هاجر منصور سراج
21 يناير، 2025
يستطيع أن يراها كل يومٍ قادمةً في محفلٍ من صديقاتها. يتأمل عباءتها باهظة الثمن، حقيبتها الجديدة اللامعة دائمًا، حذاءها عالي الكعب، يديها المرطبتين بمرطبات لا يجرؤ على التفكير في ثمنها.
يقول زملاؤه، حين يلمحوا نظراته المراقبة، إنَّه واقعٌ في غرامها حتى النخاع؛ فيتبسم لهم ولا يعلِّق، ولن يعلِّق مطلقًا؛ إذ لو تسنى لهم الدخول إلى دماغه، لوقعوا فزعًا، هم أولئك المتأنقون بثياب نظيفة، أو جديدة، أو معطرة! يراقبهم أحيانًا ويتلوى الحسد في قلبه؛ لكنه حين يراها لا يستطيع أن يحسدها، ولا يستطيع أن يبغضها؛ وإنما يخلو جسده كله من الدم، ولا يبق غير الجوع متسربًا في عروقه كلها.
الجوع! فراغ هائل بارد يسري في جسده كله، ويكسب بياض عينيه صفرةً؛ يفزع حين يراها في المرآة؛ لكنه دائمًا يتجاهل ذلك. نصحه أحد الزملاء العطوفين أن يشتري بيضًا، وحليبًا، وأشياء أخرى، فنظر إليه صامتًا وابتسم. وحين ألحَّ عليه، سأله: من أين آتي بالمال؟ فصمتَ ومذ ذاك لم يمش بجواره، ولم ينظر إليه.
يكتفي بالفيتامينات التي يجود بها قريبه الصيدلاني، ولا يجرؤ على طلب شيء زيادة. في غرفته الباردة العارية من كل شيء، يفرش دثارًا رقيقًا، ويفتح علبة الزبادي البلاستيكية، ويأكل منها طوال اليوم، ويراقب وجهه يضمر يومًا تلو آخر. ويومًا تلو آخر، تتضاعف داخله الرغبة العارمة في تأمل تلك الفتاة اللامعة.
لا ينظر إلى عينيها بتاتًا، ولا إلى بياض كفيها، ولا إلى زهر شفتيها، ولا إلى ابتسامتها؛ جلُّ ما يهمه هو الأموال التي تنفقها على زينتها، وتتجلى في شكلها كله؛ لكنه رغم هذا يرسل الطرف طويلًا إلى وجنتيها الممتلئتين، يتأمل زهر خديها الطبيعي موقنًا أنَّها تتناول طعامًا دافئًا وشهيًا في بيتها، وربما ترتخي إلى وسائد ناعمة كثيرة، وتتدثر ببطانية دافئة معطرة. أجل! مؤكد أنَّها لا تعرف عن الفقر شيئًا، وهو لا يريدها أن تذوق الفقر؛ فالفقر – كما يراه – فرض دنيوي، لكنه فرض كفاية. يمكنه أن يقوم بالفقر عوضًا عنها، واللعنة على دافنشي، فهو لا يرغب في أي شيء؛ لكنه فقير جدًا، وأمُّه تنتظر أجر عمله دائمًا.
اليوم شعر بها تنظر إليه، فبادلها النظرات الصامتة. شعر بازدرائها يتلوى في الهواء الفاصل بينهما، ثم يبلغه حادًا كريهًا، ويضرب كلتا عينيه ضربةً ارتدَّ لها مجفلًا. همهم بينا يبتعد عنها: أرجوكِ ألَّا تنظري إليَّ بازدراء؛ فأنا لستُ فقيرًا. الفقير هو ذلك الذي يرغب بالكثير.
لكنها لم تسمعه، وحتى لو سمعته، لن تفهم شيئًا مما قاله؛ لأنها لا تعرف عن دافينشي شيئًا سوى رواية شيفرة دافينشي التي تتأبطها منذ شهر، بينا أنهاها في سويعات. يريد حقًا أن يصرِّح بأفكاره؛ لكنه يعلم أنَّها ستنظر إليه بازدراء، ثم تعجن الكلمات في رأسها الفارغ قبل أن تقذفها الشفتان اللطيفتان في عبارة: اذهب واملأ بطنك أولًا، قبل أن تملأ رأسي!
ستقول ذلك، هو متأكِّدٌ أنها ستقوله؛ بل إنه يشعر أنَّ كل شخص في الكلية يقوله ما إن يترك لهم ظهره النحيل ويغادر؛ لكنه لا يفكر في ذلك طويلًا. لن ينهك نفسه بالتفكير في أقوال في الفقر، أو الفقراء حكماء، أو العظماء كلهم نشأوا فقراء، أو، أو… كلا! كل هذا عبث لن يوصله إلى شيء. فمذ زمنٍ طويلٍ، اقتنع أنَّ فقره مظهرٌ من مظاهر الكفاح لأجل الخلاص.
سيصل يومًا ما إلى ذروة الغنى؛ سينعم بنوم هانئ على وسائد وثيرة وفراش دافئ بدلًا من دثاره الرقيق، وسيقرأ كُتبًا كثيرة مجلَّدة بدلًا من كتبه الممزقة؛ وسيشاهد البرامج الإخبارية على شاشة ضخمة ذات جودة عالية بدلًا من تلفاز جاره القديم؛ وسيتصفح جوالًا غاية في الروعة بدلًا من هاتفه القديم ذي الأزرار البالية. إنه فقط يصبر، وسيحوز كل شيء يومًا ما!
لكنه لا يستطيع أن يصبر على الرغبة الهائلة داخله. رغبة هائلة تتضخم يومًا تلو آخر حين يرى الفتاة الجذابة، تسير حاملةً كوب قهوة زكية الرائحة وكيس مخبوزات، يتصاعد البخار من داخله. لا يعلم من أين تشتريه، ولا يعلم السعر، ولا يريد أن يعلم أيَّ شيء؛ لكنه يستمر في مراقبتها، تخرج قرص مخبوزات دافئ، يلمع اللون الذهبي على سطحه، وتتناثر حبات البركة والسمسم عليه. وحين تمسكه الفتاة بكلتا كفيها وتضغط بأصابعها حوافه، ينكمش هشًا اسفنجيًا؛ ولا تنفق وقتًا طويلًا في مضغه، كأنما هو من هشاشته وليونته يذوب في فمها فور وصوله! وحين تفرغ، تمسح أصابعها، فيرى آثار الزبدة على أصابعها اللامعة، ويتوق لاستنشاق رائحة المنديل الذي تقذفه.
كل يومٍ تأتي مع كيس مخبوزاتها الورقي، وتتركه على المقعد، ثم تجول بين زميلاتها ضاحكة؛ وهو يتحسر كيف تبدد دفء المخبوزات، وتنهمك في حديثٍ فارغ. يراقب الكيس كل يومٍ، ويتعمد أن يقعد قريبًا كي يستنشق الرائحة الشهية؛ ويدرك في إحساس جديد كل يومٍ أنَّ فيه رائحة مكسرات لذيذة، ورائحة سكر بني عالي الجودة، ورائحة خميرة لا تشبه الخميرة المألوفة في شيء، ورائحة شوكولاتة غالية.
يرسل نظرةً خاطفةً نحو الكيس البني، وينظر إلى طرف القرص اللامع، يلوِّح له مخلفًا حوله رائحة زكيَّةً مغوية؛ ثم تضحك له بذور السمسم، فيشيح ببصره. يستمع لضحكات الفتاة ويتمنى لو يستطيع أن يصرخ ويأمرها أن تتناول طعامها ساخنًا، وألَّا تبدد ذلك الدفء الذي ينشده كل يومٍ حين يجلس إلى علبة الزبادي الصغيرة البيضاء، ويأكل طعامه باردًا. مذ مدَّةٍ طويلةٍ، لم يتناول حتى يملأ بطنه؛ لكنه يملأ فكره كل يوم، ويحصل على المركز الأول، ويقتات الحروف والأوراق، ويذهب إلى عمله منهكًا متقد الحماسة؛ علَّه يحصل على مالٍ إضافي يخصصه لقرص مخبوزات واحدٍ فقط؛ لكنه لم يحصل على شيء حتى الآن.
ناداه الدكتور بعد المحاضرة وطلب منه أن يراجع بحث ماجستير لأحد الطلبة؛ فابتسم وارتبك وهمَّ أن يسأله عن الأجر الذي سيتقاضاه؛ لكن الدكتور بادره: اعتبر الأمر تدريبًا لك قبل تخرجك من البكالوريوس. جدير بكَ أن تشكر زميلك على إتاحة هذه الفرصة.
أدرك أنَّ أجره هي هذه الفرصة العقيمة! وحين أنفق ليله كلَّه في مراجعة البحث، أدرك أنَّه أكثر ثقافةً واطلاعًا، وأنَّه لم يكسب شيئًا من الفرصة العقيمة؛ فابتسم، ثم ضحك، ثم بكى؛ لكنه في اليوم التالي لم يجرؤ على المطالبة بالأجر. وقف أمام الزميل الممتعض أنَّ طالب بكالوريوس يراجع بحثه وليس الدكتور؛ ثم قال له: سيء!
ورحل.
مشى مبتهجًا بتفوقه، متناسيًا جوعه. ثبَّت خطاه المتمايلة ونظراته الشاردة، وسار نحو القاعة مبتسمًا؛ لكنه حين وصل أدرك أنَّها شبه خالية. سأل أحد زملائه، فأخبره أنَّ الدكتور غائب؛ لكنه غفل عن إجابته ولم يسمعها. تعلَّق بصره بالكيس البني الدافئ على مقعدٍ قريبٍ، والفتاة متوردة الوجنتين غير موجودة!
داعبته الرائحة الشهية، فقعد قريبًا من الكيس كما كان من دأبه، وجال ببصره خلسةً حوله باحثًا عن الفتاة؛ لكن الزميلات كن قد بدأن بالانسحاب، وبدأ الزملاء بالتذمر والصخب، ثم خلت القاعة تمامًا، وظلَّ هو جالسًا إلى جوار الكيس البني الشهي. تجرأ ومدَّ رأسه ينظر إليه، فأدرك أنَّ كوب القهوة موجود إلى جوار المخبوزات، وغطاؤه محكم الإغلاق، وكل شيء من المظهر العام ينبئ أن الفتاة لم تلمسه مطلقًا مذ اشترته.
مليء بالقهوة الشهية، وساخن، وثلاثة أقراص شهية دافئة… وقاعة فارغة! لكنه لا يجرؤ! لا يجرؤ؛ فهو ليس فقيرًا، لكنه جائع. هو لا يرغب في شيء أكثر من رغبته في لقمةٍ واحدةٍ، بعد أن تناول بقية الزبادي ليلة البارحة. عيناه حمراوان متعبتان من مراجعة بحث الماجستير السيء، وجسده كله يتمايل، والدفء يحيط به ويغشيه؛ لكنه لا يستطيع!
يمد كفًا، ويرجعه نداءٌ صاخبٌ في عقله. ويرسل طرفًا، ويردعه الجفن المنطبق. يسحب الرائحة مستنشقًا، فتنكتم أنفاسه كلُّها ويغيب كل شيء، ويغيب الكيس البني الدافئ من القاعة كلها بين ذراعيه أسفل معطفه القديم بينا يركض مبتعدًا عن الأنظار.
توقَّف أخيرًا بين أشجار كثيفة وقعد مرسلًا الطرف حوله على استحياء لاهثًا متعرقًا، ثم أخرج الكيس، فتنبَّه إلى أنَّ كوب القهوة قد انفتح وانسكب شيءٌ منها على قميصه ومعطفه؛ لكنه لم يأبه. نظر إلى الكيس طويلًا، ثم أزاح أطرافه ونظر إلى المخبوزات الشهية وقد أصابها بلل القهوة؛ لكنها لا تزال شهية مغرية، ولا تزال رائحتها تحوم حوله، ولا تزال بذور السمسم تناديه ضاحكة، ولا يزال جوعه المكبوت يزأر مذ رأى الكيس وحيدًا مفردًا في القاعة، ولا تزال عيناه في لحظة خشوع وتأمل؛ لكن فمه جافٌ، وبلعومه خشن شائك، وعيناه منطبقتين على دموع هشة ذليلة.
اقتطع لقمةً من القرص المبلل بالقهوة، وقرَّبها من فمه؛ لكنَّ شفتيه ظلَّتا مطبقتين بقسوة، وظلَّ شيءٌ في داخله يردد: أنا لستُ فقيرًا؛ أنا لا أرغب بأيِّ شيء. ثم ترك الكيس بين شجرتين وغادر الكلية جائعًا أحمر العينين.
أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج 17 إبريل، 2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…
هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج 15 إبريل، 2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…
وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج 12 إبريل، 2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…
هِبَةُ القَصْرِ السِّحْرِي هاجر منصور سراج 8 إبريل، 2025 تتدلى الثريات المضيئة من سقف المجلس…
رثاء الريحانة العَطِرة هاجر منصور سراج 1 فبراير، 2025 ريحانتي الراحلة! تركتُكِ، في آخر زيارة…