مستقبل اليمن الضائع: قراءة في رواية «بلاد بلا سماء»

مستقبل اليمن الضائع: قراءة في رواية «بلاد بلا سماء»

هاجر منصور سراج 

10 أغسطس، 2024


يقول الأعرجي إن «العقل المكبل لا يخلِّف إنسانًا حرًا مبدعًا»، وهذا ما سعى الأهدل إلى إثباته في رواية «بلاد بلا سماء»، إذ صوّر الإنسان اليمني مكبلًا بأغلال سلطات متنوعة: السلطة السياسية، السلطة الدينية، السلطة القَبَلية، السلطة التعليمية الفاسدة؛ فكان مصير هذا الإنسان الخامل الخاضع أن فقد سماءه. وسماء في الرواية شابة في سنتها الجامعية الأولى، جميلة إلى حد الظن أنها بلقيس أخرى وهبها الله للبشرية، شغوفة بتاريخ اليمن، وآثاره، وديانته السابقة، وكل ما يمت إليه بصلة، متذمرة من السلطة الذكورية القمعية والشهوانية، منطلقة من قيود المجتمع؛ إلا أنها تتحسس صليل الأغلال فتهفو إلى السلام بعيدًا عن ثقل التكبيل، وسرعان ما نجدها مفقودة في الفصل الثاني من الرواية، لكنها لا تعود مطلقًا. وهي في الرواية محض فكرة، ويتضح ذلك في عنوان الفصل الأول (الملكة)، وفي شخصيتها التي تتكامل خلال الرواية لتؤكد على فكرة أنها الحلم الذي لن يتحقق، والمستقبل الذي لن يكون، والحضارة التي انتهت منذ زمن بعيد ولن تعود ما بقي المجتمع في ضلاله.

تعتبر السماء رمزًا للصفاء، والعلو، والسمو، والتحليق، والحرية؛ وهذه هي الأشياء التي ظل كل سارد في الرواية يثبت عدميتها في المجتمع اليمني، فلا شيء من النقاء؛ إذ أن النفاق والعيش بوجهين هو السلوك العام الذي تحول إلى ظاهرة ثم خلص إلى أن أصبح عُرفًا؛ فيبدي البقال سلطان وجهًا تقيًا تؤكده زبيبة الصلاة على جبينه، ويخفي خلف الستار الديني ذكرًا شهوانيًا مبتزًا، ويخفي الدكتور عقلان وراء الواجهة التعليمية الأكاديمية رجلًا شاذًا مستبدًا، ويقاوم عليّ نشوان جانب الشهوة فيه رغبةً في التقديس الخالص لسماء والذي لا يستطيعه إلا بعد اختفاء سماء، فتزول الشهوة ولا يبقى في قلبه سوى التقديس والتبجيل والسعي وراء استعادة سمائه.

اختفت سماء في الرواية بعد فصل واحد كانت في بؤرة السرد، فبينت فيه نفورها من المجتمع الذي تعيش فيه ومن أغلال الذكور الشهوانية، والتكبيل المستمر لكل حركاتها، واختفت في ظروف غرائبية خرافية. ورمز البطلة في الرواية جلي وواضح في اسمها الكامل (سماء ناشر النعم)، وكل الأسماء في الرواية هي أسماء رمزية للفكرة، فعقلان اسم مفارق لواقع الشخص الشاذ جامعًا السلطة السياسية إلى سلطته التعلمية الأكاديمية، وسلطان رمز لسلطة المال، وعبد ربه ومطيع رمز لعبودية وضعف السلطة العسكرية أمام السلطات الأخرى وعلى رأسها السلطة القبلية، وعليّ نشوان رمز للجيل الجديد الساعي إلى استعادة مجد مسلوب؛ إلا أن النهاية التي مني بها تُظْهِر تمامًا ما مني به جيل الشباب الساعي إلى الحرية، والمتقلب بين السعي إلى العلو، والسعي إلى النشوة؛ وهذا جلي من اسمه. ولعل اسم عليّ في الرواية هو رمز للمحاولة - نظرًا لاشتقاقه من مادة العلو - لاستعادة السماء المفقودة التي صرَّح الأهدل بفقدانها في العنوان، وهو ما تجلى أيضًا في عنوان الفصل الذي حكاه عليّ (القربان)، فقد قُدِّم عليّ قربانًا لمجد المجتمع، ولتحرره من القيود، ولمستقبله الضائع، بعد أن ظلَّ متجهًا إلى جذع شجرة الرمان متعبدًا زاهدًا في كل ما حوله، غائبًا في فلك آخر. وهذا الموقف السلبي من اختفاء سماء بعد البحث المطول يرمز إلى حال جيل الشباب، وارتكان المجتمع اليمني إلى التفسير الغيبي في شؤون حياته، إضافة إلى سعي اليمني إلى البحث عن النشوة، سواء في العلاقات الجنسية، التي لم ينفك الأهدل يؤكد على كثافة حضورها منذ الصفحة الأولى في الرواية، أو في الاعتماد على الكيف والعمل على الحصول على أكبر نشوة ممكنة من القات، كما في موقف أبو علي.

تظهر الرواية من عنوانها أن القصة تعالج أعمق من قضية اجتماعية تتمثل في اختفاء ابنة قبيلة ذات نفوذ ومصيرها؛ إذ أن لفظ البلاد الذي دلَّ أقوى دلالة على أن القضية إنما هي سياسية بحتة، إلى جانب السهام النقدية التي راح الأهدل يصوبها على كل الشرائح المجتمعية الفاسدة بدءًا من الدكتور الجامعي الشاذ مرورًا بالمنافق سلطان وانتهاءً بالمشعوذ الذي احتكم إليه شيخ القبيلة رغبة في معرفة مصير سماء، وكانت الإجابة أكثر من كافية لتثبت أن اليمن - كما يقول الأعرجي - «منكوبة بأهلها: زعمائها وحكامها، بل معظم حكمائها وشيوخها وكثير من مثقفيها ونخبها المتعلمة. دع عنك سواد الناس البسطاء الذين يخيم عليهما الجهل». كل هذه المظاهر تتلاحم فيما بينها: الجنس، الكيف، الغيبيات، قوة سلاح القبيلة، خمول الشباب، فساد التعليم؛ لتؤكد أن عودة سماء أمر غير وارد أبدًا؛ فسماء في نهاية فصلها أكدت على بحثها عن الخلاص، وعودتها لن تتحقق إلا حين يتخلص المجتمع من قيوده ويبحث عن هويته وحريته.

حين يحقق النقيب العديني في اختفاء سماء، يجد أقوالًا متشابهة عن رجلٍ يرتدي بذلة أنيقة، بيج بلون الزبدة، وينتعل جزمة بيضاء، ويحمل كتابًا أبيض، وهذا الأخير أكثر ما أكَّد عليه الشهود الثلاثة: الدكتور عقلان، العتمي صاحب البوفيه، عليّ نشوان. فهو الكتاب الذي أشار إليه الكهل الغريب عندما سُئل عن سماء، وهو المكان الذي حكت سماء في مذكراتها أنها اختفت فيه. يظهر الكهل لسماء، بعد أن ظهر مرات كثيرة في أحلامها، حين أنهكها حصار الدكتور عقلان، وتَرقُب الجميع لتسليمها عذريتها، وعقب استسلامها للبكاء، وحين يجلس أمامها ببذلة العريس، وتسأله من أنت يجيب: «أنا هدف المعرفة المُقيم في قلوب الجميع». كتابه الأبيض صفحات بيضاء فارغة من أي كتابة، وحين تسأل سماء عن ذلك يبرر الكهل قائلًا: «كل الكتب السابقة لزمانها بلا كتابة» وينكر وجود سحر؛ فالكهل يحمل ما سيطوي فيه ليخلصها من عبء تخلف المجتمع وإرهاقها، فيروح يطوف حول سماء حاملًا كتابه متمتمًا بأصوات غريبة تشعر سماء بلذة عميقة وتذوب وجدًا وحبًا «في كينونة لا تسمى، حضورها البهي فوق المعقول» ورغم تلاشي العالم من حولها إلا أنها مبتهجة كل الابتهاج. ورغم تأكيد الجميع على أن غلاف الكتاب أبيض، فإن سماء وحدها من أكَّدت أن صفحاته بيضاء، فالعتمي حين رآه كان مليئًا بالكتابة، وعليّ نشوان حين رآه كانت حروف غريبة تملؤه، أين ذهبت سماء؟ اختفت في الكتاب وملأت صفحاته! تماهت في الغياب والمستقبل الضائع المجهول. ورغم انشغال كل الرموز في الرواية بالبحث عن سماء والسؤال عنها؛ إلا أن الجميع وجد له عذرًا واهيًا كي يتنصل من البحث المحموم عن سراب، فصدَّقت القبيلة كلام المشعوذ، وصمت الباقون، وقُتل عليّ، وحدها أم سماء من عرفت لغز الكهل الذي جلس مع سماء في الجامعة، بعد أن فتحت مذكراتها، وهي المرأة التي ختمت الرواية بصوتها واكتملت ملامح الرمز لديها. وافتتاح الرواية بأنثى واختتامها بأنثى، يضع الذكور والإناث في ميزان واحد ويخبر عن كفة الإناث الراجحة في المجتمع بعد أن تآكلت الشهوات والفساد والضعف كفة الذكور في المجتمع اليمني؛ إلا أن سماء بقيت مفقودة دون أي أمل في عودتها.

لا شيء في العالم يضاهي رغبة الشباب في التقدم بمجتمعهم، وحلمهم بالمستقبل المجيد، إلا أن المستقبل الذي استشرفه الأهدل عندما نشر هذه الرواية 2008 كان أكثر صدقًا من أي نبوءة، والأنكى والأمر أن ذلك المستقبل الذي فرّ من كل قيود المجتمع وتلاشى كان مبتهجًا بذلك الخلاص. إن بلادًا بلا سماء لهي بلاد بمستقبل ضائع، إن بلادًا ليس لها سماء لبلاد ملعونة، تخلى عنها الخير، ونفرت منها النعم وتركتها لدنس الأرض؛ وكل هذا نتاج سلوك مجتمعي عام انقلب ظاهرة فعرفًا؛ فظلّ الإنسان اليمني حتى نهاية الرواية دمية تحركها الخيوط المتصلة بالسلطات، وما زال كذلك.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@