هاجر منصور سراج
5 أكتوبر، 2024
تعبر الآداب الشعبية عن ثقافة عامة الشعب؛ أفكارهم، رؤاهم، أحلامهم، مهنهم، عاداتهم قبل أن يصبح هناك أدبٌ رسمي. وهو ليس لشعبٍ دون آخر، بل إن أمم العالم كلها تملك هذا الأدب الخاص. ورغم خصوصيته هذه، هو أدبٌ عالميٌ؛ إذ يمكننا أن نجد القصة ذاتها، أو المثل السائر ذاته عند أمم كثيرٍ غير خاضعٍ سوى للخصوصية التي ذكرتها آنفًا؛ أمَّا الفكرة العامة، فنفسها. يمكننا أن نجد في القصص الشعبية – على سبيل المثال لا الحصر – الثيمات نفسها، بل الشخصيات نفسها أيضًا. ومنطلق هذا – فيما أحسب – هو الرؤية العامة للإنسان، وتمثلاته للخير والشر. فالخير دائمًا ينتصر في النهاية رغم كل الصعوبات التي يواجهها؛ وهذه الصعوبات تتمثل في الصراع مع الحيل، والدسائس، والمؤامرات، والكائنات التي ترغب في أكله؛ وأمورٍ كثيرةٍ يمكن حصرها واختزالها. وأبطال هذه القصص أشخاص عاديون لا يملكون أيما صفةٍ خاصة، فهم إمَّا ابنةٌ أو ابن، أو أختٌ أو أخ، أو زوجة أو زوجة؛ أو حطَّابٌ، أو نجار، أو خياط. وفي بعض الأحيان يكون أميرًا أو أميرةً؛ وفي الحكايات العربية عادةً ما تكون ابنة السلطان، أو ابن السلطان، وقد يكون السلطان نفسه حاضرًا في القصة بطلًا ثانويًا. ورغم مغامراتهم في صراعهم مع الشرَّ، فإن معظم الحكايات تكاد لا تعدو تكون مشكلات في العلاقات الأسرية والاجتماعية. فترد في هذه القصص مجموعة من المشاعر والسلوكيات السيئة، مثل: الحسد، والغيرة، وهوس الحب. في مقابل السلوكيات الإيجابية ممثلةً في الطيبة، والرحمة، والحب. ورغم هذا لا يمكننا أن نعثر على شخصية البطل؛ فلا نلمس همومه، ولا نشعر بمأساته، ولا نستشعر آلامه مطلقًا؛ بل إنَّ الحكاية لا يعنيها من ذلك شيء؛ إذ تركز على تدافع الأحداث فقط.
والأدب الشعبي هو «التعبير عن انفعال عاطفي أو فكري، يتخذ اللهجة العامية أسلوبًا له في التعبير، تطغى على معانيه السذاجة التي يتميز بها ابن الشعب المحروم من الثقافة، ولكنها سذاجة لا تخلو من ارهاف الحس، وبراءة وعفوية في إطلاق المشاعر والأحاسيس، وصدق يتجلى في رسم الصور للبيئة الاجتماعية والفكرية بلا تصنع، وصدق في استعمال الألفاظ والأساليب واختيارها» (السامرائي، ص 15 – 16)؛ ومؤلف الأدب الشعبي – أيًّا كان نوعه – مجهولٌ، وإن عُرِف، فلا أحد يهتم بهويته.
والحكايات الشعبية مادةٌ من مواد الفُلكلور الذي يشترط لمواده سمتي التداول والتراثية. وكلمة فُلكلور يتألف من مقطعين folk ، وتعني: الناس؛ وlore، وتعني: حكمة أو معرفة. فمعناه اللغوي: حكمة الناس، أو معارفهم. أمَّا اصطلاحًا، فهو (العقائد المأثورة، وقصص الخوارق، والعادات، والتقاليد (المرعية)، والمعتقدات الخرافية، والأغاني الروائية، والأمثال الشعبية، وغيرها. (أبو طالب، 2019، ص 17). وأوَّل عملٍ توثيقي للأدب الشعبي كان على يدي الأخوين غريم اللذين دوَّنا مأثورات الشعب الألماني دافعهما في ذلك إثبات عراقة شعبهما. والقصص الشعبية التي جمعها ذين الاثنين معروفةٌ ومنتشرةٌ، ومن قراءتها يمكننا أن نؤيد ما ذكرته سلفًا من تشابه القصص الشعبية في العالم.
ومواد الفُلكلور/ الأدب الشعبي: شعر شعبي، بأنواعٍ كثيرةٍ من ضمنها الأغاني والأحاجي. ونثر شعبي؛ من أنواعه: الحكاية الخرافية، الحكاية الشعبية، الملحمة، السيرة الشعبية، الأمثال الشعبية. وفي هذه المقالة، سأتناول الحكاية الشعبية فحسب.
الضابط في الحكاية الشعبية أنَّها تروي حدثًا قديمًا انتقل إلينا شفويًا، وهي إبداعٌ خالصٌ تظهر فيه شخصية البطل خاليةً من أيِّ ملامح خاصة؛ وإنما يقوم دوره على تمثيل الفطنة والذكاء، أو المهارة والحيلة. وفيها يركز على حضور الخير والشر في شخصيات معينة؛ فتبث بهذا حكمًا ودلائل فلسفية وأخلاقية. وهي أنواعٌ كثيرةٌ تصنف تبعًا لموضوعها؛ فثمة حكايات دينية، وأخرى غيبية روحانية، وأخرى تساق للتسلية المحضة، وأخرى تسعى لترسيخ الأخلاق، وأخرى عجيبة تسعى لتوسيع أفق الخيال، وأخرى تسوق حكمًا وعبرًا ولها هدف تربوي بحت. وتدوين الحكايات الشعبية في اليمن قليل لا يكاد يذكر، وقد جمع حمزة علي لقمان بعض الحكايات في كتابٍ تحت عنوان أساطير من تاريخ اليمن، حشد فيها قصصًا من أساطير الأولين، وأحداثًا عجيبة، وقصصًا شعبية، وحوادث. وثمة كتب أخرى يرد فيها ذكر الحكايات الشعبية ذكرًا قصيرًا موجزًا ككتاب البردوني (فنون الأدب الشعبي في اليمن). وانطلاقًا من اهتمامي بالأدب الشعبي، لا سيما الحكايات الشعبية؛ دوَّنت ثلاث حكايات شعبية استمعتُ إليها من إحدى العجائز المقيمات في الريف. والحكايات هن: السلعة والولدين، وبدرة، وبنت الدبا.
عاش ولدٌ وبنتٌ لأبوين يكثران الشجار ولا يكاد يمضي يومٌ دون أن يتشاجرا، ويستمع الولدان للشجارات صامتين منكفئين على نفسيهما في إحدى زوايا البيت الضيق. احتملت الأم طباع الأب طويلًا، وفي كلِّ مرةٍ كان الاحتمال ينتهي بشجارٍ صاخب؛ لكنها قررت أخيرًا أنَّها اكتفت من الشجارات أيضًا؛ فغادرت البيت. رأى الولدان أمهما تغادر، فتبعاها باكيين وتوسلاها البقاء؛ فقالت لهما: إنَّ في البيت ريحانتين. اهتما بهما جيدًا. فإذا رأيتماهما نضرتين سليمتين، فإني بخير. وإن ذبلت الريحانتان، فلستُ بخيرٍ أبدًا. وحينئذٍ فقط، يمكنكما البحث عني. أما الآن، فعليكما البقاء في البيت.
مضى وقتٌ، اهتم الولدان بالريحانتين، فعرضَّاهما للشمس، وغمراهما بالماء، وقرفصا حولهما طوال النهار، ورقدا قربهما في الليل. وفي يومٍ من الأيام، وجد الولدان الريحانتين ميتتين، قد سقطت أوراقهما كلها، ويبست أعوادهما، ولم يبق سوى هشاشة لم يجرؤا على لمسها؛ لكنهما أدركا أنَّ أمهما قد ماتت، فخرجا للبحث عنها.
مشى الولدان طويلًا بحثًا عن أمهما. وفي الطريق، أظلم الليل وأقبل النهار، ولم يعثرا على شيء، ولم يصادفا إنسانًا. وفي أحد الأيام، صادفا راعيةً نظرت إليهما طويلًا، ثم سألتهما عن مقصدهما، فأخبراها أنهما ذاهبان للبحث عن أمهما. قالت لهما الراعية: وهل تعرفان مكانها؟
أجابا: لا، ولكننا سنبحث عنها حتى نجدها.
تمعنت الراعية فيهما طويلًا، ثم قالت: لا بُدَّ أنكما متعبان من أثر السفر. تعاليا إلى قصبتي (برجي). إنها قريبةٌ من هنا، وفيها ولدي، وهما في مثل سنكما. بنتٌ وولد مثلكما. تعاليا ولا تخافا. سأطعمكما وأبقيكما عندي ما شئتما، ثم تابعا سفركما متى شئتما.
نظر إليها الولدان لحظةً قصيرةً، ثم وافقا فرحين مبتهجين؛ إذ كان السفر قد أتعبهما. دخلا قصبة (برج) المرأة، وما إن أغلقت الباب خلفهما حتى عرفا أنها السلعة (السعلاة)؛ إذ كانت الرائحة حولهما غريبةً، ولم يشمَّا ذلك في الراعية حين لقياها بسبب رائحة الغنم؛ لكنهما تظاهرا بالجهل. وحين وضعت السلعة اللحم على الأرض، عرفا أنه لحم كلبٍ؛ فقالا للسلعة: لن نستطيع أن نأكل؛ فنحن متعودان على أن نأكل وحولنا قطط كثيرةٌ.
فخرجت السلعة متعجلةً، وجلبت قططٍ كثيرةً. جلس الولدان في زاويةٍ مظلمةٍ والقطط حولهما، ثم أخذا يصدران صوت مضغٍ صاخبٍ، بينا يمدان قطع اللحم إلى القطط حولهما. ولمَّا كانت القصبة مظلمةً، وبصر السلعة ضعيفًا، لم تفطن إلى أنهما لم يأكلا شيئًا. وما إن انتهى اللحم، قالت السلعة لهما إنَّ عليهما الذهاب إلى النوم كي يغادرا باكرًا إن أرادا البحث عن أمِّهما، فقاما وسارا صامتين إلى حيث دلتهما. كان في الغرفة ولدي السلعة نائمين، فشكر الولدان السلعة متظاهرين بالتعب والنعاس، فتركتهما وأسرعت إلى مطبخها كي تغلي ماءً. وأثناء عملها، هرب الولدان إلى القصبة ولم تفطن إليهما من فرط حماسها. ولمَّا مضت بمائها المغلي إلى الغرفة، دلقته على الولدين متعجلةً أكلهما، لكنها سرعان ما تبينت أنَّ الولدين الميتين ولداها، فصاحت: يا شطير الطير! يا صبيان ها!
فصاح الولد وأخته، وهما يركضان مبتعدين: يا صبيان ها!
فصاحت السلعة: جعلك شوكة عقفاء نقفا من العرقوب للقفا!
فصاحا: عرق! عرق! يا عيال القحبة!
ثم أتيا على مخزن القصبة وحملا من كل الحبوب المخزنة فيها، ذرة، وقمح، ودخن، وبلسن. ثم ركضا والسلعة تلحق بأثر الحبوب على الطريق. وفي الطريق، قابل الولدان ثعلبًا سألهما: إلى أين تذهبان؟
أجابا: نهرب من السلعة! ساعدنا!
قال الثعلب: اهربا واختبئا!
هرب الولدان واختبئا في مكانٍ قريب. وحين وصلت السلعة إلى الثعلب، سألها: عمَّا تبحثين؟
أجابت: عن ولدين أربيهما! هل رأيتهما؟
أجاب الثعلب: نعم، رأيتهما يدخلان بين هذا الحطب. هنالك طريقٌ بين كل هذا الحطب، فإذا دخلتِ منه، سترينهما!
أسرعت السلعة إلى الحطب ودخلت بينه، فخرج الولد وأخته وأشعلا النار في الحطب.
يحكى أنَّ بدرة كانت فتاةً جميلةً معروفةً في القرية؛ لكنها كانت تملك صاحبًا، وسرعان ما عرفت نساء القرية عن ذلك الصاحب، وعرفن أنَّ اسمه عليًّا الجمال. أصبحت بدرة موضوع نميمة النساء، فكن يجتمعن كل يومٍ تحت شجرةٍ وفيرة الظل، ويتكلمن عن بدرة وصاحبها. وفي أحد الأيام، مرَّ رجلٌ راكبٌ جملًا من أمام القرية، وسأل عن بدرة. وحين جاءت، أخبرها أنَّه صاحب عليٍّ الجمال، وأنَّه قد سأله أن يسأل عن حالها إذا ما مرَّ على القرية؛ فقالت بدرة:
أمانة الله لوات … فوق الجمال علوات
قلوا لعلي البر اللي قد ذرا … قد شعشع وقام
والنفس قد زقزقت … للقشم والخضروات.
وسمعت النساء قولها، فتغامزن وعرفن أنها حبلى؛ لكن الجمال لم يفهم قصده، وإن وعدها أنَّه سيبلغ صاحبه عن قولها. ولمَّا مرَّ بقرية صاحبه، كان قد نسي الأمانة، فتابع سيره نحو قريته؛ لكن الناقة حرنت، وأخذت تضرب الأرض، فترجل متعجبًا، لكنها ما لبثت أن هربت منها، فلحق بها متسائلًا مستغربًا، ثم تذكر الأمانة التي حمَّلته بدرة، فمضى إلى دار صاحبه وبلغه الأمانة.
سمع عليٌّ الجمال الأمانة، وعرف المقصود؛ فمضى إلى قرية بدرة ولقيها سائلًا عن حالها، وحمل إليها ما كانت تهفو إليه نفسها. وكان يترك لها القشم كل يومٍ، وكانت النساء يراقبن ذلك ثم يجتمعن تحت الشجرة ويتحدثن في ذلك. وذات يومٍ، مضى شقيق بدرة عائدًا إلى البيت، ومرَّ من لدن الشجرة، فسمع أحاديث النساء عنها، فاشتاط غيظًا، وقال لهن: والله، لأعلقن رأس بدرة بين أغصان هذه الشجرة.
لكنه رغم قسمه، لم يصدق كلام النساء، وأراد أن يتأكد. فأخذ يترك حزم القشم أمام كل بيتٍ من بيوت القرية ليرى إن أخذته أخته، لكنها كانت تأخذ من كل حزمة ورقةً واحدةً حتى لا يفطن إليها. وقبل أن ينتفخ بطنها، هربت إلى قريةٍ بعيدةٍ وأنجبت ولدًا، وبعد مدَّةٍ تزوجت رجلًا من تلك القرية.
أمَّا أخوها، فأخذه الغضب إذ تأكد من خبرها، فنزع ثيابه ولبس ثياب اليهود، وجعل له زنانير، وحمل عدة إسكافي، ومضى مسافرًا بين القرى باحثًا عنه. وكلَّ يومٍ، كان يردد قسمه على نفسه حتى لا ينساه. استغرق البحث طويلًا حتى جاء إليه ولدٌ بحذائين واحدٌ له، والآخر لامرأة. رنا الأخ إلى وجه الولد طويلًا مستكشفًا ملامحه القريبة من ملامح أخته، ثم سأله: ابن من أنت؟
أجاب الولد: لا أعلم. أبي غاب عن هذه الدنيا، ولم أعرف عنه شيئًا. وإنما جاءت أمي إلى هذه القرية وهي حبلى بي.
سأله: ما اسم أمك؟
أجاب الولد: اسمها بدرة.
سأله: وأين تسكن؟
أجاب: في ذلك البيت الكبير.
فقال: اجلس هنا، أيها الصبي، ريثما أسألها شربة ماء، وسوف أصلح حذائيكما حين أعود.
ثم مضى إلى البيت مسرعًا، وطرق الباب، ففتحت له بدرة. ولمَّا كان في ثياب اليهودي الإسكافي، لم تعرفه. سألها أن تسقيه ماءً. ولمَّا شرب، سألها: أأنتِ من هذه القرية؟
أجابت: لا، إنما أتيتُ من قريةٍ أخرى.
فسألها: وما السبب؟
أجابت: كنتُ حبلى، فهربتُ من أخي… لكن الناس قد نسوا الآن بدرة وصاحبها علي.
سألها: حتى أخوك؟
أجابت: لا بُدَّ أنه قد نسي أيضًا.
فوقف الإسكافي، ونزع خنجره، وذبحها قائلًا: لا، والله، لم أنسَ!
ثم حمل رأسها وعاد إلى قريته، ورمى تلك الرأس بين غصون الشجرة وانتظر حتَّى جاءت نساء القرية، فتطلعن إلى تلك الرأس، وصحن: هذه بدرة! هذه بدرة! لقد وفى أخوها بقسمه وقتلها!
في إحدى القرى عاشت بنتٌ طاهرةٌ صادقةٌ تعيش في حجرةٍ مفردةٍ، ولا تخالط الناس، ولا تقوم بأيِّ عملٍ. وكان لها سبعة أخوة يحبونها كثيرًا، بينا كانت زوجاتهم يكرهنها ويحسدنها، ودائمًا يتذمرن من بقائها في حجرتها دون عمل؛ فقررن التخلص منها، فنسجن لها مكيدةً.
أحضرت الزوجات حرباء، وغلين ماءً، ثم سكبن الماء عليها. كانت الحرباء حمراء حين حملنها إلى الأخوة وأخبرنهم أنَّ أختهم كانت حبلى، وقد خدجت، وادعين أن الحرباء هي جنينها. فزع الأخوة من الخبر، لكنهم تريثوا وسألوا زوجاتهم: كيف هذا، وهي لا تغادر حجرتها أبدًا؟
أجابت الزوجات: ما إن تغادروا إلى أعمالكم حتى يأتون إليها إلى حجرتها.
قرر الأخوة قتل أختهم دفنًا للعار؛ لكنهم وضعوا خطةً حتى لا تنتشر الشائعات، فقالوا لزوجاتهم: أخبرنها أن تحضر لنا الغداء غدًا.
سألت الزوجات: وكيف ستهتدي إلى الحقل، وهي لا تغادر حجرتها أبدًا؟
أجاب الأخوة: سنترك لها التبن في الطريق، وبه ستهتدي إلينا!
وفي اليوم التالي، أخبرت الزوجات الأخت بذلك؛ فاستغربت قائلةً: لماذا؟ ألستن من تقمن بهذا؟
أنكرت الزوجات معرفتهن بالأمر، وأخبرنها بطريقة وصلوها إليهم، ثم ناولنها الغداء. حملت البنت الغداء على رأسها وتتبعت التبن حتى وصلت إلى الحقل، فوضعت الغداء أمام أخوتها ثم همَّت أن تغادر؛ لكنهم استوقفوها وطلبوا منها أن تحضر لهم الماء من الجهة المقابلة، فسارت نحو الماء، لكنها ما لبثت أن سقطت في الحفرة التي حفروها قبيل مجيئها. وما إن رأى الأخوة سقوطها، حتى سارعوا إلى ردم الحفرة، ثم عادوا إلى بيتهم مطمئنين.
وفي تلك الليلة، أنبت الله من تلك الحفرة نبتةً حملت دبا، وكانت تلك الشجرة في مزرعة عجوزٍ عزباء، فما إن رأتها حتى حملتها إلى بيتها كي تنتفع بها. تركت العجوز الدبا تحت المطحن، وانشغلت بأعمالٍ كثيرةٍ. ومن الدبا، خرجت البنت، وتجوَّلت في البيت، ثم أخذت تنظفه وترتبه. وقبيل عودة العجوز إلى دارها، انسحبت البنت عائدةً إلى الدبا. وفي كلِّ يومٍ، كانت العجوز تعود لتجد البيت نظيفًا، والطعام معدًا، فتفزع وتتعجب. وفي يومٍ من الأيام، قررت العجوز أن تترصد للمخلوق الذي ينظف بيتها ويجهز طعامها؛ ففتحت باب البيت وأغلقته، ثم اختبأت أسفل الدرج وتربصت مترقبة. مضت دقائق طويلة قبل أن تخرج البنت من الدبا وتأخذ في تنظيف البيت، فوثبت العجوز من مربضها فزعةً، وسألتها: من أنتِ؟ هل أنتِ جنيَّةٌ أم إنسية؟
أجابت البنت: أنا، والله، لا أعلم شيئًا! وكلُّ ما أعلمه أني خرجتُ من الدبا بعد أن دفنني أخوتي.
استزادتها العجوز، فجلست البنت وحكت لها قصتها كلَّها. أشفقت العجوز على البنت وأحبتها، فتقبَّلتها ابنةً لها، وجعلتْ ترسلها لتقضي حوائجها؛ فتناقل الناس خبر أنَّ للعجوز ابنةً، ثم أخذوا يسألونها عن ذلك، فتجيب: إنها ابنتي.
فيسألون: ومن أين لكِ بها، وأنتِ عزباء؟
فتجيب العجوز العزباء: وهبني الله!
أحبت البنت العجوز، وأحبت الخروج من البيت للتحطيب وجلب الماء، وأحبَّت كلَّ عملٍ. وبعد مدَّةٍ، أصبح لها صديقات. وفي يومٍ من الأيام، ذهبت البنت مع صديقاتها لجلب الماء، ثم اغتسلن في الغيل وعدن إلى بيوتهن. وبعد مدَّةٍ، جاء مجموعةٌ من الشبان للاغتسال في الغيل. وبينا كانوا يغتسلون، رأى أحدهم شعرةً طويلةً قد التصقت بكتفه، فأخذها ومدَّها أمامه، فإذا بها طويلةً طولًا لم يره من قبل؛ من الرأس حتى القدم. ذهب الشاب إلى أخيه الأكبر، ورفع أمامه تلك الشعرة قائلًا: أترى يا أخي هذه الشعرة؟ إني أريد صاحبتها زوجةً لي! كيف لي أن أرى هذه الشعرة ولا أقع في حبِّ صاحبتها؟!
كان ذلك الشاب الأخ الأصغر، وكان عازبًا بينا قد تزوَّج أخوته كلهم؛ ولذلك أسرع الأخ الأكبر إلى كاهنةٍ، وطلب منها أن تدله على صاحبة تلك الشعرة، فقالت: هذه شعرة ابنة العجوز العزباء.
فجمع الأخ الأكبر أخوته، ومضى إلى منزل العجوز العزباء، وأخبرهم أنَّهم يطلبون ابنتها لأخيهم الأصغر، فرفضت؛ لأنها أحبَّت الفتاة، وأحبَّت عملها، وأرادت أن تظل في خدمتها حتى وفاتها. عاد الأخوة مرَّةً أخرى وتوسَّلوا العجوز، فرفضت مجددًا. ثم عاد الأخوة مرَّةً ثالثةً، وأخبروها أنهم سيتركون البنت تعيش معها؛ إذ أنَّ الأخ الأصغر حرَّم على نفسه الزواج إن لم يتزوجها! وافقت العجوز أخيرًا، فحمل الأخوة مالًا كثيرًا، وأقاموا عرسًا كبيرًا، وجاءت المزينة تغني في بيت العجوز، ثم زفَّتها في موكبٍ كبيرٍ إلى منزل الأخوة. وقبل أن تصل العروس إلى باب البيت، أخذت الأبواب والنوافذ تفتح وتغلق، والريح تعصف وتصفر؛ فتنبَّهت المزينة الحميرية لذلك، وأخذت تغني:
تفتحي يا أبواب وتغلقي يا طياق … كيف الأخوة يرجعوا أزواج!
ثم سألت العروس: ابنة من أنتِ؟
وسمع الأخوة أغنية المزينة، فهبُّوا فزعين مترقبين. ولمَّا أجابت البنت وأخبرت المزينة أنها خرجت من الدبا بعد أن دفنها أخوتها، عرف الأخوة مكيدة الزوجات، فصاحوا غاضبين وطلقوهن، ثم استقبلوا أختهم فرحين مبتهجين، ودعوا العجوز العزباء لتعيش معهم.
***
في الحكايات الثلاث السابقة، ينتصر الخير. في الحكاية الأولى، ينجو الولدان من السعلاة آكلة لحوم البشر؛ لكننا لا نجد نهايةً فيها لما حدث للأم أو الريحانتين؛ فوجود الأم في القصة هو أساس المغامرة، وبعد انتهاء المغامرة ونجاة الولدين لم يعد يعنينا من الأم شيء! وفي الحكاية الثانية، ينتصر الخير متمثلًا في الأخ الذي غسل عاره وقتل أخته، ولا يعنينا من قصة بدرة وصاحبها شيئًا سوى حادثة الشرف نفسها التي جعلت منها فضيحةً، ولا يعنينا شيء من قصة زواجها. وفي الحكاية الثالثة، ينتصر الخير متمثلًا في نجاة البنت وعودتها إلى أخوتها، وطلاق الزوجات؛ ولا يعنينا أبدًا ما حدث بعدئذ! ومن هنا نتبين أهم خصائص القصة الشعبية: الإيجاز، والبساطة، والتركيز على جزئية معينة في القصة، وغموض خصائص الشخصيات وسماتها. ففي القصة، لا أحد يعرف ما عاناه أخو بدرة أثناء بحثه عن أخته مدةً امتدت أعوام؛ ولا يعنينا أتابت بدرة أم بقيت على حالها، أو كيف انتقلت إلى قريةٍ أخرى؛ كما لا يعنينا ولدا السلعة في شيء، ولا حزنها على ولديها، ولا شعور الأب لهروب ابنيه بحثًا عن الأم. فالقصص الشعبية تحوي من الخيال والسذاجة في الوقت نفسه ما يجعلها عجيبةً تتلقاها الأسماع دون تساؤل. وكان غريبًا أن تلقيت الحكايات الثلاث مع مجموعةٍ من الأولاد والبنات، فكنتُ إذا تعجبتُ من شيء وسألتُ عنه؛ مثل: ماذا حدث للأم؟ تعجبوا من أسئلتي واستنكروها! وحين أعيد أسئلتي وأقنعهم أنَّ القصة ناقصة، يدعون أن القصة مستقيمة لا ينقصها شيء، فلا يعنيهم من القصة الولدين سوى مغامرتهما مع السلعة، ولا يعنيهم من قصة بدرة سوى أنَّ الأخ برَّ بقسمه، ولا يعنيهم من قصة بنت الدبا، سوى أنَّ الزوجات لقين عقابهن وأن البنت عادت إلى أخوتها!
ومن هنا أخلص إلى أنَّ الحكايات الثلاث حملن سماتٍ ثابتة وأغراضًا معينة؛ فحكاية الولدين حكايةٌ مغامرةٍ تهدف إلى تشويق. وحكاية بدرة، حكايةٌ أخلاقية تعلم العفة، وتهدف إلى ترسيخ قيم الوفاء بالقسم. وحكاية بنت الدبا حكايةٌ اجتماعيةٌ تتناول علاقة النساء بأخوات أزواجهن، وحسدهن، وكيدهن؛ لكنها تركز على فكرة العقاب وإنصاف الخير في النهاية؛ فتؤكد بهذا على أنَّ الخير منتصرٌ في النهاية مهما طال الأمد.
وفي هاته الحكايات، تبرز الحيلة أيضًا. ففي الحكاية الأولى، يظهر الثعلب محتالًا. (وقد أكَّدت العجوز التي روت الحكايات أنَّ الثعلب من دفع السلعة إلى الحطب بينا سمعتُ من عجوزٍ أخرى أنَّ البنت من فعلت ذلك). وفي هذا تأكيدٌ أنَّ الضعيف يمكن أن ينتصر بالحيلة. وفي الحكاية الثانية، تبدت بدرة وهي تحتال على أخيها وتأخذ من كل حزمة قشم ورقةً واحدةً حتى لا يتأكد من حملها. وفي الحكاية الثالثة، تظهر حيلة الزوجات ومكيدتهن.
وفي الحكايات، لا يظهر شيء من سمات الأبطال. ففي الحكاية الأولى، هما ولدان لا يعنينا من عمرهم أو شكلهم شيء. وفي الحكاية الثانية، يوجد اسم بدرة إشارةً إلى جمالها إذ تشبه البدر. وهناك أيضًا اسم صاحبها، لكنه لا يحمل أيَّ خصوصيةٍ؛ فلا نعرف عنه سوى أنَّ اسمه عليًا، وأنَّه يملك جِمالًا. وفي الحكاية الثالثة، لا يظهر اسم البنت، ولا أسماء أخوتها، ولا أيُّ ملمح عنها سوى أنَّها تملك شعرًا طويلًا؛ وقد ذُكِر هذا لضرورة سير الأحداث، ولا شيء غيره.
وأثناء حكي الحكايات، سألت العجوز عن أوصافهم؛ فاستنكرت علمها بذلك؛ بل لم يعنها أو يعن الأولاد والبنات حولها أي وصفٍ. وإذ استمعتُ إليهم، فهمتُ أنَّ تخيل الشخصيات متروكٌ لهم، وكان ذلك باعثًا للبهجة فيهم، إذ يترك لهم الشطح إلى أيِّ درجةٍ يشاؤون. وفي وصف السلعة، لا تكاد تتفق عجوزان على أكثر من ثلاث صفات؛ وكذلك الأكلوب، والبدة، وأم الصبيان، وغيرها من المخلوقات الخرافية التي إمَّا تأكل البشر، أو تغوي الرجال، أو تخطف الأطفال.
إذن، تمثل الحكاية الشعبية متنفسًا للهروب من الحياة الواقعية، ومبعثًا للخيال. ولافتٌ للنظر أنَّ الرجال لا يحكون هذه الحكايات؛ بل إن الشائع المعروف أنَّها مهنة النساء. وقديمًا، اعتاد الأطفال أن يجلسوا إلى العجائز في المساء قبيل الذهاب إلى النوم، والاستماع إلى حكاياتهن. فبينا يذهب الرجال إلى أعمالهم أو يسافرون، تبقى النساء محصورات في أعمالٍ معينة مكررة، ويظل الأطفال في لعبهم حتى يكبروا؛ فلا يكون أمامهم سوى الحكايات متنفسًا وسفرًا روحيًا ونفسيًا يعيشون فيها خيالًا واسعًا مرضيًا للنفس، وإنصافًا للخير الذي قلما ينصف في الواقع، وانتصارًا للضعيف بالحيلة والدهاء، وهو الأمر الذي يدركون صعوبة نجاحه في الواقع. هذا الثراء الحكائي في الثقافة الشعبية أخذ يموت مع موت العجائز، ويختفي مع انتشار وسائل الإعلام. ونظرًا لقلة التدوين، لا أستبعد اليوم الذي يختفي فيه كل أثرٍ للحكايات الشعبية اليمنية المبهرة!
المصادر والمراجع
(1) في الأدب الشعبي – فنون ونماذج يمنية، إبراهيم أبو طالب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، الطبعة الأولى، 2019.
(2) مباحث في الأدب الشعبي، عامر رشيد السامرائي، وزارة الثقافة والإرشاد، بغداد، 1964.
شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…
أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…
عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج 30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…
إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج 5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…
بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج 12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…