سَقَم


(1)

تقذف الطفلة الصغيرة حِجارتها في الهواء وتلتقطها كما علَّمتها أمها، لكن لا أحد معها ليراقب أنَّها تغش مرارًا وتكرارًا، ثم تركض إلى أمها متضاحكة لتخبرها أنَّها فازت للمرة العاشرة. تبتسم أمُّها دون تعليق، فتركض عائدة إلى الفناء لتكمل جولاتها، لكنها تكتشف أنَّ الملل قد فتك بها. تجلس وتمد ساقيها محدِّقةً في صندلها الزهري اللامع صامتةً مستشعرةً ببهجةٍ خفيَّةٍ نظرات طفلةٍ مراقبة من مكانٍ ما.

تغوص في تفكير عميق لتزجية وقتها؛ فلعبة (اللُّقَيْطَة) أصابتها بالملل وأصابعها باتت تؤلمها، ولعبة (العُكَيْلَة) غير متوفرة بعد أن غسلت أمها الحوش، ولا بُدَّ أن تنتظر حتى يعود أخوتها الثلاثة من المدرسة ثم تتسلل بينا يصلون كي تسرق طباشيرهم. قامت إلى الداخل وأخذت تلعب بالبطائق (البَاصِرَة) مع الشبح الوهمي الذي ترسمه. عادةً ما تأمرها أمها أن تلعب مع الأرض، وتومئ هي بالموافقة لكنها لا تخبر أمها أن صاحبتها الخيالية تلعب معها، ولأنها عمياء يمكنها أن تخدعها مرارًا وتكرارًا، ويمكنها أن تعاونها في وضع البطائق فتفوز هي وتخسر صديقتها العمياء دائمًا.

رمت البطائق وأخذت تقفز مبتهجة بفوزها العاشر، لكنها توقَّفت حين سمعت صوتًا قريبًا: «مُخادِعة! هذه ليست لعبة!»

تصلَّبت أطرافها بينا جالت عيناها في الفناء بسرعة كبيرة. خفق قلبها بسرعة، ثم أدركت بعد دقيقة أنَّ جنيًا ما ينظر إليها من المنطقة المظلمة وراء الخزانات الحديدية، فأطلقت ساقيها للريح حتى اصطدمت بساقي أمها.

تقف أمها في المطبخ دائمًا، لا تذكر رؤيتها خارجه، ولا تذكر رؤيتها متأنقة أو باسمة؛ بل إن قميصها مهلهل، وشعرها دهني متدلٍ على جبهتها، معقوص أسفل رأسها ومتدلٍ حتى أسفل ظهرها، بليدًا خاليًا من الحياة، وعيناها دائمًا بنيتان ساكنتان لا يحركهما غضب أو فرح، وشفتاها مشققتان لا يشبهان شفتي جارتهم المتأنقة في شيء.

نظرتْ إليها أمها متعجبة، وسألتها عمَّا بها، فصاحت باكية: «أماه! هنالك جني في الحوش!».

رمشت أمها مستغربة، ثم جلست قبالتها: «كيف تقولين هذا؟ أولًا، لا تظهر الجن في النهار؛ ثانيًا، كيف عرفتِ أنَّه جني؟؛ ثالثًا، أنتِ في الخامسة، والعام المقبل ستكونين في المدرسة، فهل ستقولين هذه الخرافات؟».

صاحتْ: «لكنكِ تتكلمين عن الجن دائمًا».

زمَّت أمها شفتيها المتشققتين: «لأنني أمية لا أفهم. المتعلمون لا يؤمنون بهذه الأشياء».

لكنها كانت متأكدة أن الجن يحومون دائمًا حولها، وأنَّ أمها تدرك وجودهم أكثر من أبيها الذي يردد ما قالته أمها للتو. ابتعدتْ عن أمها صامتةً موافقة وفرَّتْ إلى ركنها القصي في الصالة حيث تنام؛ إذ أنَّ البيت الصغير لا يوفر لها غرفة، لكنها لا تفكر مطلقًا في أنَّها قد تملك غرفةً، فأخوتها الثلاثة ينامون في المجلس، ويرتبون ملابسهم في الدولاب في الرواق المظلم جوار باب الفناء. هي أبدًا لم تفكر في الأمر، لكنها تلك اللحظة فقط تمنَّت لو تملك شيئًا يخصها كي تختبئ فيه عن أعين الجن.

أمها تحوم في المطبخ، الحمائم تهدل خارجًا، الأطفال يلعبون في الشارع. أطفال في سنها بلا ريب؛ فالآخرون في المدارس. تنبَّهتْ مبتهجة لتلك الخاطرة، فركضتْ إلى الفناء مجددًا وتسللتْ نحو بابه لتنظر من الثقب الصغير إلى الأطفال يلعبون لعبةً غريبةً لا تعرفها. يلفون خيطًا حول شيء ما ثم يطلقونه فيدور، ويلعبون بكرتين متدليتين من خيط، يضعون الخيط فوق إحدى أصابعهم ثم يأخذون في طرق الكرتين طرقًا متواصلًا أشعرها بالملل، لكنها بللتْ شفتيها متلهفة لتجربة اللعبة. حرَّكت كفها إلى المزلاج متأهبة وهي لم تجرؤ من قبل على فتح الباب، ولاح وجه والدها أمام ناظريها فارتعدتْ أصابعها، لكن تلهفها كان أعظم من خوفها.

جمَّدها الصوت القادم من خلفها: «لا تخرجي».

كان صوت الجني نفسه، ففتحت الباب بسرعة ووجدت نفسها خارج البيت قبالة الأولاد، والباب خلفها قد صفع وانتهتْ حياتها! أدركتْ أنَّها لن تستطيع العودة دون أن تدرك أمها خروجها، وإذا حالفها الحظ قد تسمع أمها طرقها قبل أن يعود والدها وأخوتها، وإذا لم يحالفها الحظ قد يلتقط أحد الجيران خروجها ويشي بها وشاية تهلكها. تلفَّت حولها خائفةً قلقةً لكن بصرها وقع على الألعاب الملونة فتناستْ خوفها وركضتْ نحوهم: «ماذا تلعبون؟ ما اسم اللعبة؟»

حدَّق فيها الأولاد المتسخون مذهولين؛ إذ كان ثوبها زهريًا منفوشها كأنها خرجت في يوم العيد لا يومٍ عادي، ولم يجرؤ أحدٌ على التعليق على ذلك. أجاب الولد صاحب اللعبة: «يويو».

كرَّرت الاسم مبتسمة: «يويو».

وراقها الاسم كثيرًا، فلم يكن يشبه تلك الأسماء التي تمارسها كل يوم؛ إذ أنفقت دهرًا حتى استطاعت أن تنطق (عُكَّيْلَة) نطقًا صحيحًا دون أن يضحك عليها أخوتها. علَّمها الأولاد اللعبة مبتهجين برفيق جديد مختلف، وتعلَّمت كل شيء بسرعة، وبعد ساعة كانت تلعب أفضل منهم. وقبل نصف ساعة من انتهاء الدوام المدرسي، استطاعت أن تسمع صوت أمها يناديها، وأدركتْ أنَّ صوتها واضح فلا بدَّ أنَّها في الفناء!

شحب وجهها، وأخبرت الأولاد أنَّها تريد العودة دون أن تعرف أمها. تعاطف الأولاد معها وبسرعة تسلق أحدهم الباب وقفز إلى الداخل وفتح لها. نظرتْ إليه مبهورةً، وشكرته ثم ركضتْ إلى الداخل واختبأتْ خلف الخزانات الحديدية. جُل ما أرادته أن تضلل أمها وتدعي أنَّها كانتْ مختبئة طوال الوقت، وفي تلك اللحظات نسيت الجني وكل شيء عنه، حتى سمعتْ صوته قريبًا جدًا: «لا يصلح أن تلعبي مع الأولاد».

شهقتْ وتوقَّف قلبها، لكن عينيها ارتفعتا إلى المكان الذي صدر منه الصوت فرأت ولدًا بعينين واسعين جدًا وراء شباك نافذة. كان ولدًا… لم يكن جنيًا! لكنها صرخت صرخة كبيرة وركضت نحو أمها صارخة: «جني! جني! جني! جني! جني!».

ولم تفلح أمها في تهدئتها، لكن خوفها من أخوتها وأبيها أفلح، فصمتتْ ولم تذكر سيرة الجني أو سيرة أولاد الشارع. وفي العصرية حين كان والدها جالسًا في الفناء يمسح أوراق القات، استطاعتْ أن تجمع شتات نفسها وتفكر بهدوء.

كان الولد يطلُّ من نافذة إحدى غرف البيت، لكنها لا تعرف نافذة كتلك، ونوافذ البيت منخفضة بينا كانتْ تلك النافذة مرتفعة. كان الولد يكبرها بعامين أو ثلاثة، فلماذا ليس في المدرسة؟ أهو حقًّا إنسان؟ ربما هو جني حقًا؟ ربما أولاد الجني لا يذهبون إلى المدارس.

قررت التحقق من الأمر، فقامتْ وتمشَّتْ في البيت تحدِّق في كل نافذة متمعنة، حتى وجدتْ نفسها في الديوان دون أن تدري. صاح أخوتها: ما الذي جاء بكِ؟

شهقتْ فزعة، وهمَّت بالخروج لكن بصرها وقع على الطباشير فتوقَّفتْ ونظرتْ إليهم باسمة. سخروا منها، لكنها ظلَّتْ تبتسم، ثم قررتْ أن تستدرجهم بالحديث وتشتت انتباههم حتى يتسنى لها سرقة طبشورين. جلستْ قبالة الأخ الأصغر: «أتعلم ماذا رأيت اليوم؟».

حذَّرها الأخ الأوسط: «أخفضي صوتك قبل أن يسمعك أبي ويأتي».

سحبت نفسًا عميقًا، ثم همستْ: «رأيت جنيًّا».

لم يعلقوا، لكنهم رفعوا رؤوسهم عن دفاترهم وكتبهم ونظروا إليها صامتين، فهمستْ: «ألا تصدقون أنتم أيضًا؟ هل تظنون أنها غير موجودة لأنكم متعلمون؟».

أجاب الأخ الأكبر: «الجن موجودون. لقد ذُكِروا في القرآن. أبي فقط يريد أن يسكت أمنا لأنها لا تنفك تبخر البيت وتكتم أنفاسنا».

علَّق الأخ الأوسط: «لقد انتزع أبونا هذا البيت من أخيه، ولا أستغرب إن ظهر جن أو_».

صمت حين أن زجره الأخ الأكبر فعرفتْ أنها وصلتْ إلى المحظورات، فشهقتْ: «أقسم، أقسم أني رأيته. كان وجهه دائريًا مليئًا بالندوب، وعيناه واسعان جدًا، وشفتاه… كان يبدو بلا شفتين. كان فمه ثقبًا أسود».

أدركتْ أنَّ كذبتها لن تنطلي عليهم، فسحبتْ طبشورين وفرَّت راكضة إلى الفناء. وقفتْ أمام أبيها مترددة، فأشار إليها أن تقترب بينا يصوِّب بصره إزاء إحدى نوافذ الجيران، ثم سألها عمَّا تريده، فأخبرته أنها تريد أن تلعب (العُكَّيْلَة). كان يسمح لها عادة باللعب، لكنَّه أدار بصره في البيوت حوله، ثم رفض، فدخلتْ وانزوتْ في ركنها في الصالة، وسقطت نائمة.

شعرتْ بيد توقظها في المساء لكنها كانتْ مستغرقة في حلم جميل، فلم تستجب، ثم سمعتْ صوت أخيها الأكبر يتشفع لها أن يتركها أبوها نائمةً، فشكرته في حلمها ثم استغرقتْ في لعب اليويو الملون، وأثناء دورانه كان رذاذ ذهبي يتقافز ويحط على وجه الولد المطل من النافذة المحجوبة بالقضبان وشبكة خشنة.

استيقظتْ ليلًا دون سبب، أو هكذا ظنَّت أوَّل الأمر، لكنها أدركتْ، وهي ترمش مرة تلو الأخرى، أنَّ صوتًا مزعجًا أيقظها. صوت بكاء وصراخ! انقبض قلبها، لكنها لم تجرؤ على الجلوس، فاستمعتْ صامتةً حابسةً أنفاسها حتى لا يدرك والدها استيقاظها. ظنَّت أوَّل الأمر أنَّ والدها يضرب أمها، وأنَّ أمها تبكي، لكنها تبيَّنت أنَّ أمها من كانت تصرخ، وشخصٌ آخر كان يبكي.

ابتلعت ريقها وأزاحتْ اللحاف عن رأسها كي يتسنى لها الاستماع إلى ما يدور جيِّدًا، فتناهت الأصوات إلى أذنيها جيِّدًا.

– «والله يا خالتي، والله أنا لم أكلمها».

– «يا كلب، يا حيوان! قلتُ لك لا أريد أن أسمع لك صوتًا، لا أريدك حيًّا! لا أريدك! والله، إن لم تسكت، لأقتلنكَ!».

جاء صوت أبوها هذه المرة: «اهدئي يا امرأة! إذا قتلته دخلتِ السجن وانتهى أمركِ».

صاحت الأم: «اصمت أنت، يا كلب!».

وكانت تلك المرة الأولى التي تسمع فيها صوت الأم موبخًا صارخًا والأب صامتًا. ظلَّتْ تستمع حتى انتهى كل شيء وعمَّ الصمت، ففتحت فمها لتتنفس لكن شهقة واضحة ندت عنها قبل أن تتمكن من إطباق كفيها على فمها، ثم لمَّا استطاعت أن تنظم أنفاسها أخيرًا، أدركت أنَّ والديها يعيشان حياة أخرى في الليل. ارتعبتْ ولم تستطع أن تنم مجددًا، ولم تستطع أن تفكر في شيء.

راقبتْ ظلمة الليل تحوم حولها باردة واخزة، ومن أحشائها تقفز إبر خفية مخيفة، لكنها تدرك أنها تستهدف عينيها، فتطبق جفنيها، وتشد اللحاف على رأسها، وتدس كل أطرافها بينا كائنات الليل المخيفة تزحف حولها وتصرصر. أسفل اللحاف، استطاعت أن ترى أنفاسها تغادر فمها بيضاء شفافة وتتكور بين كفيها الممتلئتين، ثم تتلاشى. راقبتها بضع لحظات ثم غفتْ دون تدرك.

في الصباح، راقبت أخوتها المتجهمين يغادرون البيت صامتين، والأب غاضب عابس كعادته، والأم مرهقة مهلهلة كالعادة. كل شيء كعادته ما عداها. مشت خلف أمها حتى المطبخ لتساعدها، وبينا كانت تناولها الأطباق، قالت الأم: «لا تخرجي اليوم إلى الحوش!».

لم تعترض: «حاضر».

فالتفتتْ إليها الأم مستغربة، لكنها أشاحتْ عنها وانصرفتْ إلى ركنها القصي البعيد. تعجَّبت الأم من صمت البنت وتسرَّب إليها خوفٌ من عبوسها، فنادتها وأمرتها أن تكنس البيت. كانت الأم تعلم كل العلم أن ابنتها واسعة الخيال كثيرة التفكير، ويخيفها دائمًا أن تطلع على ما يحوم في رأسها، فكانت تتركها تلعب ساعات طوال، أو تكلِّفها بالأعمال، لكنها أبدًا لم تكلِّمها أو تسألها.

أومأت الطفلة طائعةً صامتةً، وحملت المكنسة متجهة إلى الديوان. رتَّبت الوسائد، ونفضت الستائر، ثم أخذت تكنس صامتةً ولا يدور في عقلها سوى خوف متمدد الأطراف. أكملتْ تنظيف الديوان، ثم أغلقت الباب خلفها وكنست الصالة الصغيرة قبالته، ونظرت إلى الدولاب المستقر على الجدار المقابل لباب البيت الأمامي، واقتربت لتنظر إلى وجهها في مرآته. تأملتْ في شحوبها وشفتيها المتشققتين، ثم في فستانها الأخضر المنفوش. كانت كل فساتينها منفوشة، ولا تدري لماذا؟! لكنها تعلم أنَّها باتت تكرهها في زمنٍ ما، وإن كانت لا تذكر متى.

مسحت المرآه من الغبار وتحركت تكنس قرب الدولاب. وبينا هي مستغرقة في ترتيب الأحذية، سمعت أنينًا خافتًا… أنينًا لا يكاد يسمع، فارتعدت فرائسها، لكنها كانت مدركة تلك اللحظة أنَّه ليس جنيًّا، بل شخصًا ينادي أمها بخالتي.

اقتربتْ وقرَّبت أذنها حتى تبيَّنت أن وراء الدولاب باب، ودون تفكير طويل أدركتْ أنَّ تلك النافذة هي نافذة الغرفة المخفية. جلستْ عاجزةً عن إكمال الكنس، ويبدو أن الأم شعرتْ بذلك فذهبت لتراها جالسةً بين الأحذية شاردة شاحبةً.

سألتها عمَّا بها، فرفعت البنت نظرها قائلةً: «أماه… أريد أن أعترف. أنا خرجتُ أمس من البيت، ولعبتُ مع الأولاد».

تجهَّمت الأم: «لعبتِ مع أولاد الشارع؟».

أجابتْ: «نعم، وخفتُ أن توبخيني فقلتُ لكِ أنني رأيتُ جنيًّا حتى لا تنتبهي لخروجي».

ضيَّقت الأم عينيها شاكَّةً، فقالت البنت: «لعبتُ معهم اليويو والقعقيعة، وأخبروني عن الكرتون. لماذا لا نملك تلفازًا يا أماه؟».

صدَّقت الأم البنت، فلم تكن هذه الأخيرة تعرف أسماء تلك الألعاب، ولا تعرف شيئًا عن التلفاز، ولم يكن أخوتها ليتكلموا أمامها عن أشياء كهذه. تبدد شكَّها، لكنها استنطقتها: «وماذا كنتِ تفعلين وراء الخزانات؟».

أجابت شابكةً أصابعها: «كنتُ أختبئ منكِ. لقد تسلَّق ولد باب الحوش وفتح لي، ولولاه لبقيتُ في الشارع حتى يعود أبي».

عبست الأم، واقتربتْ منها بملامح العقاب التي تحفظها جيِّدًا، فمدَّت أذنها اليمنى صامتةً، وبعد أن انتهت الأم من قرصها وتوبيخها، تسرَّبت السكينة إليها، فوقفتْ وتابعتْ التنظيف صامتةً باسمةً.

(2)

مضى أسبوع العقاب، وأصبحتْ حرَّةً للعب في الفناء. رسمتْ بالطبشور الأزرق مستطيلًا كبيرًا، ثم رسمت المربعات الداخلية بطبشور أصفر. رمت حجرها، وقبل أن تبدأ بالقفز، جاء الصوت: «رسمتِ مربعات أكثر من المفروضة».

التفتتْ نحوه، واستطاعتْ أن تراه في الظل واضحًا. عينان واسعتان كونًا كاملًا مكتفيًا بنفسه! ابتسمتْ ولم تعلِّق؛ إذ كانتْ تهذِّب أنفاسها المضطربة، وفشلت في ذلك فشلًا ذريعًا فسقطت وخسرت اللعبة بعد مربعين. ضحك الولد ضحكة خافتة، فنظرت إليه جالسةً على المربعات الصفراء. صمت واكتفيا بالتحديق حتَّى تكلَّمت أخيرًا: «من أنتَ؟».

مطَّ شفتيه: «لماذا لا تسألين أمكِ؟».

ردَّت مستاءة: «كي تضربني؟».

علَّق: «لا أظنها تضربكِ. أنتِ لا تعرفين شيئًا عن الضرب. هي لم تعاقبكِ منذ مدَّةٍ طويلةٍ، رغم أنَّكِ تقترفين الكثيرَ من الأخطاء. هي لا تعلم شيئًا عنكِ، لذلك لا تضربكِ».

سألتْ مترددة خائفة: «أتضربك؟».

لم يرد، أنفق دقائق طويلة في التحديق في فستانها الأصفر المنفوش، ثم أجاب أخيرًا: «تقتلني».

أرادتْ أن تسأل لماذا لكنها لم تجرؤ. قالتْ عوضًا عن ذلك: «العب معي».

رفع حاجبيه الكثيفين فتنبَّهت تلك اللحظة إلى أنَّه أصلع: «وكيف ألعب معكِ وأنا محبوس؟».

تفكَّرتْ لحظةً، ثم قالتْ: «ألا تملك لعبة غير القفز؟»

قال: «أنا لا أعرف شيئًا… أنا هنا مذ عامين… وأنتِ حمقاء صغيرة تغشين على كل صديقاتك الخياليات».

دُهشتْ كيف عرف شيئًا يدور في رأسها، لكنها لم تسأل، وتنبَّهت إلى أنَّه من كان يراقبها وليس ابنة الجيران. سألته مترددة: «أأنتَ جني؟».

ضحك، ثم أطبق كفيه على فمه وشتت بصره مرعوبًا حوله، وحين اطمأن إلى انشغال أمها، أجاب: «لا… في الحقيقة… أنا أخوكِ».

استغرقها الأمر دقائق حتى استوعبتْ ما قاله: «أنتَ أخي؟».

قالتْ ذلك خائفة مرعوبةً وصوت أمها المتذمر من الذباب يبدو تهديدًا قاتلًا، رأته كالحلم المتلاشي يومئ بالإيجاب، لكنها لم تدر أحقًّا ما قاله أم حلمًا إذ لم تر بعد ذلك سوى ظلمة.

رأت شيئًا بعيدًا مظلمًا، صورةً لعجوز صارخة في بيتهم ممسكة بيد طفلٍ بعينين واسعين وثقب أسود يبدو فمًا، وشعرًا طويلًا متعرجًا حتى كتفيه. العجوز تصرخ، الأم تصرخ، الأب يصرخ، الأخوة واقفون صامتين، الأخ الأكبر يضمها بينا تبكي وترتعد. العجوز تندفع وتمزق فستانها المنفوش وتلعنها، وتلعن أباها، وتلعن أجدادها كلهم.

امتلأ فمها بشيء مقزز مريع، فاعتدلت جالسة وقذفته خارجًا، وأخذها سعال مريع شعرت بروحها تنسحب من بين أصابعها وتسقط على قيئها.

(3)

رأتْ وجه أبيها قريبًا يكاد يفتح فمه ويلتهمها، ربما يمضغها كما يمضغ أوراق القات ويحشرها في جانب الأيسر. ارتعدتْ، وابتعدتْ عنه مذعورة، فوقع بصرها على أمها في خمارها لا يظهر منها سوى لمعة عينيها. رأتها تقوم وتزحف حولها كالكائنات الليلية، وتحبسها في جوفها، تعيدها إلى بطنها كما كانت تهددها دائمًا. صاحت، وصاحت، وصاحت؛ لكنهم ظلوا يحومون حولها ويهددون بابتلاعها وضربها.

يد أخيها الأكبر على جبينها، وصوته بالقرآن يدغدغ دماغها ويذكرها بسرقاتها المتكررة لطباشيره. هي متأكدة أنه يعلم، لكنه أبدًا لم يوبخها! لماذا لا يوبخها رغم أنه يهددها دائمًا بالعقاب إن سرقت؟ لماذا؟ هي تستحق العقاب!

فتحت عينيها، وقالت: «أنا أسرق طباشيرك».

نظر إليها ذاهلًا، ولم تعلم لِمَ، لكنه ابتسم، وتناهت إليها ضحكات أخويها. علَّق الأخ الأصغر: «اسألها عن كل ذنوبها الآن وستجيبك بكل صراحة».

لكنهم لم يسألوها عن شيء بل حدَّثوها أنَّها كانت مريضةً تتقيأ، وتصرخ، وتبكي، وأنَّ والديها أخذاها إلى المستشفى لكنها ظلت تصرخ وتبكي حين تراهما حتى قررا أن يعيداها إلى البيت ويحتجبا. صمتت وأسلمت نفسها للنوم، لكنها في اليوم التالي تسللت إلى الفناء ورمتْ حصًى إلى نافذة… أخيها.

استغرق الأمر حصيات أخرى قبل أن يبزغ وجهه متورمًا مشوهًا، فأدركتْ أن أمها بثَّت غضبها وحسرتها في وجهه. لم تنطق، ولبث هو ينظر صامتًا. فغرت فمها لتنطق، لكن كرةً سوداء متدحرجة نحوها ألجمتها، فجعلتْ تنظر إليها مذهولة حتى اصطدمتْ بقدمها. رفعتْ وجهها إلى أخيها وهمَّتْ بسؤاله، لكنه رمى إليها كرة أخرى، ثم أخرى، ثم أخرى حتى أحصتْ عشرًا.

تكلَّم: «صنعتها لكِ… هل شفيتِ؟».

أومأتْ، ثم همَّتْ بشكره لكنها لم تستطع، وتخيَّلت أمها تضربه فكبَّل الألم صدرها، قالت: «أنا آسفة! أنا آسفة! ثم أجهشت بالبكاء».

سألها مترفقًا: «لِــمَ تبكين؟! ولأي شيء تعتذرين؟».

أجابت: «أمي… أنا أعتذر إليك بسبب أمي، وبسببي. لو لم أمرض… لو لم أمرض…».

ثم عادتْ تحارب شهقاتها. خفف عنها قائلًا: «هي تضربني كل ليلة، ولا حاجة لاتخاذك عذرًا.

لكن ذلك لم يزدها إلا بكاءً. نبهها: «ستسمعكِ تبكين وتزيد عقابي». فصمتت.

جمعت الكرات السوداء الخشنة في حضنها وأدركت أنَّه صنعها من شباك النافذة. تنبَّهت، فسألته: «أتيت إلى هنا قبل عامين؟».

أومأ، فقالت: «حدِّثني عنكَ».

أحجم أوَّل الأمر، لكنه تكلم بعد إلحاف واسترسل حتى أدركت أنَّه كان ينتظر أن يتكلم. قال: «تزوج والدك والدتي وأنجباني. طبعًا تزوجا بموافقة خالي؛ لأن والدك رجل محترم وله شأنه، لكن أمك لم تعلم. لم يكن والدك يزورنا إلا لمامًا، ولم أشعر به أبًا مطلقًا لذلك لا أستطيع أن أقول عنه أبي أو والدي. كان خالي والدًا أكثر منه. حين أتفكر في الأمر لا أدري لأي شيء تزوَّجت أمي ومكثت في بيت أبيها! عمومًا، توفيت أمي حين كنتُ في السادسة… كانت مريضة بالسرطان، وكانت أكثر نحولًا وتهلهلًا من أمك، وكنتُ أتوقَّع موتها كل ليلة. بعد موتها لم يزرنا والدك ولم يرسل مالًا، وصرَّح خالي أنَّه ليس بحاجة إلى ماله لرعايتي، لكن زوجته كان لها رأي مختلف. يظن الكبار دائمًا أننا لا نفهم ما يجري حولنا، لذلك يسترسلون في وصف أحقادهم وكراهيتهم، بل ويصرحون بها في أفعالهم، هم لا يدخرون جهدًا في دفعنا، وشتمنا، والتعريض بنا. كنتُ أظنُّ زوجة خالي امرأة شريرة؛ لأنها دفعت خالي آخر الأمر إلى السفر… أو لنقل إن ذلك ما كانت جدتي تردده، لأن خالي كان يردد فكرة السفر مذ ولادتي!

سافر، ولم تستطع جدتي رعايتي، وحين كنتُ في الثامنة جاءت بي إلى هنا، لكن أباك أنكر كل صلة له بي، بل ادعى أن جدتي ترمي بلاء ابنته عليه! أتصدقين؟ يومها صاحت جدتي وضربتك ولعنتك، أتذكرين؟ ورغم هذا لم يرضخ والدك ولم يعترف.

ذهبت جدتي إلى مركز الشرطة وكلَّمت ضابطًا تعرفه وتدبَّروا الأمر. أتذكرين مجيء العسكر إلى هذا البيت؟ لا، بالطبع لا تذكرين، فقد جاءوا وأنتِ نائمة في الصالة في فستان أبيض. أتخلعين فساتينك المنفوشة أم تنامين بها؟

عمومًا، كانت شهادة الميلاد وعقد الزواج أكثر من إثبات؛ فأخذني والدك وتعهد برعايتي أمام الجميع فغادرت جدتي مرتاحة البال وهي تظن أنَّ مقامي مع رجل أفضل من مقامي مع عجوز مريضة خرفة، لكنها لم تسألني مطلقًا عن رأيي، ولو سألتني لأخبرتها أني أفضل البقاء معها، ووعدتُ أن أرعاها… لكنها لم تسألني!

غادر العسكر مطمئنين باسمين؛ فلا أحد فكَّر أن أبًا صالحًا كأبيك المعروف في الحي يمكن أن يسيء معاملة ابنه لاسيما ابن جميل الشكل. أتصدقين؟ كنتُ جميلًا حين أتيت، ثم حطَّمت أمُّك أسناني، وحلقت شعري، وأحرقتني في أماكن عدة… ولم يمنعها أبوك… أبي! أتصدقين؟ هو حتى لا يعرف اسمي، فأنا لم أسمعه ينطق به أبدًا، وتلك المرأة… أقصد أمك، تناديني بالحثالة ابن الكلبة، رغم أنها لا تعرف أمي!

أمك لا تحتاج عذرًا لضربي. أمك ترهق نفسها في البيت كي تنسى إهانات والدك المتكررة بشأن أميتها، ثم حين يخلد الجميع إلى النوم تتسلل إلي وتشرع في ضربي وتغادر باسمة، وأنا لم أصرخ سوى مراتٍ قليلة، فصراخي يأجج جنونها… وأبوك… لا يعترض مطلقًا إلا على موتي؛ إذ يخشى أن يساق إلى السجن».

(4)

حملت الطفلة الكرات الحديدة السوداء ودفنتها أسفل وسادتها. وحين يطبق الليل على الكون، تضيء الكرات أسفل اللحاف وتتطاير نجومًا مشعة تؤنس وحدتها وتضيء عتمتها. خبأتها في أحد فساتينها المنفوشة القديمة، وهددت أمها أن تمس ملابسها، وتحججت أنها بنتٌ كبيرة وستغسل فساتينها بنفسها رغم أنَّ ذلك أجهدها كثيرًا.

ابتسمت الأم ومدحتها، لكنها لم تبادلها البسمة، بل حدَّقت في وجهها خائفةً مرتابة، وجعلت تتخيلها قاسية تحلق رأس أخيها، وتضرب رأسه في الجدار حتى تسقط أسنانه، وتحرقه في ساقه، وذراعه، ووجهه؛ وتخيَّلته صارخًا باكيًا وحيدًا لا شيء يؤنس ليله. أشاحت عن أمها وهرولت متحججة بلعب (الباصرة) مع الأرض، فابتسمت الأم صامتة.

أخبرها الأخ أنَّه محبوس في حمام مفروش ببساط بسيط، فلم تستطع التصديق. قال: «لماذا لا تتسلقين الخزان وتنظرين بنفسك؟». تمعَّنت قليلًا في الفكرة، ثم وضعت كفيها على الخزان تتحسس حرارته واطمأنت إذ لم تكن الشمس قد أحرقته. تسلَّقت حتى اعتلته ثم نظرت من النافذة فألفت الأخ واقفًا في منتصف المكان عاريًا إلا من سروال قصير، وحوله… كان حمَّامًا فعلًا!

بكت، ولم تستطع تخيل البرد الذي يشكوه ليلًا، ولم تستطع تخيل الجوع، ولم… تساءلت تلك اللحظة فقط من أين يحصل على طعامه. سألته: «أيحضرون لك الطعام؟».

هز رأسه نافيًا، فسألته: «فمن أين تأكل إذن؟».

صمت دقائق طويلة، لكنها لم تقاطع صمته حتى تكلَّم أخيرًا: «تطعمني العصافير».

تفكَّرت في إجابته، ولم تدر أيكذب أم يقول الحقيقة؛ إذ أن كل شيء يقوله معلَّقٌ لا يصعد السماء ولا يهبط الأرض! قالت: «وكيف تدخل العصافير من الشباك؟».

أجاب: «تصغر وتصغر حتى تصبح بحجم دودة، ثم تنسل من بين الشقوق».

تفكَّرت، ثم سألت: «يطعمك الله إذن؟».

لم يرد. اشرأبت مجددًا تنظر إلى الحمام المفروش ببساط رقيق قديم وتساءلت لماذا تقسو أمها وهي لا تعرف أي قسوة؟ إنها تتلقى القسوة من أبيها صامتة ولا تقول شيئًا؛ أتنتقم منه؟

سألته: «أستنتقم مني بسبب أمي؟».

صمت طويلًا مجددًا، واستطاعت أن ترى فمه يوارب ثم يتسع ثقبًا أسود واسعًا ويتسع حتى يملأ الحمام، ثم يبتلع النافذة ويملأ السماء وينطبق عليها.

(5)

أمها تبكي جوارها، وأبوها صامت لا يحرك ساكنًا. خده منتفخ واللون الأخضر يلون أسنانه وطرف شفتيه. أخوتها الثلاثة يقفون وراءهما، لكنهم لا ينطقون، ولا يتحركون. تحلق خلفهم كرات سوداء مضيئة، لكنها لا تدرك أكانت تضيء وجههم أم تزيد ظلمتها.

رأت الأخ المنبوذ ممدد وأمها تثبته بالإبر على الجدار، وهو يبتسم بفمه الأسود الفارغ من الأسنان، ولا يفلح شيء في منعها عن وخزها، ولا يفلح شيء في منعه من الابتسام. تصرخ تمنع أمها، تصرخ تأمره أن يغلق فمه الكريه، لكنه يبتسم ثم يضحك، فتطبق الظلمة على الكون كله.

والدها يخزن في الفناء دائمًا كي يتسنى له رؤية الجارات. رأت الجارة المطلقة واقفةً على النافذة. شعرها الأسود مسرَّح بطريقة مبهرة، خصلتان لامعتان ينحدران على وجهها حتى فكها. يتأرجح قرطان ذهبيان لامعان، وتعكس الشمس أضواءها فيتموج قوس قزح في السماء. شفتاها لامعتان مطليتان بالأحمر. عنقها ناعم لا تجاعيد فيه، ولا تظهر عليه العظام. كل شيء جميل، والأب ينظر ويمعن النظر. رأته يمنعها من لعب (العُكَّيلَة) ويمعن النظر، فقذفته بالطبشور: «يا كلب!».

وأدركت من نظرته المفزوعة المدهوشة أنَّ أمها لم تنعته بالكلب مطلقًا. أكان حلمًا إذن؟!

أمُّها تبكي في الحجرة وحدها. يمد الليل أطرافه المظلمة فوق جسدها ويحتضنها. يهدهدها، يواسيها، يطمئنها، لكنها تبكي وتبكي. يصرخ الأب، ينعتها بالأمية الجاهلة، يناديها بالمرأة، يشتمها ويشتم أهلها كلهم، لكنها لا تعترض، ولا تقاوم، ولا تجابه، ولا تشتكي. وقفت أمامها، وصاحت: «اللعنة عليكِ! تبكين، تولولين، تلطمين! لماذا لا تضربينه؟ في كل مرَّةٍ يشتمك، اشتميه، اضربيه، اقتليه، اقتلعي عينيه».

تشد الأم أذنها وتنهرها، لكنها تتابع كلامها. تقول الأم: «أنتِ صغيرةٌ قاسية! هذا أبوكِ!». تصرخ وتعترض، لكن الأم تتابع شد أذنها ونهرها، ويدوم التوبيخ زمنًا طويلًا. تنام، تستيقظ، تعمل، تلعب؛ وأمها متربعة على كتفيها تشد كلا أذنيها وتوبخها همسًا في أذنها حتى لا يسمع الأب فتثور ثائرته.

الأخوة صامتون، هم لم يتكلموا، ولن يتكلموا مهما ثرثرت؛ وإذا تكلموا أمروها أن تصمت، أو تهمس، أو تنصرف؛ فتبتسم وتسرق أقلامهم، ودفاترهم، وطباشيرهم؛ وتحرقها في الفناء حين يكونون في المدرسة، وتكون الأم في المطبخ، وتتابع الحمائم هديلها.

الجميع يعرف أنَّها تسرق الطباشير كي تلعب، لكنها ترسم وراء الخزانات وجوه صديقاتها الخياليات وتنتظر أن تزورها إحداهن، لكنها حين تفيق تخاف من وجوههن وتكد كي تمحوها، وفي الليل يزحفن حولها في العتم ويغنين بعيونهن العمياء وأفواههن الكبيرة المعتمة.

حَلُمَتْ أنَّها تحمل عشر كرات مضيئة، فشدَّت شباك الحمام المغلق وصنعت منها كرات سوداء خشنة وحملتها معها، وانتظرت أن تضيء، لكنها كانت تعتم دائمًا وتخدش وجهها، ولم يعلم أحدٌ سبب خدوشها، لكنها كانت تدرك أنَّ أخاها المنبوذ يعضها ويلتهمها في فمه المعتم الكبير.

(6)

يخبرها الأخ الأكبر أنها وقعت من على الخزان وكسرت يدها، فتخبره أنَّها تكلِّم أخاهم المحبوس في الحمام. يحدق فيها صامتًا، ويكرر الأخ الأصغر: «سَلْها عن آثامها».

يتلو الأخ الأكبر القرآن، فتخبره أنَّ أخاهم وحيد مسكين، لكن الأخ الأوسط يأمرها أن تهمس أو تصمت، فتصمت. يقول الأخ الأكبر إن لا أخ لديها غيرهم، فتحدِّق فيه ولا تنطق. تريد أن تسأله عن الحمام المغلق وراء الدولاب، لكن لسانها ثقيل وعيناها مظلمتان.

يقول الأخ الأوسط إنَّ عمهم مات وكان ثمة ابن وكان البيت مسجلًا باسمه، لكن والدهم سرقه. يقول الأخ الأكبر: «أكل مال اليتامى». ثم يتابع تلاوة القرآن. يقول الأخ الأصغر إنَّها سخرت من الولد منه لأنه كان قبيحًا وكفيفًا، فتنظر إليه ولسانها يذوب في فمها فتبتلعه. وقبل أن تغفو، يخبرها الأخ الأصغر أن الولد عاش معهم أسبوعًا ثم صعقته الكهرباء المفتوحة في الحمام فمات. يقول الأخ الأكبر إنَّ عليها أن تتعافى من سقمها كي تذهب إلى المدرسة، ويقول الأخ الأصغر إنَّها تحب أن تتطهر من آثامها، ويقول الأخ إنَّ الذكريات المغلوطة أسقمتها؛ فتنظر إلى الأم المهلهلة وتبتسم.

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

شعر الغزل في العصر الأموي

شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…

3 weeks ago

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…

3 weeks ago

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج  30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…

4 weeks ago

إَلِى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى

إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج  5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…

1 month ago

بين ألسنة الليل

بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج  12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…

1 month ago

نُوح

نُوح في الحلم، كان اسمه نوحًا، وكان يعرج، وكان يحمل الماء إلى أهله. السماء داكنةٌ…

1 month ago