هاجر منصور سراج
3 ديسمبر، 2024
بَدأت الدولة الأموية بمعاوية بن أبي سفيان عام 41 هـ/ 661 م، وانتهت عام 132 هـ/ 749 م على يد العباسيين. وبين ذين التاريخين، توسَّعت الدولة الأموية، وفتحت بلدانًا كثيرةً فكان نتيجة ذلك ثروات متدفقة على الدولة الإسلامية، وكان لهذه الثروة أثرها على الحياة الاجتماعية، والسياسية، والعلمية، والأدبية. وقد توافد الأجانب جنبًا إلى جنبٍ مع الثروة، فكان أن أحدثا تغييرًا أو تحويرًا في الفنون الأدبية، بيد أني لن أنظر في هذه المقالة إلا إلى شعر الغزل في هذا العصر.
يعد الغزل من أقدم الفنون الشعرية؛ إذ يعبر عمَّا يجول في نفس الإنسان من مشاعر، دون اعتبارٍ لدينه، أو سياسته، أو أصله. فيصدر الغزل عن النفس في الشكل الذي يعترف به المجتمع. ولم يؤثر عن الجاهليين قصائد غزلية، إذ جاء الغزل عندهم في مطلع القصائد لا غير، ولم يحمل إيحاءً عاطفيًا، واقتصر على الوقوف على الأطلال أو رؤية الظعائن، فذكر الحب في قصائدهم كان يأتي بعد انتهائه. ونجد تشابهًا في الصور والاستعارات عند الجاهليين، ما يشير إلى أنَّ المحبوبة كانت محض خيالٍ حاولوا به ربط الشعر بالواقع. وفي عصر صدر الإسلام، طغت تعاليم الإسلام على المجتمع، فانصرف الناس عن الغزل انصرافًا يكاد يكون كليًّا، لكنه ما لبث أن عاد إلى الحضور غرضًا قائمًا بذاته في العصر الأموي. وفي هذا العصر وُجِد الغزل على ثلاثة أقسام: الغزل التقليدي، والغزل الصريح، والغزل العفيف. أمَّا الغزل التقليدي، فلا يختلف عن الغزل الجاهلي في وروده مطلع القصائد، وإن اكتسب شيئًا من الواقعية وهبط من علو الخيال والنمط التجريدي الذي اتخذه الجاهليون، واكتسب رقةً في المفردات والصور متأثرًا بالقرآن والحضارة. وهذا القسم لا يعنيني في هذه المقالة، بل سأتناول النوعين الآخرين اللذين اختصا بالغزل غرضًا مقصودًا من القصائد التي قيلت آنذاك.
جاء في مادة (غ ز ل) في لسان العرب، غزلت المرأة القطن غزلًا، وهي تغزل بالمغزل. والغزل: حديث الفتيان والفتيات، وهو اللهو مع النساء، ومغازلتهن: محادثتهن ومراودتهن. ويقال: غزلها وغازلته مغازلةً، وتغزَّل أي تكلَّف الغزل.
وقد أشار قدامة بن جعفر أنَّ النسيب مختلفٌ عن الغزل، فالنسيب هو ذكر خَلْق النساء وأخلاقهن، وتصرف أحوال الهوى به معهن. أمَّا الغزل فهو التصابي والاستهتار بمودات النساء. وثمة ارتباط بين المعنى اللغوي الأول للغزل بالمغزل وأحاديث اللهو؛ إذ ينفق المحب وقتًا وجهدًا حتى يوقع المرأة في حبائله كما ينفق المرء في غزل النسيج.
ويسمى بالغزل الحسي، والغزل الصريح، والغزل الحضري، والغزل القصصي. وهذه الأسماء كلها تشير إلى خصائص شعر الغزل الصريح، فهو يهدف إلى إثارة الحواس، وهو صريحٌ في مفرداته التي تصف أحوال تلاقي العشَّاق، وقد ظهر في الحواضر (مكة والمدينة)، وقد اتسم بسمات القصص؛ إذ تضمَّن عناصر القصص: المكان، والزمان، والسرد، والوصف، والحوار. والحوار هو أكثر ما برز في هذا اللون من الشعر. وأبرز شعراء هذا اللون: الأحوص، والعرجي، وعمر بن أبي ربيعة. وهذا الأخير يعد إمام هذا اللون الغزلي.
اتسعت الحضارة الإسلامية في عصر الأمويين، فبنيت المدن، والقصور، والمساجد؛ ثم تدفَّقت الأموال، فنشأت الرفاهية، وانتشرت الجواري، والغلمان، والعبيد، فتفشى الرخاء. وكان الحجاز أبرز مكانٍ تفشَّى فيه الرخاء والرفاهية؛ تبعًا للسياسة التي اتبعها الخلفاء الأمويون في إسكات أفواه الحجازيين الذين قد ينازعونهم السلطة، فأغدقوا عليهم الأموال والثروات، وأقصوهم عن حوادث العصر، فعاشوا ناعمين بالثراء، مبعدين عن أيِّ شيء غير الرفاهية والكسل. ومن هنا، تأنقوا في المأكل، والملبس، والمسكن، وأقاموا القصور والبساتين، ومجالس اللهو التي كان لها دور كبير في قتل الملل المتفشي. وأقيمت هذه المجالس أوَّل الأمر للهو البريء، والغناء، والاجتماع، والصيد، والتنزه، ثم ما لبث أن استحال هذا اللهو البريء لهوًا غير بريء مال فيه الشبان إلى الشراب والفساد. (فروخ، ص 345 و346).
وهذا اللهو غير البريء نشأ بفعل الرفاهية أوَّلًا، ورغبةً في تقليد الطغمة الحاكمة، ثانيًا، الذين أنفقوا في بذخٍ على وسائل اللهو. وإضافةً إلى هذا، تفشي العنصر الأجنبي الذي أحدث سفور نسائه انحلالًا في القيم والمبادئ، فهوِّن في أمر السفور واللهو مع الجواري أوَّل الأمر، ثم أخذت الغيرة الحرائر، فأخذتهن رغبةٌ في أن يذكرهن الشعراء في الشعر كما تذكر الجواري، فشاع اللهو، وحاد عن طريق البراءة إلى طريق الصراحة والفحش.
ولمَّا كان الغناء وسيلةً لقتل الملل، فقد أخذ الشعراء ينظمون الشعر المناسب للغناء، وكان شعر الغزل هو الأصلح، فترققوا في البحور والمفردات. ولعل الرقة نشأت أوَّل الأمر لاختلاط الشعراء بالنساء اختلاطًا لم يكن مألوفًا في الجاهلية وصدر الإسلام، فتغيَّرت معايير الجمال؛ إذ لم تستطب النساء الألفاظ القوية الجزلة، وكان ميلهن إلى رقة الألفاظ وعذوبتها، فتحرى الشعراء الرقة طمعًا في نيل رضاهن أوَّلًا، ثم رغبةً في أن تناسب قصائدهم الغناء. ولعلَّ ما قوَّى هذا المسلك، هو ما كان من غياب النقد، فلم يكن الشعراء المترفون بحاجة إلى نظم الشعر للتكسب، فلم يتحرَّوا دقة الألفاظ أو جزالتها، ولم يتحروا حماسة البحور وإيقاعها، ولم يتحروا المعاني والأغراض، وإنما ساقوا شعرهم للهوهم، فلم يكن ثمة رقابة نقدية تقوِّم مسار الشعر وتصححه. (إحسان سركيس، 1981، 380 وما بعدها).
نخلص إذن إلى أنَّ ثمة أربعة تفسيرات لظهور الغزل الصريح: الثراء، انتشار العنصر الأجنبي، العطالة، غياب النقد.
لم يتعلق هؤلاء الشعراء بامرأةٍ بعينها، بل كانوا يتنقلون بين النساء تبعًا لما يستهويهم من جمالهن. وقد عُرف عنهم ترددهم على المغنيات الجواري من مثل سلامة القس، والذلفاء، وجميلة. وكانوا ينظمون فيهن القصائد الغزلية الصريحة، ثم تجاوزوهن إلى وصف الحرائر والتشبيب بهن. ويميل هؤلاء الشعراء إلى تصوير مغامراتهم في لقاء الحرائر والتسلل إلى بيوتهن، فيصورون الزمان، والمكان، وما قيل بين العاشقين؛ لإضفاء الإثارة على قصائدهم، فلم يتحدثوا عن هوى النفس إلَّا لإذكاء شوق المعشوقة، ولم يسبغوا على الحب هالةً قدسيةً؛ بل اتخذ بعضهم الغزل نوعًا من الهجاء يراد به استهداف عرض من يبغضون. ومن شعراء هذا الاتجاه: الأحوص، والعرجي، وعمر بن أبي ربيعة.
هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن الأقلح الأنصاري، وهو من بني ضُبيعة بن زيد من الأوس، وأمُّه أثيلة بنت عُمير بن مخشي. وقد ولد الأحوص في المدينة حوالي سنة 35 هـ، ونشأ فيها. كان أشقر، أحوص؛ أي له ضيق في مؤخر العين. وكان دنيء الطبع، قليل المروءة والدين، هجَّاء. وظاهرٌ أنَّه لم يكن ثريًا؛ إذ كان كثير الترحال إلى دمشق مدحًا للخلفاء. وله مدائح في الوليد بن عبد اللك، وعبد العزيز بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك. وتروى له كثيرٌ من الأخبار في الأغاني تدل معظمها على طيشٍ؛ فهو في غزله شديد الفحش، وفي هجائه، قبيح الهجاء. ويروى أنَّ النساء انصرفن عنه لما كان في غزله من التصريح والفحش، من ذلك:
تعرَّضُ سلماك لما حرمـــتَ ضلَّ ضلالُك من مُحرمِ
تريد به البِرَّ يا ليتهُ ♦♦♦♦ كفافًا من البِرِّ والمأثمِ
وتعرف عنه أشعاره في أم جعفر الأوسية، وتعد من أنقى غزلياته. وكانت هذه المرأة تصده عنها، وكذلك كان أخوها حازمًا معه، وروي أنَّه ضربه بالسوط ضربًا شديدًا. ويروى قوله فيها:
أدور ولولا أن أرى أمَّ جعفرٍ ♦♦♦♦ بأبياتكم ما درتُ حيث أدورُ
أزورُ البيوت اللاصقات ببيتها ♦♦♦♦ وقلبي إلى البيت الذي لا أزور
وما كنتُ زوَّارًا ولكن ذا الهوى ♦♦♦♦ إذا لم يزر لا بُدَّ أن سيزورُ
وله أشعار في جميلة المغنية والإماء الأخريات في نادي جميلة مثل الذلفاء، وسلامة القس، وعقيلة؛ وقد قال في الذلفاء:
إنما الذلفاء همي ♦♦♦♦ فليدعني من يلومُ
حبَّب الذلفاء عني ♦♦♦♦ منطقٌ منها رخيمُ
حبُّها في القلب داءٌ ♦♦♦♦ مستكنٌّ لا يريمُ
وكان لا يتورَّع في تصريحه، ويخرج أحيانًا إلى دائرة الإباحة، حتى شكاه أهل المدينة إلى عاملها ابن حزم، فأقامه على البُلس، لغزله الصريح ولخنثه. ونفي إلى دهلك في عهد عمر بن عبد العزيز، ثم شفعت له سلامة القس عند يزيد بن عبد الملك في خلافته، فعفا عنه. ولمَّا كان ذاك، سافر إلى دمشق ومدح يزيدًا. وقد توفي نحو 110 هجرية.
هو عبد الله بن عمُر بن عمر بن عثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس. وقد لقب بالعرجي لسكنه عَرْجَ الطائف، وهي قريةٌ في نواحي الطائف، وكان له أرضٌ هناك. كان جميل الوجه، أزرق العينين، أشقر الشعر، خفيف اللحية، وكان بارعًا في صنع السهام والرماية. وقد اشترك في غزو بلاد الروم مع مسلمة بن عبد الله، وأحسن القتال، وأنفق الأموال في سبيل الله. ويبدو أنَّه بتصرفه هذا كان يطمح إلى حيازة منصب؛ لكنه لم يحصل على شيء، فعاد إلى الحجاز، وانصرف إلى اللهو. وكان في مغامراته الغرامية استهتارٌ وتحدي، وفي شعره صراحةٌ وجموح تخرج إلى الإباحية. من ذلك:
قالتْ رضيتُ ولكن جئتَ في قمر ♦♦♦♦ هلَّا تلبَّثتَ حتى تدخُلَ الظُّلمُ
وهو في سلوكه هذا، يتمادى إلى المساس بحرمة الحرائر والمتزوجات، من ذلك ما كان من غزله بالجيداء أمَّ محمد بن هشام وزوجته جبرة المخزومة. وقد قصد الهجاء في عزله بالجيداء؛ إذ أبرز في قصيدته حكاية الوقائع وافتراء الإفك، فلم تحمل أيَّ معنى من معانٍ الغزل. ويعد العرجي أوَّل من استخدم النسيب للهجاء. (الرافعي، 731). وقد دخل على إثر هذا السجن ولبث فيه حتى توفي سنة 120 هجرية. مما قاله في الجيداء:
عوجي علينا ربَّة الهودجِ ♦♦♦♦ إنَّكِ إن لم تفعلي تحْرجي
أيسرُ ما نال محبٌّ لدى ♦♦♦♦ بين حبيبٍ قوله عرِّج
نَقْض إليكم حاجةً أو نقل ♦♦♦♦ هل لي مما بي من مخرجِ
ويؤثر عنه تردده على دار المغنية جميلة في المدينة، ويظهر أنَّه كان كثير العبث والسفه ما حدى بها إلى منعه من دخول دارها لولا أن تشفع له الأحوص. ويؤثر أنَّها غنَّت قوله:
ألا قاتل الله الهوى كيف أخلقا♦♦♦♦ فلم تُلْفه إلا مشوبًا ممذِّقا
وما من حبيبٍ يستزير حبيبه ♦♦♦♦ يعاتبه في الودِّ إلا تفرَّقا
لقدسَنَّ هذا الحب من كان قبلنا ♦♦♦♦ وقاد الصبا المرءَ الكريم فأعنقا
ومما غني من شعره أيضًا:
أماطت كساء الخزِّ عن حُرِّ وجهها ♦♦♦♦ وأدنت على الخدين بُردًا مهلهلا
من اللاءِ لم يحججن يبغين حِسبةً ♦♦♦♦ ولكن ليقتلن البريء المغفَّلا
ويؤثر عنه قوله لمَّا كان في السجن:
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا ♦♦♦♦ ليوم كريهةٍ وسداد ثغرِ
وصبٍ عند معترك المنايا ♦♦♦♦ وقد شُرِعتْ أسنتها بنحري
أُجرِّر في الجوامع كلَّ يومٍ ♦♦♦♦ فيا لله مظلمتي وصبري
كأني لم أكن فيهم وسيطًا ♦♦♦♦ ولم تكن نسبتي في آل عمرو
وشعره لا يقتصر على الغزل، ففيه مدح، وهجاء، وفخر. وبعض شعره على النمط القديم، وبعضه تخفف في أوزانه وترقق في ألفاظه متأثرًا بالغناء واللهو الشائع.
هو أبو الخطاب وأبو حفص عُمر بن عبد الله بن أبي ربيعة بن حذيفة بن المغيرة بن عمر بن مخزوم من بني قريش. وأمُّه مجد امرأةٌ من سبايا حضرموت. روي أنَّه ولد ليلة مقتل عمر بن الخطاب، فسمي باسمه، وكني بكنيتيه، بيد أنَّ هذا قولٌ مشكوك فيه، وهو مصنوع من قول الحسن البصري؛ إذ كان يقول (أي حق رفع، وأي باطلٍ وضع)، ويمكن تحديد ولادته بسنة 23 هجرية. (بروكلمان، 1983، 189).
وهو من عائلةٍ ثريةٍ منذ الجاهلية، وكان وحيد أمِّه. وقد خلَّفه والده هو وأمه في مكة حين كان عاملًا على الجند في اليمن، فنشأ مدللًا شديد العناية بمظهره وعطره، ولم يسع لعملٍ، بل عمل في عمل أهله: صناعة النسيج وتجارته. كانت حياته سهلةٌ خاليةٌ من الهموم والمتاعب، فانصرف إلى اللهو والتمتع بالتعرف إلى النساء الجميلات ذوات المكانة الاجتماعية، واللواتي كن محجوبات عن الرجال، وكان يرى في لقائه بهن مغامرةً عظيمةً.
يعتبر عمر بن أبي ربيعة من أشهر شعراء الغزل في الحجاز، مساويًا للجميل بثينة – كما جاء في الأمالي. ولمَّا كان جمهوره من النساء، فقد كان يتخير كلماتٍ سهلةً، عذبةً، قريبةً إلى النفس. ولمَّا كان يقول الشعر بهدف الغناء، فقد كان يتخير من بحور الشعر خفيف الأوزان كثير الحركة، مثل: الرمل والخفيف. ولم يكن يجتهد في التصوير والاستعارة، ولم يكن يقلد أسلوب القصائد القديم؛ بل شغف بتصوير الحياة اليومية العادية. وكان في مسلكه هذا تجديدٌ قابله البعض بالنقد، وقابله آخرون بالثناء. وقد قال جرير عن شعره: هذا شعرٌ تهامي إذا أنجد وجد البرد، وقال الفرزدق: أرى شعرًا حجازيًا إذا أنجد اقشعر. (الأغاني، 1، 73).
ويعد شعر عمر من أكثر الشعر المغنى؛ إذ كان خفيف الأوزان، عذب التعبير عن النفس، متميزًا بميزة القصصية، لا سيما حورا النساء. وقد عُرف بحسن حديثه مع النساء، وسهل معاشرته، وميله إلى الدعابة والمرح. وقد كان يغتنم موسم الحج للقاء النساء وإعلان حبه للحسناوات، وفي ذلك قال:
يقصد الناس للطواف احتسابًا ♦♦♦♦ وذنوبي مجموعةٌ في الطواف
وقال على ألسنة النساء:
يا من لقلبٍ متيم كلف ♦♦♦♦ يهذي بخود مريضة النظر
قالت لترب لها تحادثها ♦♦♦♦ لنفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له ليبصرنا ♦♦♦♦ ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى ♦♦♦♦ ثم اسبطرت تسعى على أثري
وقال أيضًا:
أومت بعينيها من الهودج ♦♦♦♦ لولاك في ذا العام لم أحجج
أنت إلى مكة أخرجتني ♦♦♦♦ ولو تركت الحج لم أخرج
وكان شغوفًا بوصف ترف القرشيات من أمثال الثريا بنت علي الأموية. وقد قال في هذا:
قالت ثُريَّا لأترابٍ لها قُطُف ♦♦♦♦ قمن نحيي أبا الخطاب من كَثَب
فطرن طيرًا لمَّا قالت وشايعها ♦♦♦♦ مثل التماثيل قد موِّهنَ بالذهبِ
يرفلن في مطرفات السوس آونةً ♦♦♦♦ وفي العتيق من الديباج والقصب
ترى عليهن حلى الدُّر متَّسِقًا ♦♦♦♦ مع الزبرجد والياقوت كالشهب
وأهم ميزةٌ في شعره أنَّه قصره على الغزل، فلم يقل القصائد في غير ذلك، وجعل في غزله جانبًا كبيرًا لتصوير النساء عاشقاتٍ له. ونادرًا ما كان يشكو في غزله هجرًا أو ألمًا لصدٍّ؛ إذ كان معشوقًا من النساء كلهن، فهو لا يشكو فراقًا أو غرامًا إذ لا يترك وحيدًا أبدًا. والنساء في قصائده هن من يسعين إليه ويتضرعن ويستعطفن لرؤيته والبقاء معه. وهو يصور في معظم قصائده النساء مجتمعات شاكيات حبهن له، وفراقه لهن، وألم الغيرة والشوق. فقصائده غنية بتصوير عواطف النساء ونفسياتهن، والحوار الدائر بينهن، والطرق التي يعتمدنها لبلوغ المعشوق. من ذلك:
تقول إذ أيقنت أني مفارقها ♦♦♦♦ يا ليتني متُّ قبل اليوم يا عمرا
ويقول مصورًا حال ثلاث أخواتٍ:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى ♦♦♦♦ قالت الوسطى نعم هذا عُمر
قالت الصغرى وقد تيمتها ♦♦♦♦ قد عرفناه وهل يخفى القمر
فهو لا يتألم، ولا يأبه بامرأةٍ بعينها. من ذلك:
سلامٌ عليها ما أحبَّت سلامنا ♦♦♦♦ فإن كرهت فالسلام على أخرى
ويقول على لسان امرأةٍ عاشقة:
أمن أجلِ واشٍ كاشحٍ بنميمةٍ ♦♦♦♦ مشى بيننا صدَّقته لم تكذِّبِ
وتعد رائيته أشهر قصائده، وهي قصيدةٌ نظمها في وصف مغامرةٍ قام بها للوصول إلى دار نعم، وهي فتاةٌ منيعةٌ. وقد اشتهرت هذه القصيدة، فلمَّا سمعها جرير، قال: (ما زال يهذي هذا القرشي حتى قال الشعر). ومطلع القصيدة:
أمن آل نُعم أنت غادٍ فمبكرُ ♦♦♦♦ غداء غدٍ أم رائجٌ فمُهجرُ
وحريٌّ بنا الإشارة هنا إلى أنَّ عمر بن أبي ربيعة استحال شخصيةً خياليةً نُسجت حولها الكثير من القصص، ونسبت إليها الكثير من الأقاصيص الذي لم تحدث مع الشاعر نفسه. ومعظم الأحاديث التي وردت في الأغاني سيقت للتسلية، وأُدخل عليها، وزيد فيها؛ فبعض القصص تظهر مجونًا في مكة مناقضًا لطبيعة الحال آنذاك. وهذه الزيادات تشوش صورة مكة وصور النساء الواردات في أشعار عمر مثل الثريا الأموية وزينب الجمحية. ويذكر شوقي ضيف في مسألة هذه الأخيرة أنَّها المرأة التي تزوجها عمر، وهي نفسها هند التي ترد في معظم أشعاره، ونفسها نعم التي تغنى بها. ويرى أنَّ الأسماء الكثيرة الواردة في شعره أسماء رمزية كما كان من دأب شعراء الجاهلية في تعديد أسماء المحبوبة المتخيلة. كما أنَّ شغفه بالكناية في شعره يؤكد أنَّه كان يكني عن المرأة نفسها بأسماء عدَّة. (شوقي ضيف، 1987، 224).
نشأ هذا النوع من الغزل في بادية الحجاز، في بني عذرة وخزاعة. وهو غزل شريف نزيه، اقتصر على التشبيب بامرأةٍ واحدةٍ فقط حتى اقترنت أسماؤهم بأسماء هؤلاء النسوة، مثل: جميل بثينة، وكثير عزة، وقيس ليلى، وقيس لبنى. وهذا النوع صادقٌ غير مصطنع، ولم يهدف شعراؤه إلى التكسب أو التغني به. وهو غني بالعاطفة، وترد فيه المرأة مخلوقًا سماويًا يوجه نحوه الشاعر إحساس العبودية. وليس شرطًا هنا أن تكون المرأة أجمل النساء، لكنها أجمل النساء في عيني الشاعر. وهو لا يصف مفاتن الجسد، ولا لقاءات الشهوة؛ بل ينأى بنفسه بعيدًا إلى المعاني الروحية، واصفًا آلام البعد والشوق، وآلام الحرمان والصد. والشعراء في هذا سواء، فهم نحيلون ضامرون؛ إذ عشقوا امرأةً ربما يعرفونها منذ الطفولة، أو وقعوا في حبها من النظرة الأولى، ثمَّ عجز عن القلب عن الكتمان، فباح اللسان بما اعتمل في القلب، فما كان إلا أن منعه أهلها من الزواج بها، أو مقاربة الدار، ثم ما يلبثون أن يزوجوها غيره، فتبدأ آلام الشوق والحرمان؛ وهم في هذه الحال يرضون بنظرةٍ واحدةٍ إلى المحبوبة، ثم تبدأ آلام الشوق بعدها، ويتدفق الشعر. وأشهر هؤلاء الشعراء: جميل بن معمر، قيس بن ذريح، وقيس بن ملوح.
وقد سمي هذا النوع بالغزل العذري نسبةً إلى بني عذرة إحدى قبائل قضاعة؛ لأن معظم شعرائها تغنوا به. ومما يروى عن شهرة هذه النسبة أنَّ سائلًا سأل رجلًا من بني عذرة من أين هو، فأجاب: من قومٍ إذا عشقوا ماتوا. فأبناء هذه القبيلة داؤهم الحب، والشعر هو المنفذ الوحيد للتخفيف من ألم هذا الداء؛ بيد أنَّ هذا النوع لم يقتصر عليهم فحسب، بل تفشى وشاع في بوادي نجد والحجاز، لا سيما بني عامر. وقد أضحى هذا النوع من الشعر ظاهرةً تسترعي تفسيرًا.
جعل عبد القادر القط لهذه الظاهرة أربعة تفسيرات: تفسير ديني، تفسير اجتماعي، تفسير سياسي، تفسير حضاري. ففي الأول، رأى أنَّ الإسلام فرض العفة على الناس، فلم يتجرأ أهل البادية على كسر هذا، رغم ما هاجت به مشاعرهم، فقالوا الغزل، لكنهم تحروا العفة. وفي الثاني، رأى تشددًا من القبيلة في أمور الحب واللقاء، وتحديًّا من الشعراء للتصريح بمشاعرهم، لكنهم رغم هذا لم يصرحوا في شعرهم كما فعل أهل الحواضر. وفي الثالث، رأى أنَّ الحجازيين والنجديين أخذهم اليأس والحزن لمَّا رأوا أنَّ مركز الإسلام انتقل إلى الشام عوضًا عنهم، بينا كانت الحجاز ونجد أصل ومنبع الإسلام؛ فكان أن تحوَّلوا إلى حديث العواطف والنفس رغبةً منهم في تناسي اليأس الذي منوا به. وفي الرابع، رأى أنَّ التحضر والترف، وانشغال الناس بالرفاهية والمقتنيات ولَّدت حركةً مناقضة انشغلت بأمور النفس والروحانيات؛ فاتجه الشعراء إلى الشعر العذري متلمسين بذلك الموجودات الطبيعية حولهم ومتغنين بها. (عبد القادر القط، 1987، 78 وما بعدها).
كان ثمة قصائد ومقطوعات مفردة قبل أن يغدو هذا النوع من الشعر ظاهرةً. وكان أوَّل من جعل لهذا الشعر ملامح هو عروة بن حزام وصاحبته عفراء، وهي ابنة عمِّه التي لم يملك مالًا ليتزوجها، فزوَّجوها رجلًا ثريًا من الشام، فكان لهذا أثره على نفس عروة، فأنشد المقطوعات التي جعلت منه إمام هذا الاتجاه. في شعره نجد النحول، والمجتمع الصارم، والوشاة، وإسباغ المشاعر على الموجودات، واللوعة الشديدة، والسقم الذي لا يجد له الأطباء علاج. ونجد هذه السمات كلها في نونيته الطويلة، ثم في كل قصائد العذريين بعده.
فمما جاء نونيته:
أغرَّكما مني قميص لبسته ♦♦♦♦ جديد وبردًا يمنة زهيان
متى ترفعا عني القميص تبيَّنا ♦♦♦♦ بي الضر من عفراء يا فتيان
وتعترفا لحمًا قليلًا وأعظما ♦♦♦♦ رقاقا وقلبًا دائم الخفقان
على كبدي من حب عفراء قرحة ♦♦♦♦ وعيناي من وجدٍ بها تكفان
وأيضًا:
فيا ليت كل اثنين بينهما هوى ♦♦♦♦ من الناس والأنعام يلتقيان
فيقضي حبيب من حبيب لبانةً ♦♦♦♦ ويرعاهما ربي فلا يُريان
وأيضًا:
ألا لعن الله الوشاة وقولهم ♦♦♦♦ فلانة أضحت خُلَّةً لفلان
إذا ما جلسنا مجلسًا نلتذه ♦♦♦♦ تواشوا بنا حتى أملَّ مكاني
تكنَّفني الواشون من كل جانبٍ ♦♦♦♦ ولو كان واشٍ واحدٌ لكفاني
ولو كان واشٍ باليمامة أرضُه ♦♦♦♦ أحاذره من شؤمه لأتاني
ومما قاله أيضًا:
وإني لتعروني لذكراك رعدةٌ ♦♦♦♦ لها بين جلدي والعظام دبيبُ
فو الله لا أنساك ما هبَّت الصبا ♦♦♦♦ وما أعقبتها في الرياح جنوبُ
هو أبو عمرو جميل بن مَعمر من بني عذرة. أمه جذامية من اليمن. ولد ونشأ في وادي القرى شمال الحجاز، على مقربةٍ من المدينة. يروى أنَّ جميلًا كان يميل أوَّل أمره إلى ابنة عمِّه أم الجُسير، ثم مال إلى أختها بثينة وتعلَّق بها، فخطبها لكن أباها ردَّه.
وكما دأب العذريون كلهم، اشتعل ولعه إذ صُدَّ، فجعل يقول الشعر فيها، ويحوم في حيها حتى شكاه أهلها إلى مروان بن الحكم، فتوعَّده هذا بالعقاب، فهرب إلى أخواله في اليمن؛ لكنه ما إن سمع أن أهل بثينة سافروا الشام وأنَّ مروان عُزل، سافر خلفهم، ثم عاد إلى وادي القرى. ورغم أنَّ بثينة زوِّجت، ظلَّ جميلٌ يقول فيها الشعر ويزورها حتى أُهدر دمه، فهاجر إلى مصر وامتدح عبد العزيز بن مروان، ومكث هناك فترةً ثم مرض فمات سنة 82 هجرية.
تأريخ جميل بن معمر واضحٌ مقارنةً ببقية الشعراء العذريين، وهو شاعرٌ مقدَّمٌ عند النقاد، وشعره سهلٌ التراكيب، واضح المعاني، صادق العاطفة. وشعره كله في النسيب إلا من قطعتين أو ثلاث إحداها في المدح. من شعره:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً ♦♦♦♦ بوادي القُرى إني إذن لسعيدُ
وقد تلتقي الأهواء من بعد يأسةٍ ♦♦♦♦ وقد تُطلب الحاجات وهي بعيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتُها ♦♦♦♦ ويحيا إذا فارقتها فيعود
– عُلِّقتُ الهوى منها وليدًا فلم يزل ♦♦♦♦ إلى اليوم ينمو حُبُّها ويزيد
فما ذُكر الخلان إلا ذكرتُها ♦♦♦♦ ولا البخلُ إلا قلتُ: سوف تجودُ
وله أيضًا:
-كلانا بكى أو كاد يبكي صبابةً ♦♦♦♦ إلى إلفه واستعجلت عبرةً قبلي
– فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ♦♦♦♦ ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
– خليليَّ فيما عشتما هل رأيتما ♦♦♦♦ قتيلًا بكى من حُبِّ قاتله قبلي
وله أيضًا:
وإني لأرضى من بثينة بالذي ♦♦♦♦ لو أبصره الواشي لقرَّت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ♦♦♦♦ وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ♦♦♦♦ أواخره لا نلتقي وأوائله
هو قيس بن ذريح من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مُدركة. أمُّه بنت سُنَّة بن الذاهل بن عامر الخزاعي. ويروى أنَّه أخو الحسين بن علي بن أبي طالب من الرضاعة. وقد نشأ في المدينة، وفيها رأى لبنى بنت الحُباب الكعبية، فأحبها وأحبته. ولما أراد أن يتزوجها، رفض أبوه خوفًا على ذهاب ثروته إلى عائلة أخرى، لولا أن تشفع له الحسين بن علي، فزُوِّجَ لبنى. عاشا سعيدين إلا ما كان من عدم انجابهما، فأجبر الأب قيسًا على طلاق لبنى، فأخذ يشكو هيامها شعرًا، وجعل يفد على حيها، ويحوم حول بيتها حتى شكاه الحباب إلى معاوية بن أبي سفيان. ولمَّا تزوجت لبنى خالدًا بن حلزة الغطفاني، أخذه شقاء العاشقين، وأخذها مثل ما أخذه، فماتت، ومات قيسٌ بعدها.
يتميز شعره بما يتميز به شعر الشعراء العذريين من سهولة التراكيب والألفاظ، وشيوع المقطعات، والعاطفة الغالبة حتى لنلحظ ورود أشياء منحولة. وأطول قصائده تبلغ اثنين وخمسين بيتًا، مطلعها:
عفا سَرِفٌ من أهله فسُراوعُ ♦♦♦♦ فجنبا أريك فالتلاع الدوافعُ
من شعره:
إلى الله أشكو فَقْدَ لبنى كما شكى ♦♦♦♦ إلى الله فَقْد الوالدين يتيم
يتيمٌ جفاه الأقربونَ فجِسمُهُ ♦♦♦♦ نحيلٌ وعهدُ الوالدين قديم
بكت دارهم من نأيهم فتهللتْ ♦♦♦♦ دموعي فأي الجازعين ألومُ
أمستعبرًا يبكي من الشوق والهوى ♦♦♦♦ أم آخرَ يبكي شجوه ويهيم
وله أيضًا:
فإن يحجبوها أو يَحُلْ دون وصلها ♦♦♦♦ مقالة واشٍ أو عيدُ أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ♦♦♦♦ ولن يُذهبوا ما قد أجنَّ ضميري
إلى الله أشكو ما أُلاقي من الهوى ♦♦♦♦ ومن حُرَقٍ تعتادني وزفير
– وكنا جميعًا قبل أن يظهر الهوى ♦♦♦♦ بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم ♦♦♦♦ بطون الهوى مقلوبةً لظهورِ
لقد كنتُ حَسْبَ النفس لو دام وصلُنا ♦♦♦♦ ولكنما الدنيا متاع غرور
وله أيضًا:
وإن يكُ أقوامٌ أساءوا فأهجروا ♦♦♦♦ فإنَّ الذي بيني وبينك صالح
ومهما يكن فالقلبُ يا لُبنَ ناشرٌ ♦♦♦♦ عليك الهوى والجيب ما عشت ناصح
وإنكَ من لُبنى العشية رائح ♦♦♦♦ مريضُ الذي تُطوى عليه الجوانح
يلقب بمجنون ليلى، وهو قيس بن المُلوَّح أو قيس بن معاذ. ويلتبس في تاريخه، واسمه، ونسبه. فثمة من يقول إنه مجنون بني عامر، وثمة من يقول إنَّه مجنون بني جعدة. والسبب في هذا عائدٌ إلى خيال الرواة وإضافاتهم، وإلى كثرة مجانين الحب. والغالب أنَّ هذا المجنون محض شخصية خرافية.
يروى أنَّه قيس بن الملوح بن مُزاحم من بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وقد عشق ليلى واشتد هيامه حتى خولط في عقله. وليلى هذه هي ليلى بنت مهدي بن سعده بن مهدي من بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وتكنى أم مالك. ويروى أنَّ قيسًا وليلى كانا في صغرهما يرعيان غنم أهلهما في جبل التوباد، فنشأت بينهما ألفةٌ وأنس استحالا حبًّا وهيامًا. واشتهر حب قيسٍ، فرفض الأب أن يزوجه ليلى، وزوَّجها ورد بن محمد العُقيلي، ففقد قيس ما بقي من عقله ليلة زواجها. ويروى أنَّه استوحش وعاش في البرية مذ ذاك متغنيًا بالشعر هائمًا بطيف ليلى. ويروى أيضًا أنَّه حاول الاتصال بليلى بعد زواجه، فأُهدر دمه، ثم مات بعد ذلك.
وشعره، كشعر بقية العذريين متأجج العاطفة، سهل الألفاظ، مقطعات. ومن شعره:
تداويتُ من ليلى بليلى من الهوى ♦♦♦♦ كما يتداوى شاربُ الخمر بالخمرِ
ألا زعمت ليلى بأن لا أحبُّها ♦♦♦♦ بلى والليالي العشر والشفع والوتر
إذا ذُكرتْ يرتاح قلبي لذكرها ♦♦♦♦ كما انتفض العصفور من بلل القطْرِ
وله أيضًا:
وأجهشتُ للتوباد لمَّا رأيته ♦♦♦♦ وهلل للرحمن حين رآني
وأذريتُ دمع العين لمَّا رأيته ♦♦♦♦ ونادى بأعلى صوته فدعاني
وقلتُ له: أين الذين عهدتهم ♦♦♦♦ حواليك في عيش وخير زمان
فقال: مضوا واستودعوني بلادهم ♦♦♦♦ ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غدًا♦♦♦♦ فراقكِ والحيان مؤتلفانِ
سجالًا وتهتانًا ووبلًا وديمةً ♦♦♦♦ وسحًا وتسجامًا وينهملانِ
وله أيضًا:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ♦♦♦♦ يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
لحا الله أقوامًا يقولون أننا ♦♦♦♦ وجدنا طوال الدهر للحب شافيا
وماذا لهم، لا أحسن الله حالهم، ♦♦♦♦ من الحظ في تصريم ليلى حباليا
فإن تمنعوا ليلى وتحموا بلادها ♦♦♦♦ عليَّ فلن تحموا عليَّ القوافيا
أراني إذا صليتُ يممتُ نحوها ♦♦♦♦ بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
فو الله ما أدري إذا ما ذكرتها ♦♦♦♦ اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا
وما بي إشراكٌ ولكن حبَّها ♦♦♦♦ وعِظْمَ الجوى أعيا الطبيب المداويا
وحري بنا الإشارة هنا إلى أنَّ مجنون ليلى لم يكن شخصيةً حقيقيةً؛ بل شخصيةً رمزيةً نُسب إليها كل ما قيل من عشق المجانين. وكان العرب ذلك العصر ينكرون وجود هذه الشخصية. ولم يثبت التاريخ وجود شاعرين عذريين غير جميل بثينة وكثيِّر عزة، أمَّا ما قيل في مجنون ليلى وقيس لبنى من قصص وأشعار، فقصص عشاقٍ آخرين مجهولين، أو قصص متخيَّلة يمكن أن تصنف في الأدب الشعبي مما كان يروى في ليالي السمر طلبًا للأنس والمرح. (شوقي ضيف، 1987، 108). وأكثر ما يؤكد هذا أنَّ هذا النوع من القصائد تفقد تماسكها وترابطها كلَّما طالت، فتؤكد أنَّها إنما جمعت لاحقًا تربطها التجربة العاطفية نفسها لا أكثر. كما يرى ضيف أنَّ الرواة نسجوا عقدًا نفسية لإضفاء التشويق على قصص العشاق، من ذلك أنَّه كان من تقاليد العرب ألَّا يزوجوا فتياتهم لمن شبب بهن، وأنَّ هذا يجلب لهن فضيحةً، وكذلك ما كان من تهديد الولاة للشعراء بالقتل. ورأى ضيف هذا مخالفًا لتعاليم الإسلام في القتل، ورأى أنَّه من بنات أفكار الرواة، وكذلك فعلوا في ابتكار شخصيات عاشقة أخرى مثل وضاح اليمن وما كان من عشقه لأم البنين زوجة الوليد. ورغم هذا، تظل هذه الظاهرة صحيحةً حاضرةً في العصر الأموي في البوادي. (شوقي ضيف، 1976، 360 وما بعدها).
المصادر والمراجع
أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…
عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج 30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…
إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج 5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…
بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج 12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…
الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…