دِمَاءٌ فِي الْحَقْلِ
261 ب. س
خُطَى «زَيْنٍ» دائمًا مُتَلَكِّئَة. لم يشعر يومًا في حياته أنه بحاجة إلى الإسراع، وهذَا ما جعله سخرية أهل القرية الذين ما فتئوا ينادونه «خَسْرَان»؛ إذ ما انفك يخسر كل المسابقات التي تقيمها القرية، ويجني أقل محصول، ويجمع أقل حطب، ويصل آخر الناس إلى البئر، ويعود إلى أمه العجوز وهي على وشك أن تنفق. ورغم هذا لم يأكل الجراد يومًا محصوله، ولم يتسلل ثعلب إلى دجاجه، ولم يلتهم ذئب خرفانه. دائمًا كان يبقى سليمًا مهما حطت المكاره على القرية؛ تحترق كل الحقول إلا حقله، تتضعضع كل الأسقف إلا سقفه، تهاجم الشياطين أناسًا لكن ليس هو أو أُمّه.
البعض يزعم أنَّ الآلهة التي عبدها الأسلاف والتي لا يعرفون ماهيتها، أو عددها، أو شكلها، أو صلواتها؛ يزعمون أن تلك الآلهة تسهر على حراسته لأنه لم ينطق يومًا بالشر، بل إنه لا ينطق أبدًا حتى ليخال الناس أنه أخرس. ورغم هذا يزعم البعض أن كل شيء تمسه يده يصبح سيئًا نتنًا، فلا يشترون منه، وإن كانوا يشفقون على أمه العجوز أحيانًا فيبيعونه مقابل أن يحتطب لهم من الغابة، وذلك كان العمل الوحيد الذي ينجزه في سرعة لا يواكبها أحد. يبقى بعض الحطَّابين في المساء لمراقبته يخرج فأسه الصغير الذي لا يملك أي سمة مميزة سوى أنه صغير ولم يره أحدٌ يُشْحَذ. أقول إنه كان يأخذ فأسه قبيل الأصيل ليمضي إلى الغابة بينا يجمع الحطابون حطبهم على عرباتهم أو حميرهم.
كان من المفترض أن لا أحد يخرج قبيل الغروب إلى أيما عملٍ، لكن «زَيْنًا» كان يملك دائمًا تفكيرًا يثير امتعاض الجميع. يسأله الحطابون ساخرين: «لماذا لم تأت باكرًا؟ أتأخرت في الطريق يا «خَسْرَانُ»؟ أكانت الطريق طويلةً من القرية؟»، فيتجاهلهم، أو قد يهزُّ لهم رأسه ويمضي إلى شجرة ضخمة فيتسلقها وفأسه بين أسنانه أو في جرابه حتى يبلغ الأغصان. يهتف بعض الحطابون: «اِخترِ الأشجار اليابسة يا «خَسْرَانُ»! إِنَّهُ حقًّا لا يعرف ماذا يفعل!». لكنهم يعرفون ما يفعل، رغم أنهم لا يعرفون كيف.
تتساقط الأغصان الميتة اليابسة على الأرض، فيقفز «زَيْنٌ» من شجرة إلى أخرى حتى يدرك أنه قد جمع ما يكفي، فينظر من موقعه ذاك على قمم الأشجار، إلى السماء الغارقة في لون يبدل أنفاسه المتسارعة إلى أخرى هادئة، يستحم بروحه قليلًا في تلك المياه الحمراء التي يطفو على سطحها قرص ذهبي، ثم يهبط ببصره ليشهد خلو المكان حوله. لا يدرك متى غادر الحطابون؟ وكم بقوا يراقبونه؟ لكنه لا يكترث لشيء. يعود ببصره إلى ذلك القرص المشع، ويهمس له: «أراكِ غدًا» قبل أن يقفز عن الشجرة إلى الأرض قفزًا.
وحين لا يراه أحدٌ، يجمع حطبه متعجلًا، ثم يمضي مسرعًا إلى البيت الذي دفع أجره مسبقًا، فيترك الحزمة الضخمة في زريبتهم ويرحل. الجميع يدرك أنه لا ينظر إلى عين أحد. تقبله الجميع في القرية بصمت دون نقاش. ربما يخوضون في سيرته بعد أن يرحل، لكنهم لا يفعلون ذلك في مرمى مسمعه. الجميع يدرك أنه سينتقم ممن يخوض في سيرته كما فعل حين شتم مالك الطاحونة أُمَّهُ، فانقض عليه «زَيْنٌ» واقتلع عينه. لم يجرؤ أحدٌ أن يدافع عن الأعور؛ لأنَّهم منذ زمنٍ طويلٍ تجاهلوا أمَّ «زَيْنٍ» الَّتِي ظلَّتْ حُبْلَى بِابنها ثلاث سنواتٍ مثيرةً دهشة الجميع وخوفهم. كانت نساء القرية يرحن ويجئن طوال تلك السنوات ليخبرن الجميع أنها تشيخ وتشيخ وحملها لا يخرج. أخبرهم الطبيب في القرية أن عليه أن يخرج الحمل من بطنها، وقال الكاهن إنها ربما حملت من شيطان، لكن مشرط الطبيب عجز عن شق بطنها، وهمهمات الكاهن وصراخه وضرباته على بطن المرأة لم تجدِ نفعًا. ولم تجِب أحدًا عن أيما سؤال، فأدرك الجميع آنذاك أنها فقدت قدرتها على الكلام.
همست امرأة لأخرى في القرية أن المرأة كانت عانسًا وأن تلك عقوبة من تؤخر زواجها فوق خمس عشرة عامًا: «النساء يتزوجن في الخامسة عشرة، وهي بقيت تنتظر ذلك الشاب الذي غادر حتى بلغت العشرين. هذه عقوبتها. ولا ندري كيف حملت! لكنها تذبل وتشيخ أمامنا وفي بطنها جلمود لا يتزحزح! أتسمعين؟ لا انتظار لما بعد الخامسة عشرة!».
قبل أن يولد «زَيْنٌ»، كان الجميع قد نسي اسم أمه، وكانوا قد أضحوا يشيرون إليها بالعجوز العانس، وأحيانًا بأم الشيطان. لم يعد أحدٌ يتذكر التماع الزمرد في عينيها، أو لون شعرها. كانت قد أمست عجوزًا نافقة ولم يتذكرها أحدٌ حتى سمعوا صراخها ذات ليلةٍ، لكنَّ أحدًا لم يجرؤ على الخروج من بيته. من ذا يجرؤ على الخروج ليلًا؟ لا أحد يُظْهِر طرفَ أنفه خارج النوافذ، ولا تُوقد داخل البيت نار في الليل. يسكن كل شيء للهدوء ويزمجر الليل وحده.
قال البعض إن شيطانًا أحبلها، وإن شيطانةً ولَّدتَها. وفي اليوم التالي هُرعوا إليها فوجدوا ابنها يغفوا بين أغطية مسقية بالدم، وأمه بصرها معلق بالسقف. غسلتها الجارات، وحممن الطفل النائم وقمطنه ونظفن البيت، ثم جاء الطبيب. لم يجد شيئًا في الأم، ثم تحول في رهبة إلى الطفل النائم. تلمسه مدعيًا رباطة الجأش، ودون أن يلفت الأنظار، بحث عن علامات الشياطين في جسده بيد أنه لم يجد شيئًا. كانت أظافره إنسانية، وفمه خاليًا من الأسنان، وجسده ناعمٌ. كان كل شيءٍ بشريًا، فعزم أن يفتح عيني الصبي، لكن الصبي كان قد فتح عينيه وحدَّق في الطبيب.
لم يسمع أحدٌ خفقان قلب الطبيب لكنهم أدركوا تجمده، فاقتربوا ونظروا إلى الطفل المحدِّق حوله، وهناك أدركوا زمرد عينيه، وتذكروا اسم أمِّه وشكلها، وعادوا ينظرون لعينيها. همستْ جارة لأخرى: «أتذكَّرُ أن جدتي حكتْ لي مرة أن جدة جدة جدتها أخبرتها عن صبي تكلم في المهد. أرجو ألا يتكلم هذا الصبي. أمسكيني! أشعر أني سأقع». لكنَّ الصبي لم يتكلم. تأمل من حوله ثم أطبق جفنيه ونام.
كان ثديا زُمُّرد خرقتين يابستين صفراوين، فأحضر أهل القرية ماعزًا وكلفوا العزباوات فوق الخامسة عشرة بتنظيفه واطعامه كل يوم عقابًا لهن على تأخرهن في الزواج، وحتى يتأمَّلن حال زمرد ويتعظن. رددت العزباوات أغانٍ قديمة على مسمع الطفل الذي لم يحصل على اسم، وتمنين له أحلامًا سعيدة، ونظفن جسده من فضلاته، وقبلنه؛ لكنهن لم يحملن أيَّما ذكرى عنه إلى بيوتهن. كان الخوف يتشرب أجسادهن حتى بلغ فطامه، وفي كل يومٍ، كن يحاولن البحث عن عريس عابرٍ ليبتسمن له ويبذلن جهدًا لإغوائه حتى يذهب إلى بيت الأهل خاطِبًا. لم تشعر أيٌّ منهن أنها تحمل طفلًا، بل عقوبة جميلة لم يملكن سوى الابتسام لها والبكاء بعد تركها هامسات: «أيُّ لعنة هذه!».
لم تفارق نظرات زمرد الشاحبة وجه أيٍّ منهن، تتابع خطاهن في البيت، أغانيهن وهي جالسة في فراشها، ساقاها ممدودتان تحت الأغطية، جذعها مستند على الوسائد خلفها، رأسها مستند على الجدار، فمها مفتوح، بشرتها شاحبة مزرقة. لم يكن فيها أيُّما شيء يبعث الحياة، وكانت رائحتها دائمًا منفرة مهما غسلتها النساء. لم يفهم أحدٌ ما حدث!
كَبُرَ «زَيْنٌ» دون اِسمٍ حتى بلغ العاشرة. وحيدًا في كوخ بعيدٍ عن القرية قريبًا من النهر، بعد أن قرر أهل القرية أنهم لا يطيقون الجيفة التي يطلقها جسد أمه. كان الطبيب يزورهما يوميًا ما إن يبزغ نور الفجر في الأفق، وكان «زَيْنٌ» يترقب زيارته دائمًا. يقف ممسكًا بأحد الأوتاد في انتظار بزوغ إنسان يألفه. يجلس الطبيب على المصطبة خارج البيت ويحدث الصبي حديثًا من طرفٍ واحدٍ، ويشرح له بضع صفحاتٍ من كتاب يحمله، ويخبره أنه بصحة جيدة، ثم يدلف إلى الكوخ ليلقي نظرة على زمرد كاتمًا أنفاسه. ودون أن يقترب منها يصرِّح أنها بخير. يسقط بصر زمرد عليه فيحاول الابتسام لكن كل ما يبدر منه تكشيرة فظة، فيغادر ملوحًا للصبي دون أن يلتفت إليه.
وذات مرة، جلس الطبيب على المصطبة مريضًا، وأخذ يسعل طويلًا قبل أن يبصق على التراب، فهمس الصبي: «لا تبصق!» التفت إليه الطبيب مذعورًا، وتلعثم: «أتتكلم؟» لم يرد عليه الصبي، وظل ينظر إلى موضع بصقته دون أيما تغير في ملامحه الهادئة، ولم يغير الطبيب ملامح وجهه المذعورة وهو يتأمل هدوء الصبي. كان قد أقنع نفسه أنه سيظل يذهب إلى ذلك الكوخ الكريه إكرامًا لزعيم القرية لا أكثر، ولمظهره بين الناس، وكان في كل مرة يكلم الصبي يعتزم العودة إلى القرية لإخبار الجميع أنه يعلِّم الصبي، لكنه صبي لا خيرَ فيه ولا يفهم شيئًا. كان يجلب للصبي ثيابًا، وكان يقصر شعره الغدافي، ويعود إلى القرية ليخبر الجميع أنه يهتم بالصبي وأمه؛ وإن ظلت أمه قابعة في جيفتها.
التفت إليه الصبي أخيرًا، ثم قال: «أَعْطِنِي اِسمًا. إنَّكَ تُسمِّي كل شيءٍ حولك. هذا جبل، وتلك شمس، وهذه أرض. أنت تسمي ذلك كتابًا، وتسمي تلك الأشياء حروفًا. أنا لا أملك اسمًا. وتلك التي في الداخل لا تملك اسمًا!».
بقي الطبيب صامتًا دقائق طويلة استوعب فيها كلام الصبي، وتقبل صدمة حديثه الطويل، وصوته… وصوته الغريب! ربما لم يكن صوتًا غريبًا لكنه توهم غرابة ثقيلة الوطء على قلبه حين كان الصبي يتحدث بذلك الثبات وعيناه مثبتتان على وجه الطبيب المذعور. ثم قال أخيرًا بعد أن ابتلع ريقًا مُرًّا: «تلك المرأة أُمُّك. اسمها زمرُّد».
قاطعه الصبي: «أنتَ لم تتحدث عنها من قبلُ! لماذا؟».
أدار الطبيب بصره في الأرجاء، ثم همس: «ليس هنالك ما يقال يا صغيري!».
تأمله الصبي بضع لحظات ثم أشاح عنه، لكنَّ الطبيب لم يجرؤ أن يتكلم وهو يحدق في ملامحه الثابتة. تكلم بعد دقائق: «زَعِيم القرية أخبرني أنه يبلغكَ التَّحية ويخبركَ أنكَ أصبحتَ كبيرًا كي تعمل. يجب عليكَ أن تعتني بأمِّكَ وأن تطعمها من عمل يدكَ_».
قاطعه الصبي: «أَعْطِني اسمًا».
اِرتبك الطبيب، ثم قال: «ما الاسم الذي قد تفضله؟ أدهم؟».
حوَّل الصبي بصره عن موقع البصقة إلى وجه الطبيب، ثم عاد ببصره إلى البصقة المتربة، ففهم الطبيب من ذلك رفضًا. وآنذاك، فهم أن ذلك الصبي جادٌّ في طلبه، فلم يكن أمامه سوى أن أخرج ورقة وقلمًا وشرع يكتب كل اسم يخطر على باله. وما إن دوَّن ثلاثين اسمًا، حتى أخذ يلقي بها على مسمع الصبي، والصبي لا يعيره انتباهًا، حتى التفت أخيرًا قائلًا: «أتذكر تلك الزينة التي جلبتها في مهرجان القرية؟» لم يتوقع الطبيب ذلك التركيب السليم من طفل لم يتكلم أمامه مطلقًا، وبحسب ما علم وسمع من النساء في القرية، فإنه لم يتكلم إلى إحداهن، والجميع يشير إليه بالأخرس. ابتلع ريقه وهز رأسه، فقال الصبي: «أريد أن أكون مثل تلك الزينة». حاول الطبيب تذكر الشكل الأخير للزينة التي أحضرها لكنه لم يستطع؛ إذ كان قد أحضر كثيرًا من الزينات طوال السنوات التي زار فيها الكوخ. بل كان الأهالي هم من يحرصون على جمع الزينات له ليجلبها إلى الصبي المسكين – حين تأخذهم زوبعة الشفقة – بعد أن ادَّعى إحدى المرَّات، حين شدَّ إحدى الزينات غاضبًا من الزعيم الوقح، أنَّهُ يُريد أن يُرِي الطفل الأخرس في الكوخ البعيد تلك الزينات الجميلة، فأشرقت وجوه أهالي القرية بالعطف والشفقة.
للحظة فقط، شعر الطبيب برغبة أن يسمي الصبي الأحمق الثابت أمامه «زِينة». أن يقول له أن ذلك الاسم هو اسم ذكر، وأن يقنعه أنه جدير بذلك الاسم. كان ثمة رغبة ملحة بالانتقام منه لما سببه له من ذعر، لكنه عَدَلَ عن ذلك حين أدرك أن الصبي كان لا يزال يحدِّق في بصقته المتربة تحديقًا موصولًا مُرعِبًا. ودون أن يدركَ، كان قد شرع يتأمل المكان حوله بفضول. متى كانت آخر مرة دلف فيها إلى الكوخ؟ ربما الرائحة لم تختف، لكنها أصبحت أخفّ، وملابس الصبي نظيفةٌ، وأرض الكوخ مكنوسةٌ. همس أخيرًا: «سَمَّيتُكَ زَيْنًا».
وقف «زَيْنٌ» دون أن يحيد ببصره عن البصقة، قائلًا: «أعطيْتَني اسمًا، لكنَّكَ لم تُسَمِّنِي!».
ادَّعَى الطبيب النفور قائلًا: «وما الفرق أيها المتذاكي؟».
أجاب «زَيْنٌ»: «فرق لا تفهمه! أتمنَّى ألَّا تعود إلى هُنَا. سأذهب غدًا إلى منزل زعيم القرية وآخذ منه التفاصيل عن العمل الذي تحدثت عنه. انصرف الآن!».
وحتى الخامسة عشرة، لم يكن «زَيْنٌ» قد قَالَ لِأَحدٍ مِن أهلِ القريةِ أيَّمَا جملة أطول من تلك.
***
اللحظات السعيدة التي كان «زَيْنٌ» يَشْعُر بِهَا كانت حين يُجدِّل شعر أمه الثلجي في جديلة طويلة ثم يتركها على كتفها. في أحيانٍ كثيرة، كان بعض الأطفال الفضوليون يتسللون من خلف كوخه ليراقبوه يجمع الأزهار ويضعها في شعر أمِّه ثم يقبل جبينها وكفيها ويغادر إلى عمله. لم يعرف أحدٌ كيف شعر «زَيْنٌ» ذلك الشعور إزاء أمِّه، وكيف علم أنَّها أُمُّه، وكانت النساء في القرية يرددن إنَّ الابن يعرف أمَّه من بين ملايين النساء. لكن كلمة ملايين تلك كانت محض كلمة، فالجميع يدرك أن ذلك العدد الذي يتحدثون عنه عددٌ أسطوري. يتذكره كبار السن عن أجداد أجدادهم، ويروونه للصغار في الليالي التي لا يتجول فيها الشياطين خارج القرية مثيرين الرعب في قلوب الأطفال الصغار. كانت دائمًا حكايات الحضارات التي سقطت الشيءَ الوحيد الذي يجعل حياة أولئك الصغار أفضل. شيءٌ سماويٌّ رائعٌ.
يتذكر زعيمُ القرية أنَّه كان يحلم دائمًا أن يجد تلك الحضارات بطريقة ما، كأن يدخل كهفًا ويجد نفسه فجأة في إحدى تلك الحضارات حيث القصور الزجاجية العملاقة، والمركبات الطائرة والسريعة، حيث النساء المتبرجات، والرجال الأنيقين بدرجة لا يستطيع تخيلها حين يرتدي ثيابه الصوفية. كيف لعالم كهذا أن يكون موجودًا؟! يتذكر أن جدته قالتْ له إنهم عادوا إلى نقطة الصفر بعد السقوط، وكأنَّها هي تعلم كيف كانت الحال قبل السقوط! الجميع لا يعلم! جدته نفسها سمعت من جدتها. لا أحد يتذكر عصرًا كذلك الذي سقط، لكنهم لا يزالون يهذون بوجوده والشياطين المخيفة، التي صرعت كثيرًا منهم، تحوم حولهم كل ليلة ولا تتركه ينعم بنوم مريح. في كثيرٍ من الليالي، يتمنى لو يهبط إلى قبو منزله وينير شمعة هناك ويشرع في كتابة مذكراته التي جعلها الجد الأكبر سنَّةً، لكنه لا يملك شيئًا ليكتبه. في البداية، كان يزعم لنفسه ولزوجه أنه يكتب عن حالة «زَيْنٍ» الغريبة، لكن بعد أن انتظم الفتى في عمله وتبدَّت إنسانيته في كثير من الأعمال الخيِّرة، لم يكن أمامه سوى التسليم بأن زمرد مرضتْ مرضًا شديدًا لكنها لم تفقد حملها. أخبره الطبيب يومًا أن ذلك قد يحصل، وإن شكَّ أن الطبيب كان يتهرب لا أكثر، لكنه سرَّب تصريح الطبيب لزوجه حتى ينتشر الخبر في القرية سريعًا ويهنأ هو وأهل القرية من خوفهم من ذلك الفتى الصامت.
فكَّر ذات ليلة – حين كانت زوجته تنام كالجثة جواره، وظل شيطان في الخارج – أن عليه أن يحرز شيئًا كي يكتبه، فما الذي سيكون له في سير الزعماء إذا ركن إلى الهدوء؟ بل لن يلبث أهل القرية أن ينتزعوا الزعامة من أسرته ويلقوها في أحضان أسرة لا تملك من العراقة ما تملكه أسرته التي كانت تملك أفرادًا نجوا من سقوط الحضارات وحملوا بعض أمتعتهم إلى هذه القرية النائية وهنا مكثوا حتى توافدت بضع عائلات أخرى ممن دون المستوى ومكثوا هنا. هذا ما يقوله جده الأكبر، وليس يدري أتلك حقيقة أو كذب؛ فبعد أن أقنع نفسه طويلًا بكذب الحضارات، لم يعد يصدق تلك الكتابات التي قدسها أبوه وجده من قبله وجعلوا شغلهم الشاغل ملأها بإنجازاتهم ضد الشياطين، وبحوثات طويلة حول الشياطين، وأصنافها، وأشكالها، وقدراتها، وسرعتها، والطريقة التي يجب قتلها بها.
في عمر الخامسة والستين، يستطيع زعيم القرية أن يعلن أمام حشد عظيم أنه لم يعد يكترث للزعامة أو المجد، بل ولم يعد يصدِّق قصة الحضارات التي جعلوا منها صلوات ليلية. يستطيع أن يعلن ذلك على مشهد من أولئك الذين قدرهم أحطّ من قدره، أولئك الذين يشقون في الحقول طوال اليوم ثم ينامون طوال الليل وهم يعلمون أن الشياطين تحوم حولهم. أولئك الذين كانوا واثقين أن زمرد مزقها شيطان ما وزرع شيئًا ما في بطنها ليلة ما… ربما حين ماتت أمها، لكنهم نسبوا ذلك إلى خرافة الزواج المتأخر! لكن ماذا فعل هو؟ لا شيء! لا، لقد وافق على تلك الخرافة حلًا لفشله! ربما لو اطَّلع عليه جده الآن ورآه ساهدًا وجثة زوجه إلى جواره لبصق عليه بصقة عظيمة وتبرأ منه! ليفعلْها! لم يكن ثمة اكتراث عند الرجل الستيني لأي شيء.
مدَّ يده إلى زوجته وتحسَّس أنفها وحين شَعَرَ بأنفاسها الميِّتة، نزل إلى قبوه الخانق وأشعل شمعةً. رفرف وهج الشَّمعة أمام ناظريه، فوقف يتأمَّله وهو يرهف السمع لحركة الشياطين في الخارج. بحسب ما كتبه جدٌّ من أجداده فإن تلك الوحوش المخيفة تختفي دون ترتيب، فلا أحد يعرف فترة اختفائها وفترة ظهورها رغم أنه راقب كل شيء بعناية مدة حياته، لكنه دوَّن أنها تعيش حالة غوغائية. وحين تذكر الزعيم الستيني تلك الكلمة، وجد صعوبة في نطقها وتذكر أنه اضطر إلى سؤال الكاهن عن معنى الكلمة، ولم يرد عليه إلا بعد أسبوع. شعر باليأس يتسلل إلى أعماقه مجددًا. ربما كان عليه أن يتجرَّع ذلك الشراب الذي يتجرَّعه الجميع قبيل النوم حتى يناموا كالأموات بينا تحوم الشياطين حول بيوتهم. كان ذلك الشراب الحلَّ الوحيد لحالة الخوف الذي تعتريهم. في كثير من الأحيان، يكون هنالك نقص في الأعشاب التي يصنع منها ذلك الشراب، فيضطرون للبقاء متيقظين في حالة من الفزع وظلال الشياطين تنعكس على نوافذهم الضيقة. إنَّهم حقًا يعيشون في جحور! يتذكر وصف جدِّه الأول للمنازل في الحضارات التي سقطت: «كانت النوافذ زجاجية يتسرب منها الضوء إلى البيت فيبقى منارًا طوال الوقت بضوء الشمس! أيُّ كذبٍ هذا! كيف لبيتٍ أن يبقى مُنارًا طوال الوقت بضوء الشمس؟ لو أننا نوسع نوافذنا قليلًا، لاستطاعت الشياطين أن تقحم أيديها في أحشاءنا دون عناء!» لدى صرخته المتذمرة، سمع الشياطين تهسهس حول البيت وتضرب بأيديها الحوائط، فلعن نفسه والتزم الصمت، وإمعانًا في الحرص نفخ لهب الشمعة وغرق في الظلمة.
كَان الجدُّ الأول قد كتب أنَّه كان عالمًا في الجيو… لا يستطيع أن يتذكر نطق تلك الكلمة التي أشار إليها الجد الأكبر، لكنه يذكر أنه كتب أنها دراسة علم الأرض. وليكن صادقًا مع نفسه فإنه لم يفهم شيئًا ممَّا كتبه الجد الأول، بل إنَّ جدَّه نفسه لم يفهم ما عناه بكلمة «عَالِم». في كثير من الليالي التي يتظاهر فيها أنَّه يشرب شراب الأعشاب ثم يتسلل بعدها إلى قبوه أو يظل محدقًا في سقف حجرته الوطيء، كان يفكر أن العالم الواسع الذي كتب عنه جده ربما يكون محض خيال مجنون. ربما كان جده مجنونًا! لا أحد يعرف ما وراء هذه الجزيرة. يتذكر أن جده قال إن الجزيرة بقعة تحيطها المياه من كل الجهات، لكنه لا يعرف حدود هذه الجزيرة. هو فقط يكتفي بمائة عائلة في القرية… العائلات في تزايد بالطبع، لكنه لا يتذكر آخر مرَّةٍ قام بإحصائية لعددهم. ربما كان ذلك قبل حادثة زمرد العجيبة. يتذكر أنه كتب بعد ذلك إن خمسين شابًا قتلوا في إحدى الليالي حين هاجم شيطان هائج القرية، ولم يكن أولئك يملكون شراب الأعشاب المنومة… إن صح تسمية ذلك الوضع نومًا!
ذلك عدد الشباب فقط، فهو لم يكترث يومًا لتدوين عدد النساء اللواتي تناثرت جثثهن على طول الطريق من مدخل القرية حتى كوخ زمرد الذي لم يكن قد بني. لا يعرف أحدٌ بتحيزه هذا، ولا يفكر أن يخبر أحدًا أنه ضاق بعدد النساء في بيته. يقول الطبيب إن النساء نعمة لأنهن قادرات على الإنجاب بينا الرجال نقمة لأنهم ينقرضون فحسب. يتذكر جدال الكاهن معه أن المرأة لا تنجب دون ذكر، لكنَّ الحوار انقطع فجأة حين سمعوا أفكارهم تنبس باسم زمرد. انتهى الحوار ولم يتكلم أحدٌ بعدها عن قيمة الإناث في القرية، لكنه كان واثقًا من شيءٍ واحدٍ؛ النساء دائمًا ما يساعدن في بناء الأكواخ والتنظيف ويجعلن القرية نظيفة دائمًا. هن دائمًا اللواتي يحفرن القبور للأموات، ويجمعن فضلات البشر والحيوانات ليدفنها بعيدًا في منطقة أصبحت الآن غابة. يتذكر أن الطبيب أخبره أن الفضلات تجعل الأشجار تنمو، ولذلك كان دائمًا ما يتخيل رائحة الفضلات في الحطب الذي يوقده كل أهالي القرية، ولم يستطيع يومًا أن يتناول بيضة لأنه كان يدرك أنها شكل من أشكال الفضلات، بل إنه راح يزدري النساء كلهن لأنه كان يراهن منتجات لفضلات بشرية. تلك الليلة، همس لنفسه، وهو يرهف السمع لخطوات شيطان هزيل، أنَّه هُوَ أيضًا مجرد شيء نتن تغوطته امرأة، ثم بصق.
همستْ أفكاره له أن عليه أن ينفض تلك الخواطر لأنه زعيم القرية، ويجدر به أن يكون أعلى من تلك الأفكار البشرية، أن يسمو – كما هو مكتوب بخط جده الأكبر. لكنه لا يستطيع أن يفكر بشيء سوى قذارة هذه الحياة. لو أن جده الأكبر كان يملك ذرة عقل لما هرب حين سقطت كل تلك الحضارات، ولرحَّب بالموت في عزِّ النعيم والرقي – كما يصف حضاراته البائسة؛ لكنه ليس سوى أخرق محبٍّ للحياة والتكاثر! تنهد الزعيم وحيدًا في قبوه الخانق، وفكر أن يعود إلى فراشه وينام قرب زوجه الميتة، بل إن الكلمة الصحيحة لوصف ذلك الوضع هو أن يموت؛ فهو لا يتذكر أنه يحلم شيئًا طوال الليل، بل إنه ليستلذ الغفوة التي يأخذها بعيدًا عن القرية وراء كوخ زمرد، فيحلم بأشياء رائعة ويستيقظ مليئًا بالحياة. يحلم بتلك الحضارات التي ينكرها، ويرى نفسه طائرًا ومحلقًا، بل إنه في كثير من الأحيان ليحلم أنه يستلقي فقط تحت ضوء القمر الذي لا يعرف له شكلًا! إنَّها لأحلام جميلة تلك التي يحلم بها رغم تلك الرائحة التي تصل إليه من كوخ زمرد.
تنهد مرَّةً أخرى، ونهض عن الأرض وتحرك إلى العتبات الضيقة. فكر أن أفضل شيء اكتشفوه هذه الأعشاب التي يزرعونها بكثرة على سطوح منازلهم؛ حتى لا تدمرها الشياطين. فكَّر أنَّها أفضل شيء؛ فلا تشعر الشياطين بهم بعد أن يحتسونها.
حركته في الليل خفيفةٌ، ورغم هذا يخاف أن يهب شيطان لتدمير البيت بسببه. توقف حذرًا، وأخذ يرهف السمع لحركة الشيطان الهائم في الأرجاء. ربما كان عليه أن ينام في القبو! لكن من ذا يستطيع أن ينام في مكان خانق كذاك مع مجموعة من الكتابات الواهمة؟!
بقي ساكنًا في مكانه بضع دقائق ثم زحف خطوتين نحو حجرته قبل أن يعود للتوقف. أرهف السمع مطبق الجفنين مستندًا على جدار حجرته. ربما كان عليه أن يشرب تلك الأعشاب! تلك الشياطين متحمِّسةٌ الليلة كأنها على وشك إقامة مهرجان ما. متى كان آخر مهرجان أقامته القرية؟ هو حقًا لا يتذكر. يشعر أن ذاكرته أصبحت تتقهقر يومًا تلو آخر، وأصبح مدركًا حقيقة أنَّه لا يستطيع تذكر أسماء بناته العشرين، ولذلك لم يعد ينادي أيًّا منهن باسمها. لكن… ما كان اسم زوجته؟ زهراء؟ زينة؟ زلال؟ إنه حقًّا لا يتذكر! لكن من ذا يكترث؟ إنها امرأة أخرى، والأسماء لا تهمُّ أحدًا. لقد بقي ذلك الصبي الأخرق دون اسم حتى العاشرة! وماذا في النهاية؟ أراد أن يصبح زينة مشعة يعلقها القرويون في المهرجان. يا له من محبٍّ للبهرجة!
تنبهت حواسه بغتة لوقع خطوات مختلفة. أتراها الشياطين موشكة على شنِّ هجمة جديدة؟ متى كانت آخر مرة؟ تلك المرة التي مات فيها خمسون شابًّا؟ تنهد. ليته يستطيع أن يتذكر! إنَّه عالمٌ غريبٌ ذلك الذي ينسحب من دماغه يومًا تلو آخر! عاد ينصت لوقع الخطوات الغريبة. إنَّها لا تبدو لشيطان مطلقًا، كما أنَّها متسارعة بدرجة لا يمكن أن تكون إنسانية! عبست ملامح وجهه كلها في محاولة تفسير ذلك الصوت الغريب. كان يبدو كأنَّه رفرفة طائرٍ مع أنفاسٍ بشرية. وبغتة، شعر بضربة على سطح منزله. كيف هذا؟ منزله من ثلاثة طوابق، وليس ثمة شيطان بهذا الطول! هل أصبحت الشياطين أطول مما عهدت؟! عجبًا! يبدو أنَّي غبت عن العالم طويلًا! ما أسوأ هذا العالم المتضعضع! هل أطلُّ لأرى ماذا يحصل؟
سمع سقوطًا مدويًا لشيء ما قبالة بيته. انتفض جسده كله، وحين أراد أن يتحرك نحو باب البيت، شعر بجسده يتشبث بالأرض والجدار. كانت يده المعرقة المشعرة ترتجف بقوة على الجدار، لكنه كان فضوليًا ليرى. أراد أن يرى ما يحدث، فهو لم ير شيطانًا قط. لقد ولد وترعرع على خوف الشياطين. يتذكر أنَّ أمَّه أخبرته أنها ولدت في القبو. إنَّ كل بيت يملك قبوًا خشية أن تنجب امرأة في الليل ويكون لا بد من أن تجذب الشياطين إليها، لذلك عليها أن تنزل إلى القبو وهناك تموت صرخاتها كلها ويلتهمها الليل. يا لهن من مخلوقات مزعجة!
سمع صوت سقوط آخر فتقهقرت قوته وعزيمته وفضوله وفضَّل أن يعود إلى حجرته ويدفن نفسه إلى جوار زوجته، بل ربما يجب عليه أن يلتهم بعض الأعشاب من المطبخ علَّه يموت حتى النهار. هو لا يعرف كيف يُعدُّ شراب الأعشاب. ربما كان عليه أن ينصاع لوالده حين أخبره أنَّ عليه أن يتعلم ذلك لأنه الزعيم، لكنها أعمال النساء بحق الآلهة التي يتشدق بها الكاهن!!
تناهى إليه صوت لهاث. ربما كان يقف إلى جوار الكوة التي يعلق فيها الكاهن بعض تمائمه الغريبة. ربما يقابله من الجانب الآخر. أيتجرأ لينظر إلى ذلك الشيطان اللاهث؟ سمع همسًا: «اللعنة!»، فلامست حواجبه الكثة منابت شعره الأبيض الأشعث. أهناك شيطان متكلم؟! لم يذكر أجداده الحمقى شيئًا عن ذلك. لماذا كان عليه أن يبقى داخل هذه القرية حصينًا من الشياطين ومدعيًا الخوف منها؟ ربما ليست مخيفة كما زرعوا في عقولهم الصغيرة الحمقاء! ربما كانت مجرد قرية أخرى تريد سرقتهم، قرية لا يعرفون بوجودها! ليكن صادقًا مع نفسه مرَّةً فقط، فإنَّه اعترف أنَّ والده لم ينظر إلى شيطان، وأن جده لم ينظر إلى شيطان، وأن أجداده الثلاثة الأولين فقط هم من تحدثوا عن حملاتهم ضد الشياطين ثم راح كل من بعدهم يتحدث عن الخوف من تلك الكائنات. أتراهم امتلكوا دليلًا حيًّا على وجود تلك الوحوش؟ آهٍ! ما هذا الهراء الذي أنطق به؟ وتلك الجثث أيها الأحمق؟ تلك الجثث الممزقة بأنياب ومخالب لا مثيل لها؟ وتلك المرأة التي أصبح جسدها جيفة متحركة؟ كيف… آه! هل أصدق حقًا أن شيطانًا أحبلها؟ يالحماقتي! أنَّى لذلك أن يكون؟ إن الشياطين – كما قال جدي الثاني – ظهرت لتأكل البشر، لا تتكاثر وتنجب كائنات هجينة. ربما الطبيب على حقٍّ، ربما ذلك الصبي الأخرق ليس سوى ابن ذلك الرجل الذي أحبَّته زمرد وفقدت قلبها معه، ربما حقًّا كانت تنزف مرةً تلو أخرى وهي حاملٌ به. من ذا يكترث لزمرد الآن؟ اللعنة عليها وعلى ابنها الذي يزحف زحفًا من بيته إلى حقله فلا يصله إلا بعيد الظهيرة! أيُّ عملٍ هذا! شباب هذا الجيل حمقى! أتذكر أنِّي كنت أذهب إلى الحقل ما إن يظهر أول ضوء للنهار في الدجنة. أحرث الحقل وأبذر الحب قبل أن يستيقظ أبي العجوز! أيامٌ نشيطة تلك التي كانت!
سمع سقطةً أخرى بعد أن اِختفى صوت اللهاث من جوار الكوة. ما هذا الهراء؟ أنا لا أدري حقًا لماذا لم نبن سورًا حول القرية ونكتفي من تلك الشياطين؟ لا أظنُّ أن ثمة شياطين طائرة! تحرَّك صوب الباب بعزم، وقبيل أن يفتح الباب ضرب شيء خشب البيت الثقيل واخترقه. ربما لو كان ذلك الشيء أقوى قليلًا، وربما لو كان ذلك الشيخ الستيني قريبًا من الباب شبرًا واحدًا لكان ذلك الفأس الصغير غير المشحوذ قد اخترق جبينه.
***
حين كان «زَيْنٌ» في السابعة رأى شيطانًا في الفناء الخلفي لكوخه. كان كائنًا واقفًا على ساقين نحيلتين، يغطي شعر أسود جسده كله، جسده منحنٍ إلى الأمام، ويبدو أقرب لذئب منه لشيطان. لم يكن يعرف آنذاك أنَّه شيطان، بل افترض أنَّه ذئب يقف على قائمتيه الخلفيتين. يتذكر أنَّ الطبيب أراه رسمة للشياطين، لكن أيًّا من تلك الرسوم لم تكن تشبه ذلك الكائن الذي أمامه. لم يملك ذيلًا طويلًا بخنجر في طرفه، ولم يملك مخالبً مخيفة، ولم يكن ثمة أنياب بارزة. كان جسده مغطًى بالندوب وبعض الدماء تساقطت من جسده على الرياحين. وبعكس ما كُتِبَ عن الشياطين، لم تستحل رياحينه رمادًا.
كانت عينا الشيطان ضيقتين لكنه استطاع أن يرى دموعًا لامعة قبل أن يسقط الشيطان ميتًا أمامه. بقي «زَيْنٌ» واقفًا لا تبدر منه حركة، ولا تنم ملامحه عن أيما شعور. كان بصره معلقًا بجسد الشيطان دون أن يقترب منه، لكنه كان يفكر أن ذلك الشيطان كان يقف تحت شمس الظهيرة دون أن يظهر عليه أيُّ مظهرٍ من مظاهر التحول إلى رماد. وإمعانًا في طلب المعرفة، تركه في مكانه يومين متتالين، وخرج في الظلام وقبع إلى جوار جثته متسائلًا إن كان سيعود إلى الحياة، بيد أن شيئًا لم يحدث.
لقد حذَّره الطبيب من الخروج ليلًا، لكنه لم ينصت لأيِّ شيء من كلام الطبيب، بل لطالما قبع ليالٍ طويلةً خارج البيت يتأمل تلك الكرات العملاقة في السماء. كانت ثلاث كراتٍ مشعة تَبثُّ إحداها ضوءًا فضيًا، والأخرى ضوءًا أصفرَ، والثالثة ضوءًا أزرق مشعًا. ولأن الطبيب لم يكن قد شاهد السماء ليلًا فلم يسأله. هو حتى لم يكن يستطيب حضوره لكنه رآه مصدرًا لمعرفة المجهول، ولطالما تمنى أن يتكلم الطبيب عن الشياطين بالتفصيل فلربما يجد إجابة لتساؤلاته عن ذلك الشيطان الذي غطَّاه بالتراب وزرع الأزهار الزرقاء فوق جثته.
ذات ليلةٍ، همس للعجوز التي تقطن معه أنَّه سمَّى تلك الكرات العملاقة في السماء، فحوَّلتْ زمرد بصرها نحوه لكنها – كعادتها – لم تنبس ببنت شفة. قال وهو يشير إلى السماء: «تلك فضيَّة، وتلك زرقاء، وهذه صفراء»، ثم عاد ينظر لوجه أمِّه وشعر بقليلٍ من الحرج. همس: «لا أحد يخرج من بيته ليلًا، لذلك أن وحدي… نحن وحدنا من يتأمل هذا الشيء البهي. إن هذه الكرات قريبة جدًّا حتى لأخالها تكاد تسقط علينا. ألا تلاحظين؟» وحين يتوهم ابتسامة على شفتيها ينهض ليسوي الرياحين والأزهار على شعرها وجديلتها، لكنَّه سرعان ما يبدل رأيه فينزعهم من شعرها، ويحملها على ظهره إلى النهر ليحممها، ثم يلبسها ثيابها ويبقيها خارجًا تحت ضوء الأقمار الثلاثة، ويقفل راجعًا إلى البيت، فيشرع في ترتيبه وتنظيفه وغسله وزرع الرياحين في كل أرجائه، ثم يحملها إلى فراشها.
لا يتذكر «زَيْنٌ» متى كانت المرة الأولى التي توهم فيها ابتسامة أمِّه، لكنه كان يشعر أنَّها تبتسم دائمًا. حين يحمم جسدها الأزرق كانت تكركر ضاحكة وتعبث بالمياه حولها، وما عدا ذلك لم تكن تصدر صوتًا. كان يشعر بها مبتهجة حين تتأمل تلك الأقمار، ولم يشعر يومًا أنَّها ترغب في العودة إلى فراشها. ودون أن تفعل له شيئًا، أو تبتسم له حقًا، كان يشعر بشعور غريبٍ إزاءها. ربما لو زوَّدَهُ الطبيب ببضع مفردات أخرى لتمكن من أن يتحدث عن ذلك الشيء الذي ينبض في جوفه حين يشعر بأمه تنظر إليه ويتوهم ابتسامة.
يتذكر أنَّهُ شعر بشعور مماثل حين كان في العاشرة. حين ذهب إلى منزل الزعيم بعد أن أمره الطبيب بذلك، كان الجميع ينظر إليه في القرية. لم يعر أحدًا أيما اهتمام وبقي يزحف في شوارع القرية حتى وصل إلى منزل الزعيم دون أن يسأل أحدًا. شعر أنه ذلك البيت لأنَّ كل المنازل كانت مكونة من طابقين ما عداه، وكانت الزينة المبهجة التي يحبها تتدلى من كل حجر مرصوف على ذلك البيت. وما إن طرق الباب الخشبي الثقيل، حتى فتحت له الباب عجوزٌ حدباء. تأمَّلت وجهه ثم ند عنها صوت مذعور كتمته بسرعة. حدَّقَ «زَيْنٌ» في وجهها دون أن يحيد، ثُمَّ زرع بصره في عينيها الذابلتين حتَّى التفتتْ إلى الخلف هامسةً باسم لم يتبيَّنه، فَأطلَّتْ فتاة صغيرة – ربما كانت بعمره! وسألته: «هل أنْتَ «زَيْنٌ»؟ لقد أخبرنا الطبيب أنَّهُ سمَّاكَ أخيرًا».
وضعت العجوز كفَّها على كتف الصبية، وأخذت تهزها ناهرة، فهمست البنت: «لحظة يا جدتي. إنَّهُ يريد أن يكلِّم جدي. أليس كذلك؟».
همست العجوز: «اذهبي! اذهبي! لا أعلم كيف تتحدثين مع هذا الولد ابن الشيطان!».
ضحكت البنت: «كيف يكون ابن الشيطان وهو أجمل مني؟ انظري إلى عينيه! أنتم فقط تحسدونه! ادخل يا «زَيْنُ». هل ترغب ببعض الطعام؟ أخبرني ماذا تطعم أمَّكَ كلَّ يَوْمٍ؟».
تمكَّن «زَيْنٌ» من رؤية عيونٍ مذعورة تحدَّق به من كل الشقوق في البيت، وكان يبدو أن كل تلك العيون كانت لإناث من مختلف الأعمار، لكنَّه لم يكترث. كان الزعيم في حجرة نظيفة، ممسكًا بعض الأوراق، وحين رأى الصبية أمامه أشار لها بامتعاض أن تسرع بالمغادرة، فوقف «زَيْنٌ» أمامه صامتًا. تكلم الزعيم: «أخبرني الطبيب أنَّكَ تكلمت. حقًّا، لقد بذل مجهودًا كبيرًا ليظهر إنسانيتك إلى النور!» ثم نظر إلى الصبي الذي لم يكترث لكلامه، فثار حنقه لكنه قال لنفسه أن ذلك الصبي لا يعرف اللياقة، بل إنَّه أقرب لخروف. لا! بل إن الخروف ليعرف ما يفعله حين يلد، أمَّا هذا الأخرق فلا يدري لأي شيء خُلِق!
قال الزعيم: «ثمَّة حقلٌ قريب من بيتك كان لعائلة صغيرة أكلتها بعض الشياطين. يمكنك أن تأخذ ذلك الحقل وتعمل على زراعته والعناية به حتى تعيل أمَّك. لا يمكنك أن تعتمد على صدقات المحسنين من أهل القرية!» ثم تمعَّن في ملامح الصبي، وثار غضبه مجددًا لتلك البلادة المرسومة على ملامحه. زفر زفرة قوية تحركت لها الأوراق المرصوفة أمامه، ثم قال: «خُذ هذه الورقة واحتفظ بها حتى لا يطالب أحدٌ بحقلك. حين يجرؤ أحدٌ على ادعاء أن ذلك الحقل له، أظهر له هذه الورقة وعد لعملكَ. أتفهمني أيُّها الصبي الأحمق؟» فحدَّق به «زَيْنٌ» دون أن ينبس ببنت شفة. زفر الزعيم مجددًا، ثم قال: «أنا متأكدٌّ الآن أن ذلك الطبيب كذب عليّ بشأن كلامك. هيَّا غادر. ابحث عن شخصٍ أحمقٍ يرشدك لحقلكَ».
غادر «زَيْنٌ» منزل الزعيم واتَّجهَ إلى الحقل الذي وصفه الزعيم في الورقة المكتوبة. لم يكن ليحاول سؤال أحدٍ، لا سيما أنهم ينفرون من الأماكن التي يمشي قربها، كان عليه فقط أن يعتمد على نفسه، ولم تكن القرية كبيرة ليغفل وجود حقلٍ محاطٍ بوشيع الجانب الشمالي منه مهدوم. كان كل شيءٍ واضحًا. ولوهلة فقط، تساءل عمَّا إذا كان ذلك الزعيم يسخر منه! لكن ذلك السؤال كان لوهلة فقط قبل أن يلقي كل ذلك وراء ظهره ويشرع في تأمُّل حقله. هو حقًّا لا يعرف ماذا يفعل، ولم يذكر له الطبيب أيَّمَا شيءٍ عن زراعة الحقل. وقَبل أن يجتاز الوشيع إلى الحقل سمع نداءً باسمه وحين التفت وجد أنَّها الصبية التي استقبلته في منزل الزعيم. ارتدَّ إلى الوراء خطوة حين أدرك أنها تجري نحوه مسرعةً، وانتظر أن تقف لكنها قفزت عن الوشيع إلى الحقل ووقفت تنظر إليه متحديةً. لم يعرف «زَيْنٌ» الشَّيء الذي تُريدهُ الصبية منه، لكنه لم يكترث لسؤالها. قفز هو أيضًا إلى الداخل، فقالت: «لقد فكرتُ أنَّ جدي غبيٌّ كبير ما إن غادرتَ! كيف له أن يعطيكَ حقلًا ويرسلكَ إليه وأنت لا تدري شيئًا من أمور الزراعة، أليس كذلك؟» وجد «زَيْنٌ» نفسه مضطرًا للإجابة، فقَالَ: «لا، الأمر ليس كما تظنين. لقد زرعت بعض الأشياء في كوخنا» نخرت الفتاة وهي تحاول انتزاع جذعٍ من الأرض: «هل تساوي زراعة حقل كاملٍ كهذا بزراعة بضع أزهار. لقد تسللتُ إلى كوخكَ قبل ورأيتكَ تعمل على تلكَ الزهيرات الصغيرة. الأمر مختلف تمامًا!».
لم تكن الصبية جميلة بأي شكل؛ كانت تملك عينين واسعتين لامعتين جدًا كان «زَيْنٌ» يَتذكرهُما كلَّ صَباحٍ حين يرى الأبقار في الطريق. أسنانها عريضة فلجاء، وابتسامتها واسعة جدًا رغم أن شفتيها رقيقتان صغيرتان، شعرها زوبعة كثيفة فوق رأسها رغم أنَّه مجدول في جديلتين. لم يكن في تلك الصبية ما يلفت أو يبهج، كانت مزيجًا غريبًا من البراءة والفضول، واندفاعها نحو «زَيْنٍ» كلَّ صباحٍ كي تعلمه الزراعة كان يجعله دائمًا يتساءل عمَّا إذا كان ثمة شخص يرسلها إليه. كانت تحمل فطورها معها: بيضتان، وبطاطا مسلوقة، وخبز، تعطيه بيضة وتقتسم معه البطاطس الساخنة وقرص الخبز، ثم تشرح: «سرقتُ البيضة، لكني لا أستطيع سرقة البطاطا. حسنًا، أنا لا أسرق البيضة وهي جاهزة، وإنما وهي نيئة ثم أضعها في الإناء مع بقية البيض. لا أحد يلاحظ لأني المسؤولة عن البيض، لكني لا أملك يدًا في الخبز والبطاطس؛ لذلك تحمَّل» فينظر إليها صامتًا دون أن يخبرها أنَّه قد تناول فطوره فعلًا. كان مذاق فطوره الساخن الذي تأتي به يبهجه، لكنه لم يتكلم أبدًا. وأمضت الصبية معه شهرين كاملين تهذر دون أن تسمع منه حرفًا واحدًا. وبعد ذينك الشهرين سألها: «ألا يكلفونك بعملٍ ما؟» رفعتْ وجهها عن البيضة التي تركت قشورها تسقط في حضنها، تأملت وجهه قليلًا بينا هو يراقب شروق الشمس صامتًا؛ لذا فقد ظنَّت أنها توهمت صوته، لكنَّها أجابت: «أنا راعية أغنام أمي، لكني أتركها في عهدة الكلب. إنَّه حريص عليها أكثر مني، ولن يلاحظ أحد. لا تقلق!» هرستْ بيضتها فوق قرص الخبز ثم ألحقته بالبطاطا وفتحت فمها الكبير لتلتهم لقمة كبيرة. التفت إليها «زَيْنٌ» وتأملها وهي تمضغ لقمتها الكبيرة قبل أن يلوح شبح ابتسامة على شفتيه، لكن الصبية لم تلحظ ذلك.
قالت بعد أن ابتلعت لقمتها: «أنا أكبر منك بعامين. كنتُ واعية حين ولدتَ» شكَّ في كلامها لكنه لم يعلِّق. تابعتْ وهي تلوك لقمتها الثانية: «أنتَ مُبهج!» التفت إليها وحدقَّ في جانب وجهها وهي تمضغ لقمتها وانتظر تتمة كلامها. ابتلعتْ لقمتها ثم قالتْ وهي تشير إلى قرص الشمس: «عيناك مبهجتان. تبدو دائمًا كأنَّك ولدت تحت ضوء القمر. أأخبرك سرًّا؟ ذات مرَّةٍ، تسللتُ إلى سطح منزل جدي ونظرت إلى السماء_».
قاطعها «زَيْنٌ»: «إنَّها ثلاث كُرات» التفت الصبية إليه وحدَّقتْ في وجهه مطولًا قبل أن تصرخ: «أرأيت السماء؟» ثم انتصبت واقفة قابضة على فطورها بيدها الخشنة الكبيرة بينا سقطت قشور البيض من تنورتها على الأرض. رفع «زَيْنٌ» بصره إليها. كان ثوبها البني متسخًا كالعادة، وكتفاها عريضان، ولبدة شعرها الأجعد فوق رأسها حمراء تحت أشعة الشمس. كررت السؤال: «زَيْنُ؟ أرأيت السماء من قبلُ؟» كانت عيناها الواسعتان لامعتين كالكرة الفضية في السماء. أجاب: «نَعم» وما إن سمعت جوابه حتى شرعتْ تقفز مبتهجة فتساقط بعض البيض المهروس من قطعة الخبز المسحوقة في يدها، صرخت: «وأخيرًا؟ أنا حقًّا محظوظةٌ» ثم جثتْ أمامه بعينيها اللامعتين وضمَّته بقوة قبل أن تعود إلى مكانها قائلة: «هذا سرّنا الكبير. لن أخبر أحدًا عنه، وأنتَ أيضًا» لكنَّ «زَيْنًا» كان مَشغولًا بتأمل ذلك الشعور الذي راح يسري في جسده، وتلك الحاجة للابتسام في وجه تلك الصبية التي تكبره. ولوهلة فقط، تمنى لو يجمع لبدة شعرها ويسويها ثم يجدل شعرها الأشعث في جديلة ثم يزينها بالزهيرات الصغيرة، لكن ذلك كان لوهلة فقط.
رفعت الصبية خبزتها المسحوقة وتأملتها لحظة قبل أن تلتهمها كلها دفعة واحدة. التفتت إليه وفمها مملوء، وقالت: «اسمها أقمار، وليس كرات»، فابتسم لها «زَيْنٌ»، ودون أن يلاحظ، شرع يتحدث: «إنها تشبه تلك الكرات في مهرجان القرية» فضحكت الصبية: «أنتَ منبهر بمهرجان القرية، أليس كذلك؟ لماذا لا تحضره إذن؟ لقد رأيتك تتسلل مرَّةً. بمناسبة هذا، أنتَ عدَّاءٌ سريعٌ جدًا. لقد حاولت أن أتبعك يوم تسللتَ لكني لم أستطع» نظر «زَيْنٌ» إِلَى قُشور البيض في حضنه، ثم قال: «لقد سمعتُ أغانيهم، ورَأيتُ رقصهم» دنت الصبية بوجهها منه وهمست: «أترغب في الرقص؟» ارتبك «زَيْنٌ» لكنه لم يُجِب. وقفت الصبية قائلةً: «ليس لدينا الكثير من العمل اليوم، هيَّا لنذهب إلى كوخك وسوف أعلمكَ الرقص وأغني بصوتي البشع» ثم شدَّته من يده وعدتْ نحو كوخه.
كان «زَينٌ» يراقب تراقص جديلتيها وهي تجري أمامه ويشعر بابتسامته تبزغ رغمًا عنه. وحين وصلا إلى الكوخ، اندفعتْ إلى الداخل قائلةً إنها ستلقي التحية على أمِّه، فأطلَّ بوجهه ليراقبهما، وفي الوقت ذاته استغرب تصرفه، لكنه ابتهج حين رأى الصبية تثبت في رأسها زهيرة حمراء قبل أن تقف في فناء الكوخ ممسكة بتنورتها، قالت: «انظر إلى حركة قدمي وكتفي. إنَّها رقصة قديمة. أخبرني جدي إن اسمها رقصة النجاة. جميع من نجوا من سقوط الحضارات رقصوها. إنَّها تعبر عن النجاة والحرية. عليك أن تبقي رأسكَ مرفوعًا لأعلى، عينيكَ شاخصتين إلى السماء، وصدركَ مشدودًا. يجب أن تبقي كل عضلاتكَ مشدودة. أتفهمني يا «زَيْنُ»؟» فهزَّ رأسه وهو يتأمل تلك الوقفة وانشداد بصرها لشيء خفي، كأنما كانت… لكنه لم يجد كلمات تعبِّر عن ذلك.
شرعت الصبية في الرقص، فراقب خطواتها وقفزاتها وتأكد أنها تترك أثرًا على تراب الفناء، وحين انتهتْ رافعة ذراعيها في الهواء ووجهها قبالة السماء، شعر «زَيْنٌ» بالإنهاك فجلس قائلًا: «هذا مبهرٌ حقًا. إنَّها رقصة رائعة». جلست الصبية أمامه لاهثة بوجه محمر، قائلة: «ألا ترى أنَّها تعبِّر عن النجاة» هزَّ رأسه وهو يتأكد من آثار أقدامها. استرخت الصبية على مصطبة الكوخ، ثم قالت: «لا أظنُّ أني أستطيع الغناء بعد هذا المجهود». انتبه «زَيْنٌ» أنَّ أمَّه كانت تحدق في الصبية المستلقية، لكنه لم يعرف السبب. قال بغتة وقد تذكر: «حدثيني عن سقوط الحضارات» فجلست رافعة حاجبيها حتى منابت شعرها، ثم قالت: «ألا تعلم القصة؟» هزَّ رأسه نافيًا، فقَالت: «يا لك من بائس! إنَّها قصة وجودك. يقال إنَّه في الزمن الماضي كان ثمة حضارات كثيرة عاش فيها أجدادنا يدرسون في مبانٍ عملاقة، ويقرأون كتبًا كثيرةً، وَيَسْتَعملون الأجهزة… أنا لا أعرف شيئًا عمَّا يقال له أجهزة، لكني أظنها أشياء مثل الطاحونة. كانوا يعيشون في نعيم. أخبرني جدي أنَّهم كانوا يملكون أشياء تطير… اسمها طائرة كما أتذكر. وأشياء أخرى تسير بسرعة كبيرة، فمثلًا: لا تكون بحاجة إلى السير من كوخك إلى منزل جدي، يمكنك أن تصعد على ذلك الشيء فيحملك إليه بسرعة. إنَّها أشياء مبهرة!». ثم صمتت كأنها تتخيل تلك الأشياء. تابعت بعد أن زفرت: «ثم بدأت الأرض تتزحزح تحتهم؛ بدأت الزلازل، والبراكين، والأعاصير، والفيضانات، ولم يعد أحدٌ ليأمن في مكان رغم أنهم كانوا يملكون أجهزة تمكنهم من معرفة ما سيحدث. قال الجد الأكبر أن تلك الحوادث تخلصت من ثقلٍ كبير من البشر، ثم اندلعت الحرب الرابعة. حرب اشتركت فيها كل الحضارات وأفنت نفسها!». حدَّقت الصبية في وجه «زَيْنٍ» المنتبه لها قبل أن تقول: «الإنسان يفني وجوده بيده» لم يفهم «زَيْنٌ» تلك الجملة لكنه لم يعلِّق وانتظر تتمة القصة لكن الصبية نهضتْ بغتة قائلة: «سأذهب لأطمئن على أغنامي. أراك غدًا».
أراد «زَيْنٌ» أن يسأل الصبية أسئلة كثيرةً، لذلك انتظر اليوم التالي بفارغ الصبر. أمضى الليل محدقًا في السماء قبل أن يسمع خشخشة شيطانٍ مقترب فمضى إلى فأسه الصغير وأغلق الباب الثقيل ونظر إلى أمه التي كان جسدها يبث نورًا خفيفًا في الدجنة حوله. تلمَّس «زَيْنٌ» الفأس الصغير الذي حصل عليه حين كان في السابعة من الشيطان الذي سقط في فناء كوخه. يتذكر «زَيْنٌ» أن ذلك الشيطان المثقل بالجروح سقط أمامه وذلك الفأس الصغير مغروس بين ضلوعه. لم يكن ذلك الفأس يحمل أيَّما سمة سوى أن ثمة نقشًا لطائرٍ غريب على مقبضه، وكانت ساق الفأس من الحديد بعكس كل الفؤوس التي رآها في القرية؛ لكنه لفَّ تلك الساق الحديدة الصلبة بقماشٍ رثٍّ حتَّى لا يميز أهالي القرية ذلك الفأس الشيطاني فينفرون منه أكثر. لكنه لم يكن قد استخدمه سوى في التحطيب، وحين لا يستخدمه، يتركه وراء وسائد أمِّه التي أخذت بشرتها تكتسب لونًا أصفر، وأخذ اللون الأخضر الشاحب ينسحب من عينيها. وفي كلِّ مرَّةٍ كان «زَيْنٌ» يدرك أن أمَّهُ موشكة على الرحيل، كان يشعر بألم يسري في جسده، وكان قد بدأ يعتاد ذلك الألم في الثالثة عشرة بعد أن تزوجت الصبية وغابت عنه دون أن يستطيع رؤيتها حتى في شوارع القرية، ولم يكن يمتلك من الجرأة ما يجعله يبحث عنها، وآنذاك تنبَّه أنه لا يعرف لها اسمًا.
كَان الألم يتسرب في دمه حين يقعد أمام شمس الشروق مقشرًا بيضته، وحين يرقص رقصة النجاة تحت شمس الظهيرة، وحين يحتطب لأهل القرية قبيل الغروب. كان حضور الصبية مرتبطًا بحضور الشمس، وفي كل لحظة من يومه كان ينظر إلى الشمس ينتظر قدومها، وفي نهاية اليوم يهمس لها: «أراكِ غدًا!» لكنها لا تأت. فيعود والليل يتسرب إلى الدنيا ليجلس أمام أمِّه يقاوم حزنًا يكاد يطفر من عينيه: «لمْ تأتِ اليوم أيضًا، أُمَّاه!» عينا أمِّه بيضاوان، جسدها شاحب إزاء نور الأقمار المتسرِّب من الثقوب. ثمة شيطان يجول في حديقة الكوخ، لكنَّ «زَينًا» لم يكترث. دفن وجهه في حضن أمِّه وبكى. كان يعلم أنَّ أمُّه ماتت ذلك الصباح قبيل أن يغادر إلى حقله، لكنَّه لم يدفنها، ولم يعلم أحدٌ من أهل القرية أن المرأة التي تراقبه حين يرقص رقصة النجاة قد انطفأت عيناها، وأن المرأة التي علَّمته تلك الرقصة… ربما لن تعود.
لمَّا استيقظ «زَيْنٌ» في اليوم التالي، فتح عينيه وحدَّق في نور الشمس المتسرب من الثقوب – التي تسمى عبثًا نوافذ – قبل أن يضع ساعده على عينيه. تساءل إن كان ثمة طريقة لقتل ذلك الألم المتراكم في صدره. أزاح بصره وتأمل رأس أمه الشاخص نحو السقف، كأنها ترقص رقصة النجاة. رفع جسده المتثاقل حين أدرك أنَّه نام في حضنها، وتلفت حوله فرأى باب الكوخ مخلوعًا، وشيطانًا منحورًا على الأرض، وفأسه الصغير مجرد من خرقته إلى جواره. قطب حاجبيه متعجبًا وعبثًا حاول تذكر ما حدث الليلة الماضية. أدار بصره في الحجرة فتنبه أن ساق أمِّه مقطوعة، فهبَّ واقفًا وتفقَّد الشيطان مذعورًا فوجد قدمهًا في يده.
حدَّقَ فزعًا فيما حوله، لكنه لم يتذكر ما حدث. أاقتحم الشيطان الكوخ وقضم ساق أمِّه؟ لا بد أن هذا ما حدث، فنهض هو بفأسه وقتل الشيطان، لكنه لا يستطيع أن يتذكر أيًّا مما حدث. قطب حاجبيه وضرب رأسه مرارًا لكنه لم يتذكر شيئًا، لماذا لا يتذكر؟ أيُّ شيءٍ حدث أمسِ؟ ما هذا السوء الذي أشعر به في دمي؟ لكنه قبيل الظهيرة كان قد فرغ من دفن أمِّه بين الزهيرات الحمراء، والشيطان إلى جوار الشيطان الآخر. ثم حمل فأسه وحباله ومضى إلى القرية. ناداه رجلٌ: «استيقظت أخيرًا يا خَسْرَانُ؟ إنَّ اليوم هو يوم المهرجان! لقد تعهَّدتَ أن تَجمع حطبًا! الزعيم ينتظرك غاضبًا». التفت «زَيْنٌ» إلى الرجل وسأله: «أهو في منزله؟» تابع الرجل طريقه قائلًا: «بل في حقله ككل عامٍ».
مضى «زَيْنٌ» إلى حقل الزعيم، فرأى حشدًا حوله، وكل نساء عائلته واقفات بتنانير مبهرجة حاملات سلالًا من الزينات اللامعة. اقترب من إحدى السلال وتناول قصاصة زرقاء لامعة وحشرها في جيبه ثم مضى إلى الزعيم الذي ما إن رآه حتى قطب حاجبيه الكثيفين، وصاح: «أين كنتَ طوال اليوم؟ إنَّها الظهيرة! ليس لدينا من الحطب ما يكفي!» قطع الزعيم كلامه وتأمل عقدة حاجبي «زَيْنٍ» التي لم يرها قبلُ، وملامح الغاضبة، والتماع الزمرد في عينيه. أوشك الزعيم أن يسأله عن خطبه لكن من ذا يكترث لما يحدث مع ابن الشيطانة هذا! أشاح الزعيم عنه قائلًا: «اجلب لنا حطبًا كما تفعل دائمًا».
أراد «زَيْنٌ» أن يُدير بصره حوله باحثًا عن الصبية، لكنه لم يفعل. مضى مهرولًا قبل أن يجري مسرعًا إلى الغابة مثيرًا دهشة الزعيم الذي تمتم: «كما توقعت من هذا الخسران، له ساقان قويتان لكنه لا يستعملهما». نظر الحطابون إلى «زَيْنٍ» الذي أخذ يضرب شجرة يابسة بفأسه الصغير ضربات متتابعة والعرق يتطاير منه، قبل أن يرفع قدمه ويضربها بقدمه لتسقط على الأرض مخلِّفةً دويًّا تراجع له الحطابون دون أن ينبسوا ببنت شفة. وفي سرعة لم يعهدوها أخذ يقطعها حتى جمع عشرين حزمة، ثم صاح لهم: «حمُّلوها في عرباتكم إلى الزعيم! هيَّا!» وأمام الحزم في صوت، استجابوا صامتين. تساءل أحدهم: «من أين جاء بتلك الشجرة اليابسة؟ ألم نكن هناك قبل لحظة وكانت خضراء؟» تمتم آخر: «ماذا تتوقع من ابن شيطان؟!». لهث «زَيْنٌ» طَوِيلًا قبل أن يرفع فأسه الصغير إلى جرابه ويعود إلى حقل الزعيم، لكنه وقف بعيدًا عازمًا على التقاط صبيته التي كبرت ولم يعد يعرف أتغير شكلها أم بقيت على حالها، لكنه لم يجد أحدًا في الحقل، فأدرك أنهم في ساحة القرية. هرع إلى هناك، فصادفه الطبيب: «مرحبًا يا فتى! أرى أنَّك أصبحت شابًّا. أهذا الذي يعلو شفتيك شاربٌ؟ آهٍ! أنا أتذكر اليوم الذي ولدت فيه جيدًا. كان ذلك قبل خمسة عشر عامًا. ظنَّ الجميع يومها أنَّك مخلوق غريب، لكني كنت متأكدًا أنَّك إنسانٌ عادِيٌّ لولا أنَّ أُمَّك خضعت لظروف غامضة_». ترك «زَيْنٌ» الطبيب يتحدث واقترب من الساحة، ثم تسلق أحد البيوت ووقف على سطحها ليراقب رقصة النجاة. تابع الوجوه الشاخصة نحو السماء، الأذرع التي انبسطت، السيقان التي تمددت. تابع الرقصة، وفحص كل الوجوه لكنه لم يجد تلك التي يبحث عنها، تسرب شعور غريب إلى صدره، فنكس رأسه وتساءل عن السبب الذي يجعله يبحث عنها بكل ذلك العزم؟ لماذا يبحث عنها اليوم بكل هذا الإصرار؟ إنها لم تزره منذ عام. زارته مرتين فقط بعد أن تزوجت ولم تتحدث أبدًا عن زوجها. كانت تحدثه عن الحضارات، وعن جدِّها الذي شَرَع يهذي بكثير من الخرافات، ويُكذِّبُ قصة سقوط الحضارات ويتشاجر مع الطبيب والكاهن كل يوم، أخبرته بنبرة هادئة لا تشبهها: «لقد تسللتُ إلى قبو جدي وسرقتُ إحدى تلك الكتب الذي كتبها الجد الأول. لا أظنُّ أننا حقًا تسللنا من سقوط الحضارات لنعيش… فقط نعيش في هذه القرية التي لا نعرف ما يقبع وراءها. إنَّها حياة لا معنى لها؛ نعمل طوال النهار ثم نرقد طوال الليل، بيوتنا مقابرنا! نحن لا نحلم! لا أحد يعرف الحلم في هذه القرية. لم أعرف الأحلام طوال عمري، لكن جدي تحدث عنها… قال إنَّه كان يتسلل نهارًا إلى وراء كوخك لينام فقط. ليرى تلك الأوهام. لم أصدِّق أوَّل الأمر، لكني هرعت لتجربة ذلك. أشعرت بذلك قبلُ؟» لكنَّ «زَيْنًا» لم يخبرها أنَّهُ لا يملك تلك الأعشاب التي يتجرعها أهل القرية؛ لذلك تحوم الشياطين حول كوخه طوال الليل.
راقبت الشمس دون أن تمس قرص الخبز الجاف الذي تحمله، ثم تابعت: «أنا أعمل طوال اليوم، ثم أتسلل إلى السطح لأراقب تلك الأقمار. أتعلم؟ في أحايين كثيرة أتساءل عمَّا إذا كانت أمُّك قد اطلعت على ذلك الكون فجئتَ أنتَ!» التفت إليها مبهورًا، لكنها لم تنظر إليه، تابعت: «إنَّنِي أشعر بدمي يبرد ويحترق حين أراقب تلك الأضواء. أصفر، أزرق، فضي! أصفر، أزرق، فضي! أهذي بهذا طوال اليوم. أعمل طوال اليوم حتى أحصل على تلك المتعة الرائعة في مراقبة ذلك الكون المبهر. لكن… ماذا يمكن أن يحدث لي لو أن شيطانًا هائجًا اقتحم القرية وقفز بغتة إلى السطح واطلع علي؟ سيقتضم أطرافي كلها ويبعثرها طوال الطريق من بيتي حتى مدخل القرية، ثم أموت بعدها عيناي شاخصتان إلى ذلك الكون، إلى الحرية. إنَّها ليست رقصة النجاة، بل رقصة الكون. أيها الكون الفسيح! أنا أرقص هنا، وأعلم أن دمي بداخلي يحترق! أهبُّ إليكَ بخطاي الواسعة، أفارق هذا التراب إليكَ فالتقطني!».
التفتتْ إلى «زَيْنٍ» قائلةً: «أليست هذه أغنية النجاة؟ إنَّها أغنية الكون! نحن نجهل من نحن! نجونا وفقدنا أثناء هرولتنا كثيرًا من ماضينا. تلك الآلهة التي يتحدث عنها الكاهن دون أن يدري ماهيتها هي شيءٌ مما أضعناه». كان «زَيْنٌ» مبهورًا بما تنطق به الصبية التي لم تعد صبيةً. وبعد تلك الزيارة، لم يرها مرَّةً أخرى.
أنصت للأغنية التي يرددها أهالي القرية:
أيها الكون الفسيح!
أنا أرقص هنا،
وأعلم أن دمي بداخلي يحترق!
أهبُّ إليكَ بخطاي الواسعة،
أفارق هذا التراب إليكَ فالتقطني!
ثم مضى إلى الحقول الفارغة وحيدًا، ولم يفكر للحظة أن يعود رغم أنَّ جسده كان يتناغم مع الأغنية، وأنَّ خطاه كانت تهبُّ، وأنَّ ذراعيه كانتا يرتفعان عاليًا، إلا أنه أبقى عينيه محدقتين في قدميه. اِقْترب من حقله وقد تباعدت أصوات المهرجان حتى اختفت. نظر إلى حقله من ذلك البعد، ولمَّا كان يذكره بتلك الصبية التي كبرت فقد أدار له ظهره عازمًا على سلك طريقٍ آخرَ نحو كوخه. وقبل أن يبلغه تناهى إليه أنين خافت، وخشخشة شيطان، فهُرع ظانًّا أن شيطانًا ينبش قبر أمِّهِ.
كان أفضل صوت يعشقه «زَيْنٌ» صوت طقطقة العظام. يضرب بفأسه عنق شيطان ويسمع تلك العظام التي تطقطق، ثم تمزق الجلد قبل أن يسقط الرأس أرضًا. أكثر من مرَّةٍ، كان يجرُّ شيطانًا إلى كوخه ويمدده قبالة الأقمار هامسًا: «دمي بداخلي يحترق!» ثم يمسك ذراع الشيطان ويكسرها قبل أن يضربه بفأسه فتستحيل الجثة الطرية شيئًا يابسًا سريع الكسر. في أحايين كثيرة، كان يتخلى عن فأسه ويضرب تلك العظام بفأسٍ عاديٍّ، يكسر المفاصل بقوة ويشعر بدمه يحترق لذلك الصوت المغوي؛ ثم يهوي على تلك المناطق المكسورة بالفأس، يضرب مرَّةً تلو أخرى، وفي كلِّ مرَّةٍ يتصور أنَّهُ يضرب ذلك الشيطان الذي هجم على تلك الصبية التي لم يعد يذكر ملامح وجهها. يهشم جمجمة ذلك الشيء الذي انتزع ساقيها وتركها عاجزة عن الصراخ بينا أهل القرية يغنون: «دمي بداخلي يحترق!». عيناها شاخصتان إلى السماء، أطرافها منزوعة، والشيطان الأسود يلتهمها على مهلٍ. كم استغرق من الوقت كي يطيح برأس ذلك الشيء بعيدًا عنها، عن تلك الصبية التي عانقته قبالة الشمس لتخبره أن تلك الأقمار سرُّهما.
دنا بوجهه منها فرآها لا تراه. عيناها مسحوبتا اللون. ما كان لونهما حقًّا؟ ووجد نفسه لا يذكر شيئًا من ملامحها؟ وتساءل أكانت تلك التي كانت تزوره أم أنَّها امرأة أخرى، لكنها كانت تملك لبدة الشعر الحمراء قبالة الشمس.
***
حين رفع «زَيْنٌ» رأْسه إلى الأقمار ورأس الصبية لا يزال فوق فخذيه، تذكر أغنية ترددت على مسمعه طويلًا، لكنه لم يستطع أن يتذكر أين سمعها أو متى! بقي ذلك لغزًا أمام عقله الذي شعر به يضرب رأسه بقوة. ودون أن يدري، راح يردد وهو يمسح جبين الصبية: «نم وحيدًا أيها الطفل المستكين قبالة الأقمار، وتقبل خبزها الحاني في فمك!» قطب حاجبيه وأخذ يتذكر ما بعد ذلك المقطع لكنه لم يستطع. ربما لو كانت تلك الصبية حيَّةً تنظر إليه لأدركت ما يريد ولساعدته على التذكر. رفع رأسه وتأمل وجهها الشاحب ثم تركها وجلب ماءً. وأخذ ينظف وجهها كما كان يفعل مع أمه، وجمع أطرافها ودفنها تحت أزهار الحديقة، ثم جثا قبالة القبر قائلًا: «نَم وَحِيدًا أيها الطفل المستكين قبالة الأقمار، وتقبل خُبزَها الحانِي في فمك… في فمك العذب!». ثم جمع ثيابه في صرة وثبَّت فأسه في خصره ومضى إلى القرية. حتى تلك اللحظة لم يدر ما أراده، لكنَّ حافزًا كان يدفعه إلى مغادرة تلك القرية. إلى أين؟ لا يدري! لكن لم يكن ثمة شيء يدفعه للبقاء، فقد رحلت المرأة التي كان يجدل شعرها تحت الأقمار، ودفن الصبية التي ابتسمت له تحت أزهار الحديقة قبالة الأقمار. إذن، لِمَ يبْقَ؟
أنصت لخشخشة الشياطين حين بلغ القرية، فانتزع فأسه وترك صرَّته تسقط عن كتفه ومضى. كانت أربعة شياطين؛ اثنان كبيران كالذي قتله اليوم، وواحد صغير كالذي سقط أمامه حين كان في السابعة، وآخر كالذي أكل ساق أمِّه. أوَّل شيء تذكره «زَيْنٌ» تلك اللحظة أن الشياطين عمياء، هي فقط تتبع الأصوات ولا شيء غيرها… والأصوات البشرية فقط فلم يأكل أيما شيطان دجاج أهل القرية أو خرفانهم. رفع فأسه وقبل أن يقدم على أيِّما حركة تساءل لماذا هاجم ذلك الشيطان صبيته الصغيرة نهارًا وهو تعلَّم مذ كان يحبو أن تلك الشياطين لا تحوم إلا ليلًا! لكنه لم يطل التساؤل بل ركض مباغتًا ليقطع عنق الشيطان الأصغر.
التفت الشيطان الأوسط نحوه وخشخش وفمه يتسع وأنيابه تلمع تحت ضوء الأقمار، فقفز «زَيْنٌ» إِلَى إحدى الصناديق وتسلقها ثم وقف على سطح أحد المنازل وراقب ذلك الشيطان يحاول أن يصل إليه. تساءل كيف يحاول ذلك الشيطان الوصول إليه رغم أنَّه لا يصدر صوتًا، أهي نبضات قلبه المتسارعة؟ أم صوت أنفاسه اللاهثة، أم رجفة يديه؟ بأي شيء كان الشيطان يستدل عليه. أزاح الخرقة البالية عن ساق فأسه وشخص ببصره إلى الأقمار، وشدَّ عضلاته كلها ثم قفز على عنق الشيطان لكنه لم يستطع ضربه. أمسكه الشيطان من ساقه وقذفه بعيدًا. سمع «زَيْنٌ» دويَّ الريح في أذنيه صاخبًا قبل أن يسقط على الأرض. لم يشعر بألم السقطة أوَّل الأمر، لكنَّه شعر بها حين حاول الوقوف والشيطان يركض نحوه. رفع كفه، فتبين أنَّه أسقط فأسه في مكانٍ ما.
تسارعت نبضاته وتلفت حوله ليدرك أنَّه في ساحة القرية ولم يكن الشيطانان الآخران في مرمى سمعه أو بصره، فوقف متحاملًا على نفسه وركض خائفًا، متلفتًا حوله بحثًا عن فأسه. حاول أن يتذكر الطريقة التي قتل بها الشيطان الذي أكل أمَّه، أو ذلك الذي وجده يلتهم صبيته الصغيرة، لكنه لم يستطع، ووجد نفسه يقتل شيطانًا لأوَّلِ مرَّةٍ بوعيه الكامل، ففي كلا المرتين كان يعي نفسه بعد أن ينتهي كل شيء، وعبثًا كان يحاول التذكر.
تسلق منزلًا عاليًا ووقف على سطحه يراقب الشيطان المخشخش أسفله. أنيابه حادةٌ جدًا وطويلة، مخالبه كذلك، كل شيء فيه مرعب، كل شيء فيه كان يجعل نبضات قلبه تتسارع، وفكر في صبيته الصغيرة والذعر الذي اعتراها. أتراها استنجدت به؟ أهتفت باسم أحدٍ لينقذها؟ لقد انحنى عليها ذلك الشيطان وأخذ يلتهمها وهي حيَّةٌ عيناها شاخصتان. رمش «زَيْنٌ» حين شعر بلهيب في عينيه. إنَّهُ نفس اللهيب الذي شعر به حين بكى في حضن أمِّه! لا يتذكر أنَّه شعر بشعور مماثل قبلُ، والآن؟ أيُّ جحيم هذا! كانت دموع صبيته الصغيرة منحدرة على وجهها، منسكبة على تراب الحديقة… أبكت طويلًا؟ بدا وجهها حزينًا كآخر مرَّةٍ زارته؛ ألم تكن سعيدةً مع زوجها؟ هو حتى لا يفهم معنى الزواج، لكنه يتساءل فحسب من سرق تلك الابتسامة الواسعة من وجهها.
راقب حركة الشيطان المتوفزة بصبر قبل أن يقفز عليه مرةً أخرى، ولوهلة فقط تساءل إن كان يستطيع أن يقطع تلك الرقبة العريضة بذلك الفأس الصغير. أين فأسه؟ تشبث بعنق الشيطان الذي أخذ يشدُّه عنه، فشعر «زَيْنٌ» بألمٍ حادٍّ في ظهره، وقبل أن يقذفه الشيطان مرَّةً أخرى أبصر فأسه. سمع دويَّ الريح مرَّةً أخرى قبل أن يرتطم بجدار أحد البيوت، همس: «اللعنة!» تحامل على نفسه وهرع نحو فأسه الصغير ثم ركض نحو الشيطان الراكض نحوه وتزحلق بين ساقيه وقطعهما، لكن فأسه علِق في ساق الشيطان، فهرول «زَيْنٌ» مبتعدًا عنه.
سحب الشيطان الفأس مزمجرًا وقذفه بعيدًا، فأصاب باب أحد البيوت. ركض «زَيْنٌ» نَحو فأسه، وما إن انتزعه حتى فتح الباب وأطلَّ وجه زعيم القرية الذي سحبه مسرعًا إلى الداخل وأوصد الباب. وجد «زَيْنٌ» نفسه في مكان مظلم دافئ، ولم يستطع معرفة إذا ما كان الزعيم لا يزال موجودًا أم أنَّه غادر. انحنى ممسكًا ركبتيه مستشعرًا الألم في جسده كله قبل أن يهمس: «اللعنة!»، فأفزعته ضربة قوية على ظهره قبل أن تشدَّه يدٌ بقوة، فاتبع الطريق صامتًا. لم يكن ليمانع مطلقًا أن يسقط في يد أيِّما رجلٌ بعد مواجهة ذلك الشيطان.
رمش «زَيْنٌ» حين أبصر نور الشمعة يتراقص أمامه. شرد لحظات في ذلك النور قبل أن يحوِّل بصره إلى الزعيم الشاحب. بدا مختلفًا بثوبٍ أبيض، وشعرٍ منكوش، وملامح مذعورة. ولمَّا أشار إليه بالجلوس، تمكن «زَيْنٌ» من ملاحظة الرجفة في يديه. تصرَّم وقتٌ طويلٌ قبل أن يتكلم الزعيم أخيرًا بعد أن اختفت خشخشة الشيطان خارج البيت: «أرى أنك تتجول في القرية ليلًا». لم يعرف «زَيْنٌ» المغزى وراء تلك الجملة، فاكتفى بهز رأسه دون معنى. سأله الزعيم: «وما كنت تفعل؟» فكرَّ أن يخبره عن موت حفيدته، لكنه فكَّر أنَّ ذلك لن يجلب الحزن على قلب ذلك الرجل الذي وصفته بالمخرِّف في آخر زيارة؛ لم يشعر أنَّ ذلك قد يغير شيئًا في ملامح الرجل المذعور أمامه. همس أخيرًا: «أنتقم» ارتفع حاجبا الزعيم بالطريقة نفسها التي كان حاجبا الصبية يرتفعان، فشعر الفتى بالألفة تتسرب إليه. فسَّر: «أكل شيطانٌ أمِّي» تابع الحاجبان ارتفاعهما، وغزا الشحوب وجه الزعيم أكثر.
مضى بعض الوقت، استشعر «زَيْنٌ» أثناءه الألم في كل جسده، وشعر بسخونة في ظهره، فمد يده يتحسس ذلك الدفء الغريب، أغرق الدم كفه وتساقطت القطرات على السجاد على مرأى من الزعيم الذي أخذت لحيته الشعثاء ترتعش قبل أن يقول: «يا لك من ولدٍ أحمق! اخلع قميصك ومعطفك ودعني أرى ظهرك». كان على ظهر الولد أربعة جروح عرف الزعيم أنَّها من مخالب الشيطان الذي كان يصارعه. كانت تلك المرة الأولى التي يتحسس فيها الزعيم جرحًا شيطانيًا، فدائمًا كان ينأى بنفسه عن المجازر الذي تشهدها القرية ويكتفي بكتابة ملاحظاته وعدد الموتى. لم يشفق يومًا على الموتى، وكان يرى أنَّ موتهم نتيجة تقصيرهم وقلة حرصهم، وفي سرِّه كان يهمس أنهم يستحقون، لكنه لم يجرؤ يومًا على كتابة ذلك في دفاتر الزعماء.
عَصَر الزعيم الخرقة المبتلة في وعاء احمرَّ ماؤه، ثم أخذ يمسح الدماء عن ظهر الولد مرَّة أخرى، همس ساخطًا: «سيكون علينا انتظار الصباح حتى نذهب إلى الطبيب. يجب ألَّا يعلم أهل القرية ما حدث لك. نحن نحافظ على التوازن بموتنا الليلي، وهم بموتهم النهاري». أوشك «زَيْنٌ» أن يخبره أنَّ الشيطان الذي قتل حفيدته كان يجول نهارًا، وأنَّ خرافة احتراقهم في ضوء الشمس نسجها خيالهم البحت؛ لكنه تراجع عن ذلك واحتفظ بسرِّه لنفسه ووجه الصبية يتبدى أمامه. إنَّهُ سرُّهما فحسب. تذمَّر الزعيم: «دمك هذا لا يتوقف. لقد ذروت على جروحك البُنَّ وضمدتها وما زال دمك ينسكب! هكذا ستموت قبيل الشروق». لم يعلق «زَيْنٌ»، بل لم يخبر الزعيم أن تلك الجروح لا تؤلمه، بل لا يكاد يشعر سوى بالرضوض وألمٍ في ذراعه اليسرى؛ ومرَّةً أخرى احتفظ بذلك لنفسه.
جلس الزعيم منتفخ الأوداج. عبث قليلًا بما حوله محاولًا تجنب التقاء بصره ببصر الفتى الغريب، لكن في ذلك القبو الضيق، كان لا بد أن يجلس أمامه وينظر إليه، وأخيرًا فعل، فاغتنم فرصته وحدَّق في وجه الفتى تحديقًا موصولًا. كانت ملامح الفتى الجالس أمامه متناسقة لدرجة شعر معها الزعيم بالغضب دون أن يدرك لذلك سببًا، لكنه تمعن في عينيه اللامعتين اللتين لم يتسرب إليهما أيُّ ملمح من ملامح التعب. كان منحنيًا والدثار فوق كتفيه، وصدره مكشوف. تأمل الزعيم جسده ولوى شفتيه ممتعضًا؛ كان قد رآه قبل يزحف في القرية زحفًا حتى يبلغ السوق، أو الطاحونة، أو الغابة؛ وفي كلِّ مرِّة كان يسخر منه على مشهد من أهل القرية قائلًا إنَّ جسده لابد ألين من جسد الرضيع، لكنه الآن بعد أن غسل ظهره من الدماء، ووضع المراهم على رضوضه وربط ذراعه، أدرك أنها كانت حماقة منه أن يقول ذلك؛ فجسد الفتى كان صلبًا، وجلده قاسيًا، وعروقه نافرة كأيِّ رجلٍ قوي. لو أن أهل القرية يرون خطأ حكمه فسيزدرونه علانية. لوَّح بكفه قائلًا: «شُدَّ الدثار على صدرك هذا قبل أن يصيبك البرد» فانصاع الفتى دون نقاش وتابع تحديقه في الجدار وراء الزعيم، مدركًا أن الزعيم ينظر إليه لأول مرَّةٍ. دائمًا ما كان يشيح عنه ويلوح بيده البيضاء الغليظة المكسوة شعرًا أبيض يصعب معه رؤية تلك العروق الخضراء البارزة لعينيه. لم يكن الفتى مستعدًا لخوض أيِّما حوارٍ مع الزعيم، رغم شعوره بفضول الزعيم المتصاعد.
قبيل الفجر، سأله الزعيم: «أتنوي الموت؟».
لم يعرف «زَيْنٌ» مغزى سؤال الزعيم، فحدَّق في وجهه الممتعض دون إجابة. تابع الزعيم: «منذ الليلة التي ملأت فيها أمك صراخًا… حين ولدت. تلك الليلة أدركت أنَّك ستجلب الوبال على القرية. أنتَ شرٌّ لا بدَّ منه! لكني لن أسمح لكَ أن تضعضع السكينة التي بناها أجدادي طويلًا». تابع الفتى تحديقه بالزعيم الذي صمتَ لحظتين قبل أن يتابع: «أنا لا أهتمُّ بالموتى والأحياء. لستُ أهتمُّ بأمك التي أكلها أحد تلك الوحوش الجائلة ليلًا؛ هي كانت أيضًا وبالًا كبيرًا على القرية. لم تنصع يومًا لقوانين القرية ولم تخضع لأوامر أحد. دائمًا تخرج ليلًا زاعمة أن في السماء ثلاثة أقمار! أيُّ حماقة هذه! الجميع يعرف أنَّ ثمة قمرًا واحدًا… على الأقل هذا ما أخبرنا به أجدادنا! إنَّها كوكب مضيء كالشمس. ثمة شمس واحدةٌ وبالتالي ثمة قمر واحدة. إنَّها نفس السماء! حذَّرتها مرات كثيرة من نشر ذلك الكلام، لكنها لم تستمع، وحين صدَّقتها مجموعة من البائسات الحمقاوات انتهى بهن الأمر ميتات ممزقات إلى قطع صغيرة ومذروات في شوارع القرية. بالطبع أنتَ تتساءل لماذا لم تمت أمك معهن! السبب هو ذلك الرجل الغريب الأحمق الذي وفد علينا ذات مرَّةٍ دون أن ندري له أصلًا وعلق في شباك عينيها اللامعتين! أرادتْ أن تتزوجه لكني رفضت تزويجهما وطردتُه من القرية. ذلك الأحمق هو من أنقذها تلك الليلة، وفي اليوم التالي قطعتُ رأسه في هذا القبو! نعم! أنا من قطع رأسه بسيفه الذي ما فتئ يتمنطقه! الجميع ظنَّ أنَّه رحل، وأمك الحمقاء ظلَّتْ تنتظره رغم أنَّي عرضتُ أن أتزوجها أكثر من عشر مراتٍ! لو أنَّ أحدًا يعرف كم مرَّة طلبت من تلك الملعونة لأصبحتُ سخرية أهل القرية! ذهبتُ إليها قبيل الغروب وأخبرتُها أنّي قتلت ذلك الغريب وتركتها تنتحب وحدها في منزلها الرثّ، وحين جاء الصباح كانت الجروح تملأ جسدها. كجروحك هذه، جروح عميقة لكنها تزول مع الزمن… أو ربما هذا ما حدث معها فقط. أخذ وجهها يشحب، وجسدها يهزل، ودماؤها تنسكب منها من جروح لا نعرف مصدرها. أغرقت منزلها بالدماء. كانت تذهب إلى الحقل وتعمل والدماء تروي حقلها لكنها لا تشعر بشيء. فاضطررتُ إلى حبسها هنا، وكممتُ فمها اللعين، وقيدتُ جسدها الهزيل، وجعلتُ أجفف هذا القبو العطن من دمائها، حتى انتفخ بطنها فأتيتُ بالطبيب إلى هنا لنعرف قضيتها. كنتُ قد أصبحتُ متأكدًا أنها غدت شيطانة. ربما اقتات الشياطين من جسدها طويلًا حتى اكتسبتْ صفاتهم! من ذا يعرف حقيقة الأمر، فأجدادي لم يدوّنوا شيئًا عن ذلك!».
تمعَّن الزعيم في وجه الفتى الغاضب أمامه. كان وجهه أحمر، عيناه ملتهبتين، شفتاه مزمومتين؛ ولسبب ما شعر الزعيم بسعادة تغمر جسده كله، كتلك التي شعر بها حين رأى انهيار زمرد لمَّا أبلغها عن قتله ذلك الحشرة المزعجة التي ولدتها المستنقعات المجهولة! تابع كلامه: «لم أعد شابًّا فأستطيع أن أسجنكَ هنا كما فعلتُ مع أمِّك، ولن أستطيع أن أخدعكَ وأباغتكَ كما فعلتُ مع ذلك الرجل الذي أظنه أباك؛ لذا سأطلب منكَ أن تغادر قريتي دون رجعة. ارحل الآن قبل بزوغ الفجر لعل الشياطين تمزقكَ وأتخلص منكَ إلى الأبد!».
لم يتزحزح الفتى من مكانه، بل تمعَّن في ملامح الزعيم المنتشية دقائق قبل أن يقول: «أين هو سيف أبي؟» تلقى الزعيم السؤال باستغراب قبل أن ينفجر ضاحكًا، قائلًا: «جميلٌ منكَ أن تسميه أباكَ! نعم، لا بد أن الأولاد يعرفون آباءهم، والآباء يعرفون أبناءهم، أليس كذلك؟ أخيرًا حللنا قضية زمرد وعرفنا من هو الأب المجهول!». تأمَّل الزعيم ملامح الفتى الغاضبة الممتعضة، وتساءل لماذا لم يهبَّ ليقتلع عينه كما فعل مع مالك الطاحونة، أهي جروحه؟ لا بد أن هذا هو السبب! ربما عليَّ أن أذبحه هنا عوضًا عن دفعه إلى الخارج. سيظن الجميع في النهاية أن شيطانًا التهمه فلا أحد منا أعطاه أعشاب شراب الموت، واكتفينا بالدعاء أن يموت… دعاء! يا لحماقتي! أهي تلك التمتمات الغريبة التي ما فتئ الكاهن اللعين يرددها مدعيًا أنَّ الآلهة ستحققها لنا! أوهام! ليس ثمة من يسمع إلينا من وراء ستار ويحقق لنا توسلاتنا التي لو عرفنا أنها تتحقق لما خرجنا من بيوتنا إلى حقولنا.
نهض الزعيم وفتَّش في أحد صناديقه قبل أن يخرج سيفًا طويلًا غمده المنقوش كان شبيهًا بالفأس الذي كان يستريح تحت فخذه الأيمن، ثم استلَّه وتأمل بريقه تحت ضوء الشمعة المتذبذبة قبل أن ينظر إلى «زَيْنٍ» قائلًا: «هذا هو سيف الرجل الذي تسميه أباك! أتعلم؟ قبيل أن أقطع رأسكَ القبيح هذا يجب أن أخبركَ أنَّه أقسم قبيل أن أقتله أنَّه لم يمسَّ أمّكَ، لذا فهو ليس أباكَ! وهو لم يكن ليكذب، أتعلم لِمَ؟ كان يتفجر شرفًا وكرامة، ولذلك حظي بحب الجميع. لم يكن ليكذب مطلقًا! إنَّها حياة مستقيمة لأجل لا شيء! إننا هنا نجول ونصول في هذه الرقعة كي نفعل كل ما يحلو لنا ثم نموت. هذه فقط هي الحياة!». قبض الزعيم مقبض السيف بكلا كفيه ونزل به على عنق الفتى.
***
تأمَّل «زَيْنٌ» وجه الزعيم طويلًا قبيل الفجر، قبل أن ينحني إلى صرَّته ويحملها على كتفه ويغادر القرية حاملًا فأسه وسيفًا طويلًا، ومخلفًا وراءه رأس الزعيم وأطرافه الممزقة مذروة في ساحة القرية. لم يشعر بالسعادة حين أخذ يستمع إلى طقطقة عظام الزعيم وهو يقطعها. يمسك ذراعه ويطويها إلى الجهة المعاكسة حتى يسمع طقطقة انكسار العظم، ثم يسحب الفأس ويقطعها من مفصل المرفق. يطوي ركبتيه بالجهة المعاكسة بقوة حتى يسمع تلك الطقطقة المدغدغة ثم يمزقه اللحم المتصل بالفأس. يراقب تمزق اللحم، ويتحسس ليونته، ويتلمس قمم العظام الملساء.
لم يشعر بتلك النشوة التي شعر بها في المرتين التي قطع فيها الشيطانين. بحث عن تلك النشوة طويلًا، وأمعن في تقطيع مفاصل أصابع يديه دون أن يحصل على شيء. غرس السيف في أعلى صدر ذلك الشيخ القبيح النتن، وسحبه إلى أسفل حتى فتحه كله، ثم أمسك قفصه الصدري ورفعه لكنه لم يشعر بأيِّما نشوة، فتركه ورحل. لم يشعر بأسى أو ألم وهو يحدِّق في تلك الجثة الممزقة في ساحة القرية، بل أوشك أن يبصق عليه لاعنًا، لكنه تراجع وغادر. كان مؤمنًا أنَّ ذلك جزاء طبيعي لما فعله ذلك العجوز ليس بحق أمِّه والرجل الغريب، بل بحق حفيدته التي قتلت ولم يسأل عنها ولم يكترث.
شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…
أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…
عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج 30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…
إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج 5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…
بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج 12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…