شعر الزهد في العصر العباسي

شعر الزهد في العصر العباسي

هاجر منصور سراج

18 يناير، 2025


يعتبر شعر الزهد من الأغراض الشعرية التي تحمل معانٍ روحيةً ساميةً دون الأغراض الشعرية الأخرى التي تغوص في الموجودات والمحسوسات ابتداءً من الوصف والغزل وانتهاء بالفخر والمدح. أمَّا الزهد، فشعر يصوِّر روح الإنسان المبتعدة عن الموجودات والحسيات بحثًا عن الله.

وإذ أنَّ الزهد نتاج الروح الإنسانية، لم يكن ظهوره مقرونًا بالإسلام فحسب؛ إذ له حضور طفيف في العصر الجاهلي. وحضوره هذا لا يتجاوز بيتًا أو بيتين، وحكمًا تتضمنها القصائد. وهي في مجملها نتاج التأمّل البشري للتجارب الماضية، وغالبًا ما تتحدث عن الموت وما بعده كما في معلقة طرفة بن العبد. أو مما كان من متبعي دين إبراهيم عليه السلام، مثل: أمية بن الصلت، وورقة بن نوفل، وأكثم بن صيفي.

ولمَّا ظهر الدين الإسلامي، اتخذ الزهد مظهرًا من مظاهر التعبد، واكتسب وجودًا فعليًا في الحياة اليومية حتى صار نمط حياة. وكان من الضروري أن يبرز نمط الحياة هذا في الشعر، لا سيما في شعر العصر الأموي، مثل ما كان في شعر عروة بن أذينة، وعبد الله بن عبد الأعلى، ومسكين الدارمي.

وفي العصر العباسي، برز هذا الغرض الشعري أكثر من أيِّ عصرٍ آخر حتى غدا ظاهرةً ثم أفضى إلى التصوف في عصرٍ آخر. والزهد في هذا العصر ردُّ فعلٍ على الانحلال الأخلاقي والانغماس في الترف الذي تفشَّى آنذاك. ففي هذا العصر، شهد الناس مجونًا، وجموحًا، وجرأةً لم يألفوها ولم يقرها الإسلام، فكان أن قابلوا ذلك بالسخط، وتجلَّى سخطهم في الدعوة إلى الزهد الذي تغنَّوا به في أشعارهم. وإلى جانب شعر الزهد، انتشر الوعاظ في المساجد، وامتلأت طرقات بغداد بالداعين إلى العودة إلى الله، وإلى اجتناب المنكرات، وإلى الاحجام عن اتباع الأهواء. (ضيف، 1966، 85).

المعنى اللغوي

جاء في لسان العرب، الزهد والزهادة في الدنيا، ولا يقال الزهد إلَّا في الدنيا خاصةً. والزهد هو ضد الرغبة والحرص على الدنيا. وزَهِدَ، زَهَدَ، يَزْهَدُ زُهْدًا وزَهَدًا؛ والفتح عند سيبويه. والتزهيد في الشيء وعن الشيء: خلاف الترغيب فيه. وزهَّده في الأمر: رغَّبه عنه. (ج 3، 196 - 198).

إذن، فالزهد هو الابتعاد عن المعصية، وعن الأهواء، والتقليل من شأن الدنيا. وإذ هو مرتبط بالإسلام، فهو نابعٌ من القلب المتلهف لنيل رضا الله. وشعر الزهد هو شعرٌ صُرِّح فيه بالدعوة إلى التوبة، والإعراض عن الدنيا، والعمل الصالح، وتذكير الناس بيوم القيامة، وبالعقاب المنتظر.

عوامل ظهور شعر الزهد

لم يصبح الزهد غرضًا شعريًا قائمًا بذاته إلا في العصر العباسي، وكان وراء هذا عوامل ثلاثة: اجتماعية، ثقافية، نفسية. أمَّا العامل الاجتماعي، فيرجع إلى بذخ الطبقة العليا في المجتمع، ما جعل قيام موجةٍ مناقضةٍ ضرورةً اجتماعيةً وردَّ فعلٍ بشريٍّ طبيعي. وبعض الشعراء اتجهوا إلى الزهد بسبب الفقر والحرمان، فوضعهم الاجتماعي لم يمكنهم من التلذذ بحياتهم، فانصرفوا عنها، وأملوا الخير في الزهد.

أمَّا العامل الثقافي، فيرجع إلى توافد الثقافات على المجتمع الإسلامي آنذاك سواء من خلال الترجمة، أو من اختلاط الأجناس والأعراق. فكان أن تعرَّف المسلمون العرب على ديانات الأقوام الأخرى ومذاهبهم في العبادة، ورؤاهم، وتأملاتهم، فاكتسبوا شيئًا من ثقافاتهم، ثم ما لبثوا أن تمثَّلوا بعض آرائهم، فحادوا عن الطريق واتخذوا زهدًا غير ما دعا الإسلام إليه. والبعض الآخر كانت الثقافة الدينية الإسلامية السبب وراء زهدهم؛ إذ يحفظون القرآن والحديث، ويعتكفون في المساجد، وينصرفون إلى حلقات الذكر؛ فهم يعرفون دينهم حقَّ المعرفة، ويعرفون ما سيؤولون إليه في الآخرة إن هم انغمسوا في اللذات.

أمَّا العامل الثالث، فيرجع إلى نفسية الشاعر نفسه، فبعض الناس آنذاك رأوا الزهد منهاجًا وطريقَ حياة، بينا رأى البعض الآخر الانجرار وراء الموجة الغالبة الوسيلة المثلى للعيش. فكان أن زهدت الطائفة الأولى، ودعت إلى الزهد انطلاقًا من الرؤية الخاصة؛ فهؤلاء الشعراء عافوا اللذات لموقفهم من المنغمسين في اللذات، ولتقواهم وعلمهم الديني.

أنواع الزهد في العصر العباسي

يُفترضُ أنَّ ما يلقانا في هذا العصر، هو زهد إسلاميٌّ خالصٌّ؛ لكنَّ زهدًا آخر يظهر في هذا العصر، وهو الزهد المانوي (نسبة إلى ماني بن فاتك زعيم المانوية). والمانوية نتاج مزج الديانتين الوضعيتين الزرادشتية والبوذية، والديانة السماوية النصرانية. وهذه الديانة الوضعية تؤمن بعقيدتي النور والظلمة وإباحة زواج الآباء من بناتهم وأخواتهم شأنها في هذا شأن الزرادشتية، وتؤمن بتناسخ الأرواح وتحريم ذبح الحيوان شأنها في هذا شأن البوذية، ومن الديانة النصرانية، أخذت الزهد والنسك.

وإذ اختلطت الثقافات في هذا العصر، وترجمت كتب الديانات الأخرى، وظهرت الزندقة والشعوبية، كان أن ظهر هذا النوع من الزهد عند جماعةٍ من الشعراء، لا سيما الشعوبيين والزنادقة منهم، مثل صالح بن عبد القدوس الذي أُعدم بتهمة الزندقة، وأبي العتاهية الذي لم تثبت عليه التهمة. (الهنداوي، ص 88).

خصائص شعر الزهد

  1. غلبة الطابع التعليمي؛ فشعراء الزهد يعظون الناس، فيذكرونهم بالآخرة، ويدعونهم إلى ترك الدنيا. ولهذا يكاد هذا الغرض الشعري يخلو من الصور الجمالية ومن المحسنات البديعية؛ فهو شعر مباشر يخاطب عامة الناس ولا يتكلف الصنعة أو يسعى إلى الإبهار.
  2. بساطة الأسلوب، وسهولة المفردات ووضوحها.
  3. الوحدة الموضوعية؛ فالقصائد تدور حول فكرة واحدة هي الزهد.
  4. كثرة التناص مع الحكم والأمثال، والآيات القرآنية، والحديث.
  5. شيوع الرجز في هذا الغرض الشعري، والأوزان الشعرية القصيرة، والبحور المجزوءة.
  6. غلبة المقطعات على القصائد. وسبب هذا راجع إلى أنَّ هذه المقطعات نتاج التأملات الروحية في حقيقة الدنيا، فكان صدورها عن الشعراء قصيرًا قريبًا كقصر اللحظات الروحية.

شعراء الزهد في العصر العباسي

لم يكن كل شعراء الزهد في هذا العصر من الشعراء الذين ابتعدوا عن المجون والترف منذ البداية، وتمثَّلوا التعاليم الإسلامية في حياتهم؛ بل كان بعض شعراء هذا الغرض من أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم، فمارسوا المجون والإثم، وانحرفوا انحرافًا شديدًا، وانغمسوا في الفجور طويلًا. ثم بعد هذا، أخذهم الفزع، كحال النفس البشرية دائمًا، فمالوا إلى الزهد علَّه يمحو ذنوبهم. ومن هؤلاء: أبو العتاهية، صالح بن عبد القدوس، أبو نواس. (مصطفى الشكعة، 1986، 210).

أبو العتاهية

هو إسماعيل بن القاسم، ويعتبر أبرز علمٍ في شعر الزهد، إلَّا أنَّه لم يتحول إلى هذا الغرض الشعري إلا بعد أن عبَّ من الملذات الدنيوية ما عبَّ، وعاد من بعض ما سعى إليه خالي الوفاض؛ فقد روي أنَّه كان دميمًا، وكان غير ذي علم، وغير ذي حظ، وكان يبيع الفخار، وروي أنَّه أحبَّ جارية العباسة، وعاد خائبًا؛ ففي حياته مظاهر كثيرة للحرمان سوَّغت ميله إلى الزهد، وربما كان يرى في نفسه ميلًا إلى هذا اللون الشعري لا أكثر. (المقدسي، 1975، 153).

وفي شعره، يدعو إلى ترك الدنيا وتحقيرها، وإلى صالح الأعمال، ويذكر الموت، ويناجي الموتى والقبور، ويذكر الثواب والعقاب. وكان زهده هذا غريبًا مريبًا، فشكك من حوله في مسلكه الجديد، وأرجعه كثيرون إلى المانوية، وقدَّموا على ذلك دلائل من شعره، فقد كان كثير الذكر للموت دون ذكر للآخرة، وكان كثيرًا ما يذكر النور والظلمة. ومن شعره:

إلهي لا تعذبني فإني ♦♦♦♦ مُقِرٌّ بالذي قد كان مني

ومالي حيلةٌ إلا رجائي ♦♦♦♦ لعفوك إن عفوتَ وحسن ظني

وأيضًا:

سبحان من لا شيءَ يحجب علمه ♦♦♦♦ فالسر أجمع عنده إعلانُ

سبحان من هو لا يزال مُسبَّحًا ♦♦♦♦ أبدًا وليس لغيره السبحان

صالح بن عبد القدوس

هو صالح بن عبد القدوس. بصري من موالي الأزد، وأغلب الظن أنَّ أصله فارسي. ويروى أنَّه كان يختلف إلى حلقات الوعاظ والمتكلمين، فاستمع إلى كلام أصحاب الملل والنحل حتى اعتنق الثنوية المانوية. وإذ تؤمن المانوية بإلهي النور والظلمة، ترى أنَّ كل بلاء في العالم نتاج امتزاج ذين العنصرين، فكان لزامًا أن يزهد الناس في الحياة. ورغم هذا، يظهر أنَّه كان ينافق فيستر زندقته خوفَ العقاب. وقد قال:

رُبَّ سِرٍّ كتمته فكأني ♦♦♦♦ أخرسٌ أو ثنى لساني خَبْلُ

ولو أني أبديتُ للناس علمي ♦♦♦♦ لم يكن لي في غير حبسي أكلُ

ومن نفاقه ما روي أنَّه قال إن صلاته ليست سوى (سنَّة البلد، وعادة الجسد، وسلامة الأهل والولد)، لكنه ما لبث أن أعلن زندقته، فعقدت محاكمته في عهد هارون الرشيد على إثر شيوع أبيات هجا بها الرسول، ثم أعدم بتهمة الزندقة. وأشعاره في الزهد تدور في موضوع التنفير من الدنيا، والتذكير أنَّ متاعها زائلٌ، والتذكير بالموت والفناء، والحث على مكارم الأخلاق، وطاعة الله - ولعله أراد بهذا إله النور، لكنه في نفاقه وارى كلماته. ونفاقه هذا، جعل الناس في شكٍّ من خبر زندقته. (ضيف، 397). من شعره:

وليس بعجزِ المرء إخطاؤه الغِنى ♦♦♦♦ ولا باحتيالٍ أدرك المالَ كاسبُهْ

ولكنه قبْضُ الإله وبَسْطهُ ♦♦♦♦ فلا ذا يجاريه ولا ذا يغالبه

وأيضًا:

فوحَقِّ من سَمَكَ السماء بِقُدْرَةٍ ♦♦♦♦ والأرضَ صَيَّرَ للعبادِ مِهَادَا

إنَّ المُصِرَّ على الذنوبِ لهالكٌ ♦♦♦♦ صدَّقتَ قولي أو أردتَ عِنَادَا

ومن أمثلة النصائح والدعوة إلى مكارم الأخلاق:

المرءُ يجمع والزمانُ يفرِّقُ ♦♦♦♦ ويظل يرْقَعُ والخطوبُ تمزِّقُ

ولأَنْ يُعادي عاقلًا خيرٌ له ♦♦♦♦ من أن يكون له صديقٌ أحمق

فاربأ بنفسكَ أن تصادِق أحمقًا ♦♦♦♦ إن الصديق على الصديق مصدّق

وزنِ الكلام إذا نطقتَ فإنما ♦♦♦♦ يبدي عقولَ ذوي العقول المنطقُ

أبو نواس

هو الحسن بن هانئ. وهو مشهورٌ بمجونه وانحلاله، وتطاوله على التقاليد والأخلاق، وتمجيده الفاحشة؛ فقد عرف عنه فاحش الغزل، والغزل بالمذكر، ومعاقرة الخمرة، والشعوبية. ولم يؤثر عنه شعر الزهد إلا بعد أن ساءت صحته وأقعدته عن الفجور، فطفقت نفسه تتأمل في ما كان فيه من إثم، وتندم! وكان له قبل هذا، أبياتٌ مفردةٌ ينطقها في غمرة المجون كلمحات خافتةٍ من الإيمان تومض في نفسه وتختفي. وقد روي أنَّه اعترف أنَّ المجون يفرط عليه وأنَّه يرجو أن يتوب ويرحمه الله، ثم أنشد:

يأبى الفتى إلَّا اتباع الهوى ♦♦♦♦ ومنهج الحقِّ له واضحُ

فاعمد بعينيك إلى نسوةٍ ♦♦♦♦ مهورهنَّ العملُ الصالح

لا يجتلي العذراء من خِدْرِهَا ♦♦♦♦ إلَّا امرؤ ميزانُهُ رَاجِح

من اتَّقى الله فذاك الذي ♦♦♦♦ سيق إليه المتجرُ الرابح

وبعد أن تاب من رحلة مجونه الطويلة، وأقعده الشيب والمرض، قال متفكرًا في الدنيا:

وما الناسُ إلا هالكٌ وابن هالكٍ ♦♦♦♦ وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ

فقل لغريب الدار إنَّك ظاعنٌ ♦♦♦♦ إلى منزلٍ نائي المحل سحيقِ

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفتْ ♦♦♦♦ له عن عدوٍّ في ثياب صديقِ

وقال أيضًا:

يا ربّ إن عظمتْ ذنُوبي كثرةً ♦♦♦♦ فلقد علمتُ بأن عفوكَ أعظمُ

إن كان لا يرجوكَ إلَّا محسنٌ ♦♦♦♦ فبمن يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ

أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تضرُّعًا ♦♦♦♦ فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ

ما لي إليكَ وسيلةٌ إلا الرَّجا ♦♦♦♦ وجميلُ عفوِكَ ثم أنِّي مسلمُ

وثمة شعراء آخرون صدقوا في زهدهم مخافة عقاب الله، وعرفوا الدنيا دار اختبار. وهؤلاء سخَّروا شعرهم لزجر الناس عن التعلق بالدنيا، وواجهوا العصاة الذين يتظاهرون بحب الله ويدَّعون الزهد. وكانوا يتخذون المساجد مقامًا يعظون فيها الناس، ويرددون أشعارهم التأملية مقتبسين من القرآن والحديث. وكان البعض يسوق وعظه شعرًا وإنشاءً. ومن هؤلاء الشعراء: عبد الله بن المبارك، ومحمد بن كُناسة، ومحمود الوراق. وهؤلاء الشعراء لم يتخذوا النغمة الحزينة في شعر الزهد كالشعراء السابق ذكرهم، بل إن شعرهم مما تقبل عليه الأنفس رغبةً لا خوفًا وحزنًا. (الشكعة، 1986، 222).

عبد الله بن المبارك

هو عبد الله بن المبارك بن واضح التميمي، وكان أبوه تركيًا وأمه خوارزمية. كان حافظًا، رحالًا في طلب العلم والحديث، فصيحًا. وكان على مذهب أبي حنيفة، وقد اشتهر بنسكه وزهده. كما كان مجاهدًا وواعظًا؛ فكان بهذا صورةً مثاليةً للمسلم الزاهد بدلًا من النظرة السائدة أنَّ الزاهد لا يشترك في شيء من الحياة، ويُسخِّر حياته كلها للعبادة شأنه في ذلك شأن الرهبان النصارى! وهو في شعره يدعو إلى التقوى، واجتناب الآثام والشهوات. كما يذم الدنيا ويدعو إلى الزهد، ويدعو إلى التزود بالحسنات ليوم الحشر. ومن شعره:

يا عابدَ الحَرمين لو أبصرتنا ♦♦♦♦ لعلمتَ أنَّكَ في العبادة تلعبُ

من كان يخضِبُ جيده بدموعهِ ♦♦♦♦ فنحورنا بدمائنا تتخضبُ

أو كان يتعب خيْله في باطلٍ ♦♦♦♦ فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ

لا تستوي أغبار خيل الله في ♦♦♦♦ أنف امرئ ودخان نار تلتهب

هذا كتاب الله ينطق بيننا ♦♦♦♦ ليس الشهيد بميِّتٍ لا يكذِبُ

وأيضًا:

أرى أناسًا بأدنى الدين قد قنعوا ♦♦♦♦ ولا أراهم رضوا بالعيش بالدُّونِ

فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما اســتغنى الملوك بدنياهم عن الدينِ

وأيضًا:

دنيا تداولها العبادُ ذميمةً ♦♦♦♦ شِيبتْ بأكره من نقيع الحنظل

وبناتُ دهرٍ لا تزال مُلمَّةً ♦♦♦♦ فيها فجائعُ مثل وقع الجندلِ

محمد بن كناسة

هو محمد بن عبد الله من بني أسد. نشأ على التقوى، وخاله إبراهيم بن أدهم ممن تذكر أسماؤهم في نشأة التصوف. وكان شاعرًا مجيدًا، لكنه لم يقف على أبواب الخلفاء، ولم يتكسب بشعره، بل قصر شعره على الزهد؛ فدعا إلى ترك الأهواء، والصد عن الدنيا ومفاتنها. من شعره:

ومن عجب الدنيا تُبَقِّيك للبلى ♦♦♦♦ وأنك فيها للبقاء مريدُ

وأيُّ بني الأيام إلا وعنده ♦♦♦♦ من الدهر ذنبٌ طارفٌ وتليدُ

ومن يأمن الأيامَ أما اتساعها ♦♦♦♦ فخطرٌ وأما فجعها فعتيدُ

إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى ♦♦♦♦ فإن فِطامَ النفس عنه شديد

وأيضًا:

معاشي دُوَيْنَ القوت، والعرض وافرٌ ♦♦♦♦ وبطني عن جَدْوى اللئام خمِيصُ

سألقى المنايا لم أُخالط دَنِيَّةً ♦♦♦♦ ولم تَسْرِ بي في المخزيات قَلُوصُ

محمود الوراق

يروى أنَّه كان نخاسًا، وكان يلهو أول حياته؛ لكنه ما لبث أن ترك اللهو واتقى الله. ويذكر أنَّه لم يعرف شاعرٌ كثير الزهد في العصر العباسي الأوَّل مثله. وفي شعره تبرز صفة القنوع، فهو قانعٌ بما قسم الله له، وهو يدعو إلى القناعة، والإقلاع عن الطمع. ويكثر في شعره تصوير الجشع، ولهاث الناس وراء الدنانير في حين أنَّ دينهم فقير الحسنات. كما يبرز الصبر في شعره، فهو يحث على الصبر عند فواجع الزمان، ويذكر أنَّ ذا العقيدة الحسنة يستقبل الكارثة كما يستقبل النعمة. كما يكثر الحديث عن الشيب باعتباره نذيرًا لاقتراب الأجل، وجرسًا منبهًا للإنسان للإقلاع عن المعاصي، ولأوان التوبة. (ضيف، 409 وما بعدها). من شعره:

يا غافلًا ترنو بعيني راقدٍ ♦♦♦♦ ومشاهدًا للأمر غيرَ مشاهدِ

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ♦♦♦♦ دَرَكَ الجنان بها وفوز العابدِ

ونسيتَ أنَّ الله أخرج آدمًا ♦♦♦♦ منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ

وأيضًا:

أتطلب رزق الله من عند غيره ♦♦♦♦ وتصبحُ من خوف العواقب آمنا

وترضى بعرَّافٍ وإن كان مشركًا ♦♦♦♦ ضمينًا ولا ترضى بربِّك ضامنا

وأيضًا:

يمثِّل ذو اللب في نفسه ♦♦♦♦ مصائبه قبل أن تنزلا

فإن نزلتْ بغتةً لم تردعه ♦♦♦♦ لما كان في نفسه مثَّلا

رأى الهم يفضى إلى آخرٍ ♦♦♦♦ فصيَّر آخره أوَّلا

وذو الجهل يأمن أيَّامه ♦♦♦♦ وينسى مصارع من قد خلا

فإن بَدَهْتُه صروف الزمان ♦♦♦♦ ببعض مصائبه أعولا

ولو قدّم الحزم في أمره ♦♦♦♦ لعلَّم الصبر عند البلا

إذن الزهد هو الإعراض عن الدنيا، واتخاذ سبيلٍ بسيطٍ في العيش ما لبث أنَّ استحال إلى التقشف لاحقًا. وهذه الممارسة تعود على الإنسان برضا روحي لإدراكه ما سيحوزه في الجنة؛ بيد أنَّ هذا التصور البسيط ما لبث أن دخل عليه لاحقًا مدخلات غير إسلامية فولد منه التصوف في عهد الدول المتتابعة. وشعراء الزهد في هذا العصر، جاء شعرهم بسيطًا غير متكلِّف يدعو الناس إلى الصد عن الدنيا وتذكيرهم بالله وبالجنة، وجاء في بعضه نصائح لاتباع مكارم الأخلاق والسبل السوية، كما لم يعنى بالصنعة في اللفظ والمعنى، ولا بالصور الجمالية، ولا بالأوصاف الذاتية كما كان من شعر التصوف لاحقًا. إنَّ شعر الزهد في هذا العصر شعرٌ لا ميزةَ له غير موضوعه، وهو في السمات الأخرى كغيره من الشعر. كما لم يكن شعراؤه باحثين عن الروحانية، أو مخلصين لها، بل كانوا إمَّا باحثين عن التوبة، أو ذوي نشأة متدينة.

المراجع:

(1) الأدب العربي في العصر العباسي، ناظم رشيد، جامعة الموصل، الطبعة الأولى، 1989.

(2) الشعر والشعراء في العصر العباسي، مصطفى الشكعة، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السادسة، 1986.

(3) أمراء الشعر العربي في العصر العباسي، أنيس المقدسي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة العاشرة، 1975.

(4) تاريخ الأدب العربي - العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الثامنة، 1966.

(5) موسوعة تاريخ الأدب والنقد والحكمة العربية، حسين علي الهنداوي.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@