أدب عربي

في مهب الرماد (خاطرة)

في مهب الرماد (خاطرة)

هاجر منصور سراج 

11 يناير، 2025


والريح تعبث بي كبويب خلَّفه أهل الدار دون إصلاح؛ فغدا صريره يرتفع كل حين آنًّا متوجعًا. السماء تمطر مشفقة وتظنها تغسله مما تراكم عليه من الآلام والهموم، فإذا هي تبلله بللًا غير مرغوب وترحل، والشمس تصب حرارتها وتظنها تدفئه وتحنو عليه في وحدته، فإذا هي تهلك ما تبقى فيه، ثم تأتي الريح فتضربه بهوجائها وتظنها تداعبه، وهو مستمر في تمايله؛ فتظنه الطبيعة راقصًا طَرِبًا.

ما ظنَّت الطبيعة عكس ذلك لحظة؛ بل عجبت الشمس للطف الشعاع الذي تسبله عليه، وزهت الريح بالنسيم الذي تسوقه إليه، واغتبطت السماء للخضرة التي تحيط البويب في حنوٍ وحب. خالت الطبيعة نفسها صديقة البويب، لكنه كان ضائق الحال متبرمًا في السر، رغم أن السماء ما قتمت على رأسه لحظة، وما عصفت به الريح ناقمة، وما يبس الزرع من حوله يومًا؛ بل حلَّ الربيع على موطنه بعد أن أقفرت الديار من أهلها، واكتست الأرض ثوبًا شديد الاخضرار بعد طول إقفار وغبرة.

ما أنس البويب إلا لملاءة الليل، يتدثر بها عن حب الطبيعة الجارف. تحنو عليه الغيوم، فتثب على القمر تحجب نوره عن ألم البويب. خجل البويب من وهن حديده وتفتته، ومن صريره وعويله كلما داعبته الريح وظنته الطبيعة ضاحكًا، ومن الحال التي صار إليها بعد أن غاب أهل الديار، ومن كونه مشدودًا إلى حجر مذ عرف الدار وأهلها، ومن خوف سقوطه المحتوم.

وانبلج الصبح مرة، فبكى البويب أمام الشمس، وملأ الأرض صراخًا ظَانًّا الطبيعة زائلة بحنوها عنه؛ بيد أن الطبيعة لم تهجره لملامته، بل استحال حنوها قسوة، وحبها بغضًا، فصار البويب قنوطًا سيء المعشر؛ فلا هو عجَّل بالملامة فسلم حبهم الأول، ولا هو سكت عن الملامة فسلم بطشهم الآخِر.

بيد أن حجرًا ظلَّ متشبثًا به يتوسله البقاء، الحجر الذي بقي قابضًا البويب مذ أول عهده بالديار. رغم قنوطه وتململه، وصراخه وعويله، لم يرغب الحجر يومًا في ترك البويب، بل تشبث به تشبثَ الأم بوليدها الذي فارق الحياة منذ ساعات بعد أن وارب جفنيه فلم يسره النور. تضمه إلى صدرها بقوة رافضة دفنه، وبها رجاء أن يهبه الله بعض حياتها، بعض روحها، بعض ساعات مما وضع في عمرها. وودت لو تتسول له الساعات والدقائق من حيوات العابرين المشفقين، وودت لو تعيده إلى رحمها.

«أماه، ماذا تفعلين؟».

«ما انتظرت قدومك لتغادرني سريعًا. أي بني، ألم يسرك وجهي لتنفض رذاذ الدنيا؟ إني لمشفقة عليك من شبح الموت!».

«ما أحب رحمك إليَّ يا أماه! لكن حضن الموت به لَذة، والبقاء بين يديك به ذِلة».

فغاصت عيناها في الدموع وانسكبتا، وتهدلت ذراعاها، فسقط البويب على التراب وحيدًا بعد أنينٍ طويل. استحال حديده برادة، ثم انطلق مع الرياح رمادَ ميتٍ يبحث عن النعيم في الطبيعة بينا روحه تجوب السماء. تمنى البويب لو نزع الله الروح من واحد من أهل الديار ووهبه إياها؛ فالعيش دون روح به ذلة ومذلة.

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

شعر الزهد في العصر العباسي

شعر الزهد في العصر العباسي هاجر منصور سراج 18 يناير، 2025 يعتبر شعر الزهد من…

37 mins ago

بيت السحاب

بيت السحاب هاجر منصور سراج  14 يناير، 2025 هي خائفة من أشياء كثيرة لا تعد…

1 day ago

أُغْنِيَّةٌ فِي جَوْفِ إِنْسَان

أُغْنِيَّةُ فِي جَوْفِ إِنْسَان هاجر منصور سراج  07 يناير، 2025 الفارس الصغير على الجسر مهره…

1 day ago

الْيَدُ الشَّفَّافَة

الْيَدُ الشَّفَّافَة هاجر منصور سراج  04 يناير ، 2025 رأيتها. رأيتُ اليد الشفافة تمتد. امتدت…

1 day ago

شعر الغزل في العصر الأموي

شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…

2 months ago

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…

2 months ago