يكن هناك سوى رجل وامرأة يعيش كل منهما دون أن يعرف بوجود الآخر، إلى أن التقيا صدفة عند أحد الينابيع فتشاجرا وتصارعا وهنا اكتشفا الفعل الجنسي ومباهجه، فتصالحا وأنجبا خمسين فتى وفتاة. (نفسه، ص 108)
وقد أورد الرَّاهب أسطورة الرجل الأول والمرأة الأولى في روايته إيرادًا صريحًا، فقد جاء: «ذات مساء، والمنتصب على قائمتين متمدّد للنوم في كهفه العشبيّ، انشبح فجأة بين أغصان الكهف ضوء قادم من الشرق. لا أحد يدري كم ألف مرة من قبل حدث ذلك. لأمر ما، التفت إلى الجبال الغبشاء كما لو أنه سيقف على قائمتين. وهرع نحوه بلهفة روَّاعة. ركض إليه على السهل الفسيح. هذا القرص، لونه القوي الحارّ، ضوؤه النديّ المنثور – ينظر إليه ويجرحه. ولحظة رآه ينفصل أخيرًا عن وهدة الجبال، مكتمل المهابة والحسن، مؤطَّرًا بهالة لزجة كثيفة من الألق، أوقف الخشوع قدميه وأرخى شفتيه (…) وبعد قليل رآها: جالسة على قرص حجريّ أمام باب كوخها المفتوح للقمر. (…) وهي جالسة على القرص الحجريّ، مستغرقة في القمر (…) انتفضت واقفة إذ رأته. تناولت من جانبها عصا سكّينية الصنع. لبثا واقفين. تغلغل القمر فيهما والأصوات الوحشيَّة بأنس متبادل وخشية واشجة. لم يعرفا كيف يتحرّكان. هذا النوع من الخطى الملغي للمسافة بينهما لم يكونا قد مشياه بعد. لكن كلًا منهما أحسَّ بسيل يندفع في صدره فيدفعه نحو آخره المخيف الطليق. بصرخة وحشية متطاولة انطلق إليها، وبخرخرة تربُّصية مضطرمة تلقَّته»، (التلال، 8 – 9).
يذكر الرَّاهب هذه الأسطورة في سياق تطور الإنسان، وهو في ذكره للأسطورة يحضر القمر بشكل كبير ومركزي؛ فيجعل الرَّاهبُ القمرَ أساسًا لجذب الإنسان الأولى نحو البحث عن المعبود، وجذبه نحو المرأة الأولى التي لم تكن مدركة لوجوده كما لم يكن مدركًا لوجودها، وكلاهما قد تلقى الآخر في عنف ما إن رآه. فالرَّاهب قد استخدم المطاوعة في توظيفه للأسطورة حيث جاء عليها بالزيادة والحذف، فلم يجد الإنسان الأول المرأة الأولى قرب أحد الينابيع، ولم يتشاجرا هناك، بل إنه كان يستعد للنوم حين جذبه نور القمر إلى الجمال، جمال نوره، وجمال الطبيعة من حوله، وإلى الأنثى التي كان القمر «يسح على قرصي صدرها بلونه القوي الحار، ينثر ضوءه النديَّ في ألق عينيها الكثيف اللَّزج؛ وهي تنظر فتجرح، وتكتمل كل لحظة بالمهابة والحسن»، (التلال، 8). والرَّاهب يصرح بعبادة القمر حيث يقول: «… نحو ورثة أرض كان أوّل ما عرف عشاقها هو عبادة القمر»، (التلال، 189).
يحيلنا نص الرواية السابق، الذي ظهر فيه الإنسان الأول مفتونًا بالقمر خاشعًا، على أسطورة التكوين البابلية التي كانت ترى أن الظلمة الخافية هي التي أظهرت المرئيات الواضحة، وأن العتم هو الرحم البدائي الذي حبل بالكون وأنجبه. وهذه الأسطورة نتاج التأثير الكبير الذي كان نتاج مشهد الليل والسماء الحالكة بنجومها وقمرها ومذنباته على الإنسان الأول؛ فبالنسبة للإنسان الأول «الخلق فعل سري يسمو على الأفهام، ولذا يصدر عن الليل والظلمة لا عن النهار والنور»، (السوَّاح، 2002، 78). كما تذكر الأسطورة السومرية: «كان القمر أول مولود (…) ثم إن القمر نفسه يحبل بالشمس وينجبها»، (نفسه). ومن هنا عبد الإنسان القمر، وقد كانت عبادة القمر في جميع الثقافات سابقة على عبادة الشمس، (نفسه، 79).
القمر في الرواية المعبود الأول، وهي الأم الكبرى التي تكتمل مع الأرض لترمز إلى العطاء والخصب. وقد لاحظ الإنسان الأول أن تتابع الفصول هو نتاج دورة القمر الشهرية فربطها بخصوبة المرأة، ويذكر الرَّاهب هذا: «كانت الأرض خصيبة حقًا، ومعطاءَة على مدار السنة. كانت أمًّا عظيمة لنا. هذا النهر، وتلك التربة، وذلك الفضاء المنير المطير، قدَّمت للبشرية واحدًا من أخصب الأرحام الغذائية على كوكبنا. ومثل القمر، كان الموسم يأتي ويروح، يهلّ هلالًا، ويكتمل ويتناقض ويمضي، ليخلفه موسم آخر»، (التلال، 21). وفيضة في الرواية تشكل عشتار إلا أن الرَّاهب اتبع المطاوعة مع هذه الأسطورة، ففيضة على عكس عشتار لا تحيض، نهرها لا يفيض: «أنا التي نهري لا يفيض. محتقن لا يفيض. أريد قطرة دم»، (التلال، 18)، لكنها تعاني للخصب: «جسدي يئن، يضيق يلهث. الصعتر البرِّيّ يغلي. الريح أدغال بأوديتي تهيج. ترغي وتكتسح الخليج»، (التلال، 31). وهي المُنْتَظِرَةُ التي يَحِنُّ جسدها للخصب «كانت تحضن ثدييها براحتيها وتمشي، كأنها خائفة عليهما من الهويّ. سايرها على الرصيف الثاني. رآها تشدّ على الثدي حينًا وعلى البطن حينًا. وعلى أسفل ظهرها حينًا. ورأى وجهها ينشدّ كل مرة كأن الألم ينتقل إليه من تلك المواقع (…) لكن السعادة ضوَّأت وجهها. كانت سعيدة بلا عكر ولا التباس، ومنتشية نشوة نارية زرقاء «سيفيض! سيفيض! الآن، اليوم! هذا هو وجعه! هذا هو وجعه!»»، (التلال، 58). هي التي تحمل الثنائية الإلهية، الخصب والجدب، السلام والحرب، هي التي قال عنها الدرويش: «في خلاياك بروق الليل حمَّى وشرر. ترتدّ عنك النار، تنكسر الخناجر والنبال. شمطاء تنبش في المزابل عن قشور البرتقال. رمل، نفايات، كلاب، مرفأ خَرِب، قمر.»، (التلال، 31). فعشتار القمر رمز لخصب الأرض انطلاقًا من طبيعة المرأة ذات الإيقاع القمري، وهذا ما تصرُّ عليه فيضة: «القمر والأرض والمرأة ثالوث الحياة. كل ثمانية وعشرين يومًا يمضي شهر، ويظهر هلال، وتحيض امرأة»، (التلال، 17 – 18).
وثيمة القمر المرتبطة بالخصب تشع في الرواية بأكملها، فالقمر «يشرق ومعه ألف روح»، (التلال، 266)، فالقمر مرافق للخصب والنماء، فهو بهي في عيد الفصح: «كان القمر قد ظهر ونثر على المدى ضبابه الفضيّ»، (التلال، 32)، ويغيب في اليأس والجدب، ففيضي السعيد وصل إلى بعليتا وسار على الجسر في ليلة ليلاء، وأُعدم والقمر غائب.
(ب) عشتار الخضراء:
«كانت عشتار تستحم وحيدة في بحيرتها وسط الأدغال محاطة بحورياتها العذراوات، أو تجري في البراري الوحشية على جناح الريح فيسمح لخطوها فوق الأعشاب الطويلة وسيقان القمح البري وقعًا خفيفًا، أو تهدأ في محرابها القائم وسط الأحراش»، (السوَّاح، 108)، وتمثل فيضة في الرواية هذه الأسطورة فهي تجري بسرعة خرافية فـ «لم يكن لأحد أن يلحق بفيضة وهي تركض»، (التلال، 62). وهي تبتعد «كسهم شعاعي، وبسرعة خرافية»، (التلال، 66). وهي التي ترافقها العذراوات فـ «في يومها الأخير رافقتها العذراوات إلى أحد مساقط المياه. هناك نضت طيلسانها، والوجع ناشب في عروقها وأعصابها. وقبل أن تنزلق داخل الماء ندّت عنها صرخة هائلة، صرخة وحشية شجيّة عنيفة. لقد شاهدت نقطة الدم على ذلك المكان من الطيلسان. جعرت «فاض! فاض!» كانت قطرة واحدة – قطرة كبيرة واحدة»، (التلال، 103). وقد تجلت فيضة التجلي الكامل لعشتار يوم قَتْلِها فقد قَبِلَتْ أن تصير ملكة فـ «زينت بالحجارة الكريمة كل بقعة من جسدها ينهلها الحلم والشبق. حجرتا لازورد لحلمتيها. خرز بيضويّ لرأسها وردفيها. حجر الدرّ لضفائرها. قرطان برونزيّان لشحمتي أذنيها. دائرة مرمر لسرّتها. باقة من أفنان الصفصاف لفرجها. خفّان ذهبيان لقدميها. وراية خضراء لقبضتها»، (التلال، 103).
وعشتار الخضراء هي سيدة الشفاء أيضًا، هي التي تملك سر نباتاتها، وهي سيدة الحياة التي تعيد المريض إلى الحياة. وقد استثمر الرَّاهب هذه الأسطورة فتجلت في فيضة مع مرعي السنجاري حيث «غابت في البرّية ساعات ثم عادت حاملة ملء حضن من الأعشاب. طوال أسبوعين، بثّت فيضة سحرها في عجينة الأعشاب. كانت تصنعها بلعابها كل يوم وتلصقها على جرح مرعي السنجاري. وكل يوم كانت تغدو إلى البريّة لتعود حامة ملء حضن من الأعشاب. قيل إنها لولا هذا اللعاب المسكون بالجنّ لما استطاعت أن تشفيه بهذه السرعة الفلكية…»، (التلال، 53).
وهي التي يستمد منها الحياة فقومها قد «آمنوا إيمانًا طوديًا أن لباسها، وقد تفشّت فيه نقطة الدم التي فاضت منها ذلك اليوم، هو الذي أعطى ويعطي (إذ طمروه في جوف التربة) قوة البرء الإلهية التي نقلتها إليها الأعشاب والتراب والأوراق والهواء والشمس وأيدي البشر»، (التلال، 134).
(ج) عشتار سيدة الجنون:
«خذوا الحكمة من أفواه المجانين» قول عربي مأثور، يصل عالم الحكمة بعالم الجنون، ويلخص نظرة الثقافات القديمة إلى بعض أنواع الجنون، التي ليست في حقيقتها سوى شكلًا من أشكال الحكمة العشتارية. إن حكمة الليل التي تدير وجه صاحبها عن صحو النهار ومنطق الشمس، هي انفصال عن الواقع اليومي، وايغال في عوالم الباطن حيث يخفت تدريجيًا ايقاع الزمن الأرضي»، (السوَّاح، 2002، ص251). وفيضة في الرواية منذ البداية مجنونة «… فيضة مجنونة. لكن هل جُنّت لقتل أبيها وعريسها وبس؟»، (التلال، 27)، وهي تنطق بما لا يُفهم. فأم مصعب تقول عنها: «فيضة طقّ عقلها. يمكن على ابن عمها وأبيها. يمكن على حالها وحيضها. يمكن لأن جنّيًا عشقها. لكن فيضة، الشهادة لله، من صغرها تتكلم بكلام أكبر منها. وكلام مطقطق ومكسّر (…) فيضة من صغرها وعندها شطحات. قلقة، قلقة. قلبها قلق»، (التلال، 27). وقد جاء في الرواية عن فيضة: «التفتتْ قليلًا إلى اليسار وزاغتْ نظرتها. غمغمت «نصفه جبل ونصفه بشر. وبيده غصن تأكله العنزة. سيد نسيم الريح، ذبحوه في الجبل وأكلوا لحمه. صار النهر أحمر. صار الهواء أحمر (…) صف من الغنم فوق صف من السنابل وبين كل غنمتين نخلة. مع الرعيان العريانين. الراعي. مرعي. فواكه الحقل وقطعان حيوانات تقدمة للأم الكبرى»»، (التلال، 13).
وعشتار لا تموت، الموت برزخ أخير يُجتاز من أجل البعث في عالم جديد، (السوَّاح، 2002، 252). وهذا ما جرى لفيضة التي طعنت في عنقها وعلقت بالمسامير على شجرة. أنزلها قومها من على صليبها «وبعد أسابيع يجعلوها تستردّ دمها، كأنها استولدته من ذات جسدها أو فتحت باب ينبوع دفين فسال منه دم إلى الأوعية الخاوية والعينين الخابيتين، وتوقّف منه دم عند الأخدود الذي أحدثته سكين الرجل الأبيض في جيدها الأتلع، رافضًا أن ينزف من هناك، منعطفًا إلى شرايين احتياطية لم تقطع أوصلته إلى القلب والرأس والشفتين»، (التلال، 133). وتحضر عذارى عشتار مرة أخرى فيقول طاهر إن «عذارى عمريت كنّ يصنعن لها الرداء بعد الرداء ثم يشبكنه بأفنان فتيّة نضرة تخفيه خلفها. كلما ذبلت الأفنان بدّلت ثوبًا. وكلما بدّلت ثوبًا اقتربت من الحياة خطوتين»، (التلال، 134). وبعد ذلك الموت الذي عاشته «لم يعرفوا أنها كانت تتوغّل في واحدة من سكرات الجنون والحلم، وأنّ كلماتهم وصلتها هلامًا من الأصوات والنبرات والخوف»، (الرواية، 133). وكان مصعب وطاهر يريان أن وعيها مسكون برؤى بعيدة، (التلال، 266).
(د) عشتار البغي المقدسة:
اعتبر الإنسان الأول الدَّافعَ الجنسي قبسًا إلهيًا مرتبط بالمستوى النوراني الأسمى، ولذلك قدَّسه. ورأى أن عملية الخلق ليست إلا نتاج ممارسة جنسية. فالجنس ليس متعة فردية ونشاطًا شخصيًا معزولًا. «ففي البدء ولد من رحم المياه الأولى جبل السماء والأرض وسرت بين قطبيه الرغبة فاتحدا وتباعد ونشأ عنهما الكون»، (السوَّاح، 2002، 178). ففيضة في الرواية تمارس الجنس لتخصب نفسها «إنها تريد بعلًا يخصبها»، (التلال،123)، «منحت روحها للعشرات خلال السنوات الأخيرة، لكنّ أحدًا لم يمنحها روحه»، (التلال، 83). وبعد أن أنجبت ابنها استعصت على الجنس، كما يصفها الجنرال الجديد وضبّاطه ««فيضة ليست امرأة أصلًا. لم تعرف النسوة إلا أيام فيضي السعيد». «بعد أن صار لها ولد، خلص، عادت إلى عقمها، وانتفاء الجنس منها». «هي شكلها شكل امرأة، لكنها في الحقيقة خنثى»»، (التلال، 290). وهنا خضعت الأسطورة للمطاوعة، وأنا أرى هنا أنَّ الدلالة لم تعكس ولم تخالف الأسطورة؛ فعشتار حين تنجب ابنها تعود لتتزوجه لتستعيد خصوبتها، أمَّا فيضة التي قدَّمت ابنها لأوزيري فقد فقدت القدرة الجنسية. واستجابتها لمصعب السبئي واستعصاؤها على الجنرال وضبَّاطه يرمز إلى «عقم العلاقة بين القادة الدكتاتوريين وصنَّاع الثورات على مرّ التاريخ.»، (ناصر وعلوش، 2019، ص 553)
أقصد بأسطورة المعرفة أسطورة برومثيوس التي تعدَّ أشهر الأساطير المتداولة، والتي ترمز لتحمل الآلام في سبيل خلاص البشر، كما تعد رمزًا للتمرد، ورمزًا للإبداع والتَّوقُّد. وبرومثيوس هو بطل من التيتان خلق الجنس البشري واخترع الزراعة والفلك، وقد خدع الإله زوس في القربان. لكن أشهر أعماله هي سرقة النارس السماوية من مركبة السماء وتسليمها للإنسان، فكان عقابه أن قُيِّد إلى صخرة في جبل القوقاز، وأن يأتي إليه نسر ضخم يلتهم كبده طوال النهار، فإذا جُنّ الظلام عادت إليه كبده، وفي الصباح يعود النسر لالتهام كبده، وهكذا دواليك. وقد ظل برومثيوس على هذه الحالة ثلاثين ألف سنة إلى أن جاء هرقل وقتل النسر بأحد سهامه وخلَّص برومثيوس من عذابه. وقد راح الأدباء والفنانين في محاولات كثيرة لاستخلاص أكبر الطاقات الرمزية لهذه الأسطورة. (الرزَّاز، عالم الفكر، ص 145؛ أمين سلامة، 1988، ص 100).
وفي الرواية، تشع هذه الأسطورة في النص متمثلة فيما عاناه مرعي السنجاري وفيضي السعيد، وفيما عانته فيضة، من أجل خلاص بعليتا والوحدة النيلوتية. إلا أن هذه الأسطورة تتجلى خاضعة للمطاوعة في حدث بارز في الرواية يخص مرعي السنجاري. «لقد رأى ثلاثًا من الجثث التي لم تدفن جيدًا. بتعبيرٍ أدق عندما دفنت لم تكن قد فارقت الحياة جيّدًا. لم يعرف أحد العدد الحقيقيّ للذين لم يموتوا تمامًا. لكن هؤلاء الثلاثة لم يغطّوا بطبقة كفاية من التراب (…) واحد منهم خرج تمامًا، ثم مات. وثانيهم خرج حتى ركبتيه، ثم مات. وثالثهم خرج حتى إبطيه، ومات. على أيّة حال؛ لقد عاملتهم الغربان بالتساوي. مزّقت ثيابهم، أعينهم ووجوههم ولحمهم، وأخيرًا نهشت أكبادهم. إلى جانبهم تصلّبت جثث عدد من الغربان القتيلة حوالي عشرين أو أكثر، تمزقت أجسامهم وهي تقتتل على الجثث»، (التلال، 53). فهذا الحدث قد أخضع أسطورة برومثيوس لضروريات الرواية، فأصبح النسر غرابًا، وبدلًا من برومثيوس الحي المعذَّب كانت هناك خمسين جثة ثلاث منها لم تمت، وتعرَّضت لنهش الغربان، وهذه المبالغة في تصوير جثث الغربان التي اقتتلت على الجثث يراد بها تصوير مصير الثوار، و«تسليط الضوء على الواقع المتردّي وتضحيات الإنسان في سبيل الثورة والحق والعدالة والمعرفة»، (ناصر وعلوش، 2019، ص556).
وثمة تجلٍ آخر لهذه الأسطورة وردت في آخر الرواية في عهد الجنرال الجديد، وتتمثل في الجثث التي خرجت من الشاطئ ولم يستطيع أي تفسير علمي أن يجد سبب وراء خروجها، فجسَّدت الجثث ثيمة التمرد مع فيضة التي رأى الجنرال الجديد أن «الأموات يأبون أن يغيبوا، وهي تأبى الحضور»، (التلال، 289). «صمود فيضة، انغلاق حوضها الكبير أمام جحافل الشهوات الضارية، وانفتاح حوض النهر الكبير عن الجثث المتكلّمة»، (التلال، 298).
من هذا يمكنني أن أخلص إلى أن فيضة ترمز إلى الأرض النيلوتية (العربية) والهوية، والقومية، والثورة؛ وقد انتظرت الحيض طويلًا متحملة ألمه كلَّ شهرٍ، كما ينتظر النيلوتيون الخلاص والحرية ويسعون إليهما. وهي في سعيها بحثًا عن خصوبتها رمزٌ لسعي النيلوتيين (العرب) وراء حريتهم، وقوميتهم، وهويتهم. وهذا الامتداد الواسع لأسطورة عشتار على طول الرواية، التي هي نفسها أسطورة بعث، تعبِّر عن أزمة الوطن العربي كلِّه وسعيه وراء هويته وقوميته، ونبذه للدكتاتوريين الذين تسوقهم شهواتهم ورغباتهم.
* هذه المقالة هي الفصل الثاني من بحث التخرج (2022) للكاتبة، بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة صنعاء. عنوان البحث: توظيف الأسطورة في رواية التلال لهاني الراهب: دراسة سيميائية سردية.
المصادر والمراجع
الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…
بَطـــَــلُ أَثِينـــَــا This is an Arabic short story for foreigners / for non-Arabs. It is…
التَّاجِرُ مَرْمَرُ This Arabic story is for learners of Arabic as an additional language. We…
َالْأَمِيرُ الْحَادِي وَالْخَمْسُون This is an Arabic short story for beginners, namely for non-Arabs. It…
الْأَمِيــــرَةُ الْقَاسِيــَــةُ This is an Arabic short story for foreigners / for non-Arabs. It is…
الفلَّاحُ الْمَظْلُومُ This is an Arabic short story for beginners, namely for non-Arabs. It is…