رَجُلٌ عَادِي

رَجُلٌ عَادِي

هاجر منصور سراج 

25 يناير، 2025


رجل عادي، قصة تتحدث عن الأفكار التي نخزنها في رؤوسنا جراء قراءة الروايات، ومشاهدة الأفلام، ومتابعة مواقع التواصل؛ وما يعود علينا بسبب هياجها.

يفخر والدنا دائمًا أنَّه لا يملك أصدقاء من أترابه، بل كلهم يكبرونه بأكثر من عشرة أعوام. في طفولتنا، كنا نستطيب الجلوس معهم وزياراتهم، بل ونتلهف لرؤيتهم كثيرًا من الأحيان، لا سيما أنَّ معظمهم كانوا أجدادًا منبوذين من قبل أبنائهم وأحفادهم؛ فكان يحلو لهم دائمًا مداعبتنا بالهدايا الغالية، أو الأطعمة الشهية، أو الحلوى اللذيذة. وكنا لذلك قد طبعنا على استقبال ضيوف أبي والترحيب بهم. ولمَّا كان أبي رجلًا مقعدًا، وكانت أمي قد توفَّيت منذ دهر، فقد ربينا تربيةً مختلفةً همَّشت حيائنا من الرجال؛ فأصبحنا نخالطهم كأننا أقرانهم، بل إن معاشرتنا للشيوخ جعلت منا أكبر من أعمارنا نحن أيضًا، بيد أنَّ هذا اختلف بغتةً.

تعرَّف والدنا على رجلٍ في نحو الثانية والثلاثين، أي أنَّ بينه وبين والدنا عشرين عامًا! حدَّثنا والدنا عنه، وأخبرنا أنَّه طبيب، وقد يساعد أختنا الكبرى سليمى في دراستها؛ وأبلغنا أنَّه مجتهد، وقد تجد منه أسماء بعض النصائح في دروسها؛ وأعلمنا أنَّه مثقفٌ، وقد أستفيد منه في ثقافتي وكتاباتي! نظرنا إليه مندهشات، وسألته أختنا الكبرى عن سبب تغييره لنمط الأصدقاء. وكنا نعلم إذ ذاك أنَّ كثيرًا من أصدقائه الشيوخ قد توفوا؛ لكن ذلك لم يكن سببًا كافيًا للامتناع عن رفقة الشيوخ!

نظر إلينا والدنا طويلًا، ثم أخبرنا أنَّ ذلك الرجل الثلاثيني يملك تفكير شيخٍ مخضرم! تبادلنا نظرات شكاكة، بيد أنَّا لم نعلِّق. استقبلنا الضيف كما كان من دأبنا، فراقبنا خطواته المتأنية الخجولة ونظراته المترددة؛ بيد أنَّه سرعان ما نفض كل ذلك، وأخذ يمازحنا في ترقبنا كأنما يمازح تلميذات في الروضة! صحيح أننا قصيرات القامة، بيد أنَّ نضوجنا بيِّنٌ! ظلَّ يمازحنا، ثم حدَّث والدنا عن ترقبنا ومراقبتنا، وتقبَّل والدنا ذلك ضاحكًا!

طوال عمرنا كان والدنا يحذرنا من الشبان، وكان يرى زملاء الجامعة محض ذئاب شرسة مستترة في أجساد بشرية؛ ولذا ظلَّ يحثنا على رفقة شيوخه الذين أخذهم الموت زرافات على حين غرة منه. كان حضور هذا الرجل الثلاثيني يعني شيئًا واحدًا في رأسي: إنَّ والدنا عازمٌ على تزويج واحدةٍ منا، ولا يمكنه أن يضحي بأيٍّ منا لشيخ، لا سيما بعد أن أصبحنا نساءً ناضجات مستقلَّات. ولا بُدَّ أنه يظنُّ أنَّ رفقته الغريبة أوجدت لدينا عقدة لوليتا!

كلَّمتُ سليمى وأسماء عن ذلك، فتمعَّنتا في كلامي طويلًا، ثم تقبلتاه، بينا نستمع حديث الرجلين الدائر دون جهدٍ؛ إذ كانت الشقة صغيرةً، وكانا يقعدان في الصالة بينا نعمل في المطبخ. اعتملت الفكرة التي توصلتُ إليها في رؤوسنا؛ فسألنا والدنا، ما إن غادر الضيف، عن ذلك.

نظر إلينا والدنا مندهشًا، ثم قهقه ونفى الأمر. قال إنَّه لن يلجأ إلى تدبير زواجٍ مطلقًا؛ وهو يثق أننا لن نحب الشيوخ؛ لكنه وجد في الرجل ما يروقه، فحسب! تجهمنا، ومضيتُ أفكِّرُ وحدي في أسباب ذلك الرجل الغريب الذي تبدَّت ثقته لاحقًا؛ وتبدَّى معها غموضه، وثقافته، ورقيّه، لا سيما بعد أن انتقل إلى جوارنا وصارت زياراته يومية.

راقبته كل صباح أثناء جريه، راقبته يأخذ دراجته الهوائية ويذهب إلى المستشفى، راقبته يعطف على الناس، راقبته في كل شيء؛ وأدركتُ أنَّ ثمة شيئًا غريبًا فيه! كنتُ موقنةً أنَّ الشبان ذئاب بشرية، ولم أكن قادرةً على تغيير تلك النظرة؛ وساهمت الروايات التي كنتُ أقرأها، والأفلام والمسلسلات التي كنتُ أشاهدها في تدعيم نظريتي؛ إذ كان الرجل الغامض المثالي دائمًا ما يتكشف عن سيكوباتي مخيف، أو ربما رجلٍ يخفي قوَّةً خارقةً، أو ربما آكل لحوم بشر، أو ربما مشعوذ أو مهووس بالسحر، أو ربما يكون واحدًا من عبدة الشيطان، أو ربما يكون عميلًا سريًّا متخفيًا!

ظللتُ أتتبعه خفيةً، أتأمَّل عضلاته المشدودة المتصلبة، الهالات حول عينيه، الشعر المشعث؛ وأتنبأ بليلة في تجارة المخدرات، أو تجارة البشر، أو ملاحقة جماعةٍ من هؤلاء. وأراه يأتي نظيفًا، متأنقًا، لامع الأسنان والوجه؛ فأتنبأ بليلة مصاص دماء، أو ربما يكون قد ملأ حوض الاستحمام بالحليب ودماء الأطفال واغتسل فيه. وأراه يكلِّم امرأةً في الشارع، فأنتظر اللحظة التي تظهر فيها جثَّتها، أو تختفي هي ولا يسمع أحدٌ عنها خبرًا؛ فأظل أتتبعها وأتتبعه حتى تنقضي مدَّةٌ طويلةٌ ولا يحدث شيء.

لم يكن معقولًا أنَّه رجلٌ شريفٌ عفيفٌ، ولم يكن معقولًا أنَّه يغض بصره عن النساء، ولم يكن معقولًا أنَّه مثقَّف عازب، ولم يكن معقولًا أنَّه يزور عائلته بانتظام. كثيرٌ من الأشياء لم تكن معقولةً، وكنتُ أنتظر أن يتبدى خللٌ ما؛ لكني مهما بحثتُ، لا أجد سوى أنَّه رجلٌ عادي لا ذئب متخفٍ!

تحدَّث عن عائلته، ولم يخف شيئًا. تحدَّث عن دراسته، عن أصدقائه، عن علاقاته، عن خطيبته السابقة. وكان كل يومٍ يقرأ الجرائد، ويتصفح المواقع الإلكترونية، ويقرأ الكتب القديمة، ويتكلم عن كل شيء؛ إلا أنَّ مشاعره تظل بمعزلٍ عن كل هذا، كأنه لا يتأثر بشيء وإن كان يؤثر في نفسية والدنا ويجعله أكثر بهجةً مما كان عليه مذ دهر!

ربما يريد قتلنا، ربما يريد قتل واحدةٍ منا، ربما يريد قتلي، ربما يريد قتل والدنا! لكن عامين كاملين انقضيا ولم يتغير شيء؛ بل إن أختيّ أصبحتا أكثر قربًا منه، وأصبح لأسماء أخًا، ولسليمى محبوبًا. وكنتُ أراقب تلك الخطة اللعينة قيد التنفيذ، ولا أستطيع ردعه أو منعه، ولم يستمع أحدٌ إليَّ، ولم يصدق أحدٌ نظريتي؛ نظرية المؤامرة!

كبَّلني الفزع. وصرتُ أترقب تحطم قلب سليمى، وصرتُ أترقب خذلان أسماء، وصرتُ أترقب صدمة أبي؛ لكنَّه ظلَّ يزورنا يوميًا. وفي رمضان، يتعشى معنا كلَّ ليلة. وفي كل زيارةٍ، يحمل لنا الهدايا. ثم جاء اليوم المنشود وأعلن أبي خطبته سليمى؛ فتورَّد وجهها، وزغردت أسماء، وبكيتُ أنا منتظرةً جثتها، منتظرةً نزعه لقناعه وظهور الأنياب.

أخذت الكوابيس تحاصرني. وذات يومٍ خرجنا في نزهةٍ، وعدنا متأخرين بعد تعب أبي. كنتُ منهكة الفكر، مشغولة البال؛ فقررتُ أن أفكِّر بهدوء. طلبتُ منهم أن يصعدوا بالمصعد، وأخذتُ طريق العتبات المعتمة التي لا يكترث أحدٌ لإضاءتها.

استعنتُ بهاتفي لأضيء موطئ قدمي، وشردتُ؛ فنزلتُ في الطابق الذي ينزلُ فيه جارنا الثلاثيني. وحين تنبَّهتُ لخطأي، أردتُ أن أعود أدراجي، فتعثَّرتُ بالسجادة الخضراء التي يفرشها أمام شقته، فتحرَّكت كاشفةً عن مفتاح.

أمضيتُ لحظةً في تأمل اللون الأخضر مستذكرةً ألوان الأشرار الخضراء في مسلسلات الكرتون، وربما يكون... لا! جرَّبتُ المفتاح، فظهر أنَّه مفتاح شقَّته. وقبل أن أدفع الباب وأدخل، فكَّرتُ في أنني لا بُدَّ سأقف على حقيقته! سأرى الآن من هو! ربما أجد حجرةً مغلقةً مليئة بالعظام والجثث، أو ربما أجد معمل تجاربه مليئًا ببشر متحولين، أو ربما أجد جهازًا ما لتدمير العالم، أو لجعله خفيًا، أو لتسميم البشرية؛ أو ربما يضع نظريات جديدة، أو ربما يراسل الفضائيين، أو ربما يملك مخلوقًا سماويًا معه، أو ربما يستحضر الشياطين والعفاريت، أو ربما يبحث عن هيكل سليمان، أو ربما، أو ربما... أو ربما كثيرٌ من الأشياء توافدت إلى ذهني وأنهكتني؛ فدفعتُ الباب دفعةً قويَّةً، ومضيتُ على مصباح هاتفي باحثةً.

كانت الصالة مرتبةً مليئةً بأكوام الكتب المرصوفة في المكتبة، أو على طاولة، أو في كراتين، أو مبعثرة! وكانت غرفة النوم مرتبةً، وكانت الخزانةُ فارغةً إلا من بضع ملابس نظيفة؛ لكن خشبها كان قويًّا متينًا. وتخيَّلتُ أني لو دخلتها، سأجد نفسي في عالم نارانيا، وصدَّقتُ ذلك. وفكَّرتُ في أنَّه ربما ينتقل إلى عالمٍ آخر، ربما يعيش في زمنٍ مختلف، أو ربما يرى نفسه في أحلامٍ من عصر آخر. دلفتُ إلى الخزانة، بيد أنَّ شيئًا لم يحدث. انتظرتُ، وكررَّتُ المحاولة، لكن بقي جدار الخزانة يصدني ولا شيء وراءه.

خرجتُ خائفةً مذعورةً. ظللتُ أتفحص الطريق أمامي بحثًا عن مخالب أو بقايا شعر رمادي أو بني أو أيَّ لونٍ كان لون هذا المستذئب؛ لكني لم أجد شيئًا. كان المطبخ نظيفًا خاليًا من أيِّ رائحة للدم، وكانت الثلاجة خاليةً من العينات، وكان الحمام نظيفًا عبقًا برائحة الصابون، وكان كل شيء في مكانه، وكان ثمة حجرةٌ بعيدةٌ مضاءة؛ فأدركتُ أن فيها أسرار الكون كلِّه!

مضيتُ خائفةً مذعورةً، وفتحتُ الباب مترفقةً، ووقفتُ أنظر بعيني اليمنى منتظرةً رؤية هياج كائن ما، أو رؤيته يلتهم جثَّةً أو يمص دمًا، أو، أو، أو... لكني رأيته يشاهد مباراةً ويهتف! ظللتُ أراقبه صامتةً واجفة القلب، ثم أرسلتُ الطرف متفحصةً ما حوله، فلم أجد سوى أريكةٍ واسعةٍ ودولاب مزخرف، ولا شيء آخر غير الشاشة الكبيرة.

رنَّ هاتفه، وسمعته يكلِّم سليمى ويسأل عن حال أبي، ثم قرر أنَّه سيثب إليه حالًا؛ فهربتُ واختبأتُ في العتبات المظلمة حابسةً أنفاسي مستمعةً لوقع خطواته المنتظمة. تزوَّج أختي بعد مدَّة، وظللتُ كلَّ يومٍ أتفحص وجهها وعنقها وأتحجج كي تتخفف في ملابسها بحثًا عن كدمات أو خدوش؛ لكنها ظلَّت باسمةً مبتهجة. وفي كلِّ شجارٍ زوجي، ترقَّبتُ قتلًا وإجرامًا؛ لكن كل شيء ظلَّ يسير طبيعيًا. وحين مات في حادث سيرٍ طبيعي أيضًا، لبثتُ أسابيع موصولة غير مصدِّقةٍ أنَّه كان محض رجلٍ عاديٍّ وأنَّ عقلي مشبَّعٌ بالأفكار المغلوطة!

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@