قرار

قرار

قرار - قصة قصيرة

يرتعش الجهاز الأبيض الصغير المشؤوم بين يديها بينا تختلس أذناها السمع لكل حركةٍ في محيطها. وفي توترها ذاك، تبدو أصوات السيارات زعيقًا، وأصوات الأطفال الضاحكة عويلًا، وبائع الفواكه الذي يهتف أن الكيلو التفاح بمائة ريال يفزعها ويضاعف ارتباكها وارتجافها. ظهر الخطَّان أخيرًا، وشعرت معهما بحياتها تنسحب رداءً حريرًا مهلهلًا من على جسدها المتعب وتتكوم على الأرض حول ساقيها ثم تتلاشى حتى لا يبقى شيء لتراه.

تحاملت لتغادر الحمام وتأكدت ثلاث مرَّاتٍ أنَّ زوجها قد غادر، ونظرت إلى الساعة أكثر من عشر مرَّات لتتأكد أنَّها لا تزال الساعة التاسعة والنصف، وأنَّ موعد الغداء لا يزال بعيدًا، وأنَّ زوجها لن يعود بغتةً لأنه نسي شيئًا، وأنَّ، وأن...

جلستْ على سريرها مطبقةً كفيها على ركبتيها، فراعها نحولها. تبدو عظام أصابعها ضئيلةً قبيحةً، وتبرز براجمها ناتئةً بشعةً، وأناملها خشنة مقشرة لا تشبه مطلقًا اليدين اللتين مدتهما قبل خمسة أعوام إلى المنقشة في حفل زفافها. يومها قالت المرأة إنهما أجمل يدين رأتهما، وإنها تستحق نقشةً لم تنقشها لأحد؛ لكنهما الآن يدين بشعتين لو رأتهما المرأة نفسها لرفضت استقبالها!

كانت حينها سعيدةً، مبتهجةً، طربةً. وكانت تعتقد أنَّه يحق لها أن تفرح إذ تزوَّجت الشاب الذي أحبَّت؛ لكنها حين تتذكر الآن تجد صعوبةً في تلمِّس مشاعرها، في استذكار لقائهما الأول، أو حديثهما الأول، أو أي شيء مماثل. رنَّ هاتفها، فرنت إليه طويلًا دون أن تحرِّك ساكنًا، لكن صوته جعلها تتذكر أنَّه لم تلتقِ زوجها قبل الزواج مطلقًا؛ بل تعرَّفت عليه عن طريق الفيسبوك.

تبدو الذاكرة الآن كمستنقع تقف على سطحه؛ إلا أنَّها لا تستطيع النظر إلى ما يقبع في الأسفل، ومهما قدحت زناد الفكر وبعثرت نظراتها بحثًا عن الأدلة تجد نفسها تعود دائمًا خائبة. قبل يومين فقط اكتشفت أنَّ زوجها يحدِّث امرأةً كما كان يحدِّثها، بل يردد كلمات الغرام نفسها التي أرسلها إليها قبل خمسة أعوام، ويرسل الصور نفسها فكأنه لم يكبر مطلقًا رغم أنَّ شعره بدأ ينسحب وبدأت جبهته بالبروز، وعليها تضاعفت التجاعيد. أجل! كبرا، لكنَّه لا يزال في رسائله تلك يبدو كأنه لم يكبر مطلقًا.

مدَّت يدها الضئيلة النحيلة تتحسس بطنها مرتاعةً من وجود الكائن الذي تلهَّفت لقدومه طويلًا... ها قد جاء... متأخرًا كما كل شيءٍ في حياتها. حين تزوَّجت كانت كل زميلات المدرسة قد أنجبن، وحين حصلت على هاتف قديم، كان الناس قد ارتقوا جميعهم إلى هاتف ذكي، وحين دخلت الجامعة متأخرةً بعامين - انتظارًا لعريسٍ ما - كانت كل الزميلات أصغر منها، ثم سرعان ما تلقَّفنها بسخريتهن من مظهرها البالي أوَّلًا، من ذكائها المتقد ثانيًا، من هاتفها الغريب القديم ثالثًا؛ فسعت إلى التخلص من كل ذلك.

أقنعت نفسها أنَّ عليها أن تجد لنفسها مكانًا تقف عليه، مكانًا خاصًا بدل الركون إلى الأقارب كما حصل قديمًا؛ لكنها دائمًا تبرر لنفسها أنَّها كانت في التاسعة فقط حين توفي كلا والديها وتركاها عالةً على عمِّها. لم يكن عمُّها لطيفًا مطلقًا، حتى جدتها - أمُّه تخاف منه وتحسب لغضبته ألف حساب، وزوجته ترتعد وتنكص عند كل نظرة، وابنه مريض مقعد لا يزال يبول في سراويله؛ وحدها ابنته كانت صلبةً قويَّةً وقابلته النظرة الغاضبة بواحدةٍ أشد غضبًا، ورغم هذا كان يقنع نفسه أنَّها ترتعد من الداخل. وبسببها... بسبب تلك القوية الصلبة، تشعر دائمًا أنَّه أحال غيظه ومراقبته إليها.

في كلِّ مرَّةٍ كانت تعود من المدرسة، يشملها بنظراته متفحصًا مدققًا على كلِّ شيء؛ لكنها كانت دائمًا حريصةً لا تترك ذرَّة غبار بينا كانت ابنة عمِّها تلتزم بالنقاب حتى نهاية الحارة ثم تنزعه عن رأسها وتحشره في الحقيبة وتتابع الطريق إلى المدرسة سافرةً. وكل يومٍ، تتوقف قبل دخول الحارة لتضع النقاب ثم تواصل الطريق إلى البيت. لماذا لم تفعل مثلها؟ كانت مقتنعةً أنَّ عليها أن تفعل ما عُهد، لماذا التمرد؟

لكنها حين دخلت الجامعة وواجهت نفور الطالبات الأصغر منها كأنها تمثل حقبة تقليدية دفنتها مواقع التواصل تحت أكوام الشتائم، أيقنت أن عليها أن تبحث عن دائرةٍ تتقبلها، أن تصنع نفسها، أن تبتعد عن التقليد؛ إذ أن انتظار العريس عامين كاملين جعلها توقن أنَّ العيب فيها. ومن حيث لم تدرِ سارت في رحال الركب نحو الهاوية.

تخلَّت عن المركز الأوَّل في العام الثالث، وفي العام ذاته بدأت تضع بعض المكياج وتتخفف من خمارها ما إن تصل الجامعة باكرًا بعيدًا عن عيني عمِّها المتربصة؛ ثم كسرت هاتفها القديم الخَرِب وادعت أنَّه وقع وادعت أنَّ عليها حضور بعض المحاضرات عبر الانترنت حتَّى اشترى لها العم أخيرًا هاتفًا ذكيًا. انزلقت قدمها إلى الفيسبوك، ثم تعرَّفت على الشاب الخلوق الوسيم، والذي كان صديق إحدى الزميلات. أُعجِب بها، وأتخمتها كلمات الإعجاب، وحلَّقت بها كلمات الحب.

عاد الهاتف يرن، وتساءلت إن كان زوجها يرغب في شيءٍ، إن كان قد نسي شيئًا - وهو شخصٌ كثير النسيان، إن كان قد أخذ يتوهم شيئًا جديدًا! مدَّت يدها الناحلة إلى الهاتف ونظرت إلى اسم صديقة ابنة عمِّها يتردد مع كلِّ نغمة. ينطفئ الهاتف، يعود للرنين، تضيء الشاشة الملعونة، ويظل الاسم يتردد. اسم كرهته فقط قبل عام... وقبل العام لم تكن تعرف عنها سوى أنَّها فردٌ في شلّة ابنة عمِّها.

تستطيع أن تتذكر الآن حوارًا كان بينهما حين صرعتها مفاجأة الزواج من الشاب الخلوق الوسيم. يومها تعجَّبت؛ إذ لا يمكن العثور على شاب يصادق فتاةً عن طريق الفيسبوك ثم يرغب في الاقتران بها، هم دائمًا يعبثون، يلهون، يمضون فراغهم في التنقل بين الصديقات انتظارًا للزوجة العفيف المصون التي ستزفها الأم، وكان بإمكانها أن تقسم آنذاك أنَّهم لا يسألون الزوجة إن كانت عفيفًا مصونًا، أو ربما يسألون لكن لا يصلهم غير الكذب؛ فما من امرأة تجرؤ على قول الصدق وتخريب بيتها، وكانت على ثقة من أنَّها إذا تزوَّجت رجلًا ما، فستنكر أنَّها تعرف صديقها، بل ستدعي أنَّها لا تستطيع رفع رأسها إلى رجل؛ إنَّها الحياة المفعمة بالنفاق، ولا يمكنها أن تدعي الفضيلة! بل إنها على ثقةٍ من أنَّ الفضيلة في ظل العالم الافتراضي لا يمكن أن تتجسد مطلقًا.

سارت مطرقة الرأس دائمًا كما ربَّاها عمها، لا تنظر إلى رجل، لا تكلم رجلًا؛ لكنها نظرت إلى صورهم في مواقع التواصل، وكلمتهم هناك، ومازحتهم... لأنه عالمٌ منافق، ولو عاشت على الفضيلة لانتهى أمرها بتلقي السخرية من زميلاتها وصديقاتها اللواتي لم يدخرن جهدًا في السخرية منها. آمنت بمذهب عمِّها: أنا محض مكلف، وسيتكفل بي رجلٌ، سيتكفل بنفقتي كلِّها، فلماذا عليَّ أن أدرس جيدًا؟

كان الوقت عصرًا حين أرسلت إليه تسأله - للمرة العاشرة - إن كان جادًا، فأرسل يؤكد أنَّه جاد، وأنَّه لا ينوي شرًا، وأنَّه رأى فيها امرأةً فاضلة!! كادت تضحك حين نظرت إلى الكلمة الأخيرة إلا أنَّ جلوس ابنة عمِّها معها في الغرفة عينها جعلها تكتم ضحكتها وتدعي أنَّها تقرأ نكتة. عن أيِّ فضيلةٍ يتحدث؟!

لفت انتباهها أنَّ ابنة عمِّها تضح كتيبًا داخل كتاب المدرسة وتقرأ، فسألتها: «ماذا تقرأين؟».

راوغت ابنة العم، فهددتها: «سأقول لعمتي»؛ فقذفت إليها الكتيب ليحط أمامها ممعنًا في السخرية منها، قالت: «الفضيلة؟ الفضيلة؟! ما هذا؟!!».

أجابت ابنة العم حانقةً: «رواية... اسمعي، غدًا إجازة، لذلك دعيني أقرأ. ثم إنكِ أنتِ الأخرى على هاتفك مذ عدتِ من الجامعة. إن كشفتني، سأكشفك».

كانت تشك منذ زمن أنَّ ابنة العم تعرف شيئًا عن علاقتها، لكنها ظلَّت تتجاهل الأمر، وستتجاهله الآن أيضًا: «من أين حصلتِ على هذا الكتاب؟».

أجابت: «من صديقتي».

سألتها ساخرةً: «أيَّ واحدةٍ من صديقاتك؟ أنتِ تسيرين دائمًا في حشدٍ من الحمقاوات».

غضبت ابنة العم، لكنها حافظت على صوتها منخفضًا: «لماذا حمقاوات يا سيدة الرزانة؟ أنتِ نفسكِ تمشين بين كومةٍ من الفاسدات اللواتي يسكبن حياءهن على أرصفة الشوارع بضحكاتهن وتعليقاتهن السمجة. لو رآكِ أبي معهن لمنعكِ من الجامعة».

حملقت فيها متسلحةً بالصبر، ثم سألتها بذات الصوت المنخفض: «أتقولين الآن... أنَّ صديقاتك الحمقاوات مؤدبات فاضلات؟ ليس هناك شيء بهذا الاسم؟ انتهى عصر هذا الكتاب! أترين هذا الرجل على الغلاف؟ بجلبابه وشاربه المعكوف؟ أثمة من يشبهه في عصرنا؟ وبما أننا لم نعد نملك شخصًا كهذا، فإن زمن الفضيلة انتهى».

وثبت ابنة العم وانتشلت الكتيب قائلةً: «هذا رأيكِ؟ كل الأخلاق، والمبادئ، والفضائل انتهت؟».

أجابت واثقةً: «أجل».

عادت ابنة العم إلى جلستها السابقة مخفيةً الكتيب داخل الكتاب المدرسي، ثم سألت: «والحل؟».

استغربت: «حل ماذا؟».

قالت ابنة العم: «إذا انتهت كل هذه الأشياء فقد انتهت كل المنظومات الاجتماعية!».

حملقت فيها مستغربةً، ثم سألت: «من أين تأتين بهذه المفردات؟».

رنت إليها ابنة العم بنظرةٍ عجزت عن تفسيرها وعادت تقرأ الكتاب، فأطرقت تنظر إلى رسائل صديقها، ثم أرسلت: «حسنًا، تعال... لكن إياك أن يعرف عمي أنَّي أعرفك».

وحين أتى، تصنَّعت الحياء والجهل، استفسرت عن اسمه، وعمره، ودراسته، وعائلته رغم أنَّها كانت تعلم أدقَّ تفاصيل حياته؛ ارتعشت يوم حفل الخطوبة، وبكت أمام عمِّها مدعيةً أنَّها ممتنة له لكل شيء؛ لكنها لم تكن تبكي فرحًا وحزنًا كما ظنوا جميعًا، بل كانت تشعر بكل حواسها وبحدسها أيضًا أنَّها تسير على جسرٍ متهاوٍ، وقريبًا ستسقط، ولم تكن تدرك سبب ذلك الشعور مطلقًا؛ إذ كان الصديق العاشق فرحًا مبتهجًا، صادقًا في رغبته، واثقًا من اختياره، وكانت الزميلات فرحات حاسدات، وكان كل شيء في مكانه الصحيح! فلماذا شعرت حينذاك بذلك الشعور يكبل فرحتها؟!

رنَّ المنبه يذكرها أنَّها الحادية عشرة، وأنَّ عليها إعداد الغداء للزوج العاشق امرأةً غيرها! تحرَّكت تجر قدميها إلى المطبخ النظيف اللامع، المطبخ الذي تنفق فيه معظم يومها بعد أن منعها من العمل. والحقُّ أنها لم ترد أن تعمل مطلقًا، فلم يكن ذلك شيئًا زرعه عمُّها في بالها أبدًا، ولم يكن ذلك موجودًا سوى في أفكار ابنة عمِّها التي جاء يومٌ وقعتْ فيه، ومن بعدها لم تقم.

كان زوجها مسافرًا حينها، فكانت مقيمةً في منزل عمِّها؛ بل كانت في الديوان تنظفه بينا عمُّها يشاهد التلفاز. ورد اتصالٌ إلى هاتفه وأخبره المتصل أيًّا كان أنَّهم يطلبونه في المدرسة. هي لم تحضر ما حدث، لكنها بينا تطهو الأرز وتراقب كيف تموت حبَّاته تحت الماء، تستطيع أن تتخيل كلَّ ما جرى.

دخل العم غاضبًا ناقمًا، وسأل الأخصائية الاجتماعية عن سبب الاستدعاء فأخبرته أنَّ ابنته جلبت هاتفًا إلى المدرسة، ثم أمام عينيه وضعت الهاتف الذكي اللامع والذي لا يمكن مطلقًا أن تمتلكه هي أو ابنة عمِّها فلطالما تباهى عمُّها أنَّه لا يعطي امرأةً هاتفًا، بل إنَّ الهاتف الذي جلبه لها ليس إلا لضرورة التواصل، وقد سحبه منها ما إن تخرَّجت، وكسر الشريحة، ونزع البطارية؛ ثم قذفه قطعةً خاليةً من الحياة إلى قعر صندوقه الأسود، ومضى متفاخرًا.

يومها لم يصدق. وبفخره المعتاد أنكر على الأخصائية قولها. تستطيع أن تتخيل تلك الأخصائية، بل أن تتذكرها؛ فهي لم تتغير مطلقًا. ذلك النقاب الغريب الذي يبرز عينين ضيقتين تثقلهما أجفانها الملوَّنة، الصوت الرقيق الذي تخفي به خشونة صوتها وتجهمها؛ لكنها لا تستطيع مطلقًا أن تتخيل ما قالته للعم، وإن كانت واثقةً من أنَّه كلامٌ بشع عظيم المبالغة - كعادتها دائمًا.

أنكر العم المرة تلو الأخرى حتى استدعت الأخصائية الابنة لتواجه الأب. قال العم إنَّه نفسه لا يملك نقودًا لشراء هاتفًا كذلك، فقالت الابنة إنَّ صديقتها أهدتها. أصرَّت على قولها رغم نظرات الأخصائية المنتصرة، ونظرات أبيها المتجهمة. تستطيع أن تتخيل وقوفها قرب الباب في المكتب الضيِّق عابسةً زامَّةً شفتيها. وتستطيع أن تتخيل وثوب الأب ليصفعها، الصفعة تلو الأخرى، ثم الركلة تلو الأخرى؛ ثم شدها من حجابها، ثم تكالب الأساتذة عليه لنزعه عنها، ثم...، وثم...، وثم... لا تستطيع أن تتخيل البقية.

رائحة الأرز المحترق تتلوى أمامها وحولها. تستطيع شمَّه جيِّدًا، وتستطيع رؤيته يسود أمام عينيها؛ إلَّا أنَّها لا تستطيع حراكًا. تراقب الاحتراق صامتةً لا تقوى على مدِّ يدها الناحلة البشعة لإطفاء الغاز.

عاد الزوج. وقبل أن يبلغ باب الشقة، بلغته رائحة الأرز المحترق. تستطيع أن تتخيل غضبته، زمجرته، نباحه. ويذكرها هذا بزواجها. بعد شهرٍ فقط بدأ شكٌّ غريبٌ يتمدد بينهما. بدأ يفتش هاتفها، يراقب عينيها، يعلِّق على ثيابها، يغلق الستائر، يضع ملصقات داكنة على النوافذ، يمنعها من الخروج، يمنعها من التواصل مع أحد... وظهر العذر التقليدي: «خنتِ عائلتك ومبادئك بالحديث معي، فما يمنعك الآن من خيانتي؟».

صفع الباب؛ فتردد الدوي المزعج قاتلًا كل خمولٍ فيها. أطفأت الغاز وفرَّت؛ لكنَّه أمسكها قبل أن تغلق باب الحمام، وتلقَّت صفعتين قبل أن تسقط على بلاط الحمام ويغادر هو شاتمًا. حملقت في بلاط الحمام النظيف اللامع، وانتظرت أن ترى دماء الكائن الغريب في أحشائها؛ لكنها لم ترَ شيئًا.

النساء الفاضلات قديمًا كن يبتهجن بقدوم مولود ليوطد العلاقة بين الزوجين. النساء الفاضلات فقط، الفاضلات! أمَّا هي فتؤمن أنَّ الفضيلة ميِّتة مذ ظهرت مواقع التواصل. في الليل ترقد في فراشها وتستمع لضحكات زوجها مع المرأة الأخرى. تنصت جيِّدًا لصوتها، لرقتها، لملاطفتها له. وتسمع صوته الخشن القبيح يمتد عبر الشاشات لينتهك عفة المرأة الأخرى كما فعل معها. هي لا تلقي عليه اللوم كلَّه، فهي الأخرى أجرمت حين دفنت الفضيلة بيديها كي تمنع السخرية. لماذا لم تتلقَ كلام الزميلات اللعينات وتتجاهل؟ لماذا لهثت وراء صداقتهن؟ لماذا انتقمت من التقليد المتجسد في عمِّها؟ بعد أن تحدَّثت عن عمِّها مع الزميلات واستمعت لشتائمهن، عرفت أنَّه الصنم التقليدي الذي يجب تحطيمه؛ لكنها كانت في السابق ترتدي النقاب ولا تنزعه بعد الخروج من الحارة. آمنت بما أمرها به، ثم لم تعد تؤمن بشيء أثناء سعيها لكسب صداقتهن وودهن.

يعود الزوج إلى الفراش خائرًا منهكًا. يتقلَّب شاتمًا إياها كأنها تبث رائحةً نتنةً منقطعة النظير، وهي ترى فيه الأمر عينه، لكنها تكتم شتائمها. قال أخيرًا: «متى تنزعين عنكِ هذا الصمت والشرود؟ هل تحاولين التمرد؟».

التمرد!

ترددت الكلمة عميقًا داخل عقلها، ترددت ونفضت الشباك اللعينة هناك، ترددت وتركت صوتًا غريبًا داخلها ذكَّرها بصوت صديقة ابنة عمِّها يوم أخبرتها أنَّ الهاتف كان لها وأن ابنة عمِّها الشجاعة ادَّعت أنَّها صاحبته. تلك الفتاة التي عدَّت نفسها من رعاة الفضيلة والأخلاق سلَّمت نفسها للصنم التقليدي الذي بُثَّت فيه الحركة أخيرًا، فهوى عليها بقبضةٍ تلو أخرى حتى تركها مكسورةً محطَّمة.

عاد الزوج يتكلَّم: «قلنا حزينة على ابنة عمِّك التي كنتِ تشتمينها زمان! لكن ابنة عمِّك تلك ماتت قبل عامٍ ونصف، وأنتِ منذ عامٍ فقط غارقةٍ في الصمت... أهي قصة حبٍّ فاشلة؟».

تمدد الشك مجددًا وأطبق على خناقه. صاح: «تكلَّمي».

أرادت أن تخبره أنَّها لا تحب أحدًا، حتى نفسها لا تحبها. كل ما يعتمل داخلها كره محض قاتل؛ إلَّا أنَّها لم تستطع أن تنبس ببنت شفة. مدَّ يده وخنقها، استطاعت أن تشعر بكل شيء في وجهها يتورم، شفتيها، عينيها، أنفها، عروقها كلها. وحين بدأت تسعل تركها وخرج لينام خارجًا.

قالت زوجة عمِّها إن عليها أن تنجب، ولم تقل لها لماذا (عليها)؟! أرادت أن تسألها حينها، إلا أنَّها كانت تفكِّر التفكير عينه آنذاك! (عليها) أن تنجب. أمَّا الآن، والمخلوق الصغير يسبح في فلكه، فتدرك جيِّدًا أنَّه (ما كان عليها) أن تحمل؛ لكنها لا تريد أن تعود مطلَّقة إلى عمِّها ليجد عذرًا كبيرًا لحبسها في البيت. تقلِّب الأمر على جوانبه كلِّها لتدرك أنَّها في حبسٍ هنا وحبسٍ هناك.

في اليوم التالي، طبخت أشهى الطبخات، ووضعت أجمل مكياج، وارتدت أبهى الملابس؛ ثم انتظرت الزوج باسمةً وإن لم تتحدث. علَّق على مظهرها مبتهجًا، ولعن النكد الذي كانت تعيش فيه وفرضته عليه. أرادت أن تخبره أنَّها فقط تحاول تجنب شرِّه؛ لكن الكلمات، كالعادة، ظلَّت حبيسة دماغها. تلك الليلة كان معها، وفي الليلة التالية كان مع ضرَّتها الافتراضية!

في اليوم التالي، أخذت هاتفه بينا كان في الحمَّام ونظرت إلى صورة الصديقة طويلًا، ثم أخذت رقم هاتفها وحين غادر لعمله اتصلت بها. قالت لها: «احترمي نفسك، يا بنت الشوارع، كيف تكلمين رجلًا متزوجًا؟!».

كانت نبرتها محتدة، وصوتها خشنًا، وعيناها يدوران في محجريهما، وكفاها يرتعشان؛ لكن المرأة على الطرف الآخر أجابت هادئةً: «زوجك أبله، ولا أحد يفكر فيه».

تلقَّت ذلك الجواب صامتةً مصعوقةً، أرادت أن تسألها لماذا إذن تعشقينه؟ ترددين على مسمعه كلمات الغرام طوال الليل حتى يعود ليشتمني؛ لكنها ظلَّت صامتةً بينا تابعت المرأة: «لا أعلم كيف تزوَّجته؟! واضحٌ أنَّه متلاعب. أنا لا أريده... هو فقط وسيلة».

رددت شاردةً: «وسيلة؟»

أجابت الضرة الافتراضية: «أجل. وأرجو ألَّا تتدخلي فقد أوشكتُ أن أنتهي».

رددت كالحمقاء: «أتدخل؟».

أجابت الضرة الافتراضية ساخطةً: «أجل. ولعلمكِ فقط... أنا أملك صورًا لكِ؛ فإن كلَّمته عني سأفضحك».

فضيحة!

إنها الكلمة نفسها التي عاد بها عمُّها جارًا ابنته من شعرها. فضيحة! قالها صياحًا وملأ البيت سخطًا، لكن أحدًا لم يعرف؛ إذ اتخذ التدابير المناسبة. حشر البنت في كيسٍ قبل أن يدخلها البيت، وحبسها في أبعد حمِّامٍ، وأغلق نوافذ الحمام بالخشب. وهناك ضربها ولم نسمع منها سوى الأنين. أغلق الحمام بقفلٍ كبيرٍ، ومنعنا من الاقتراب. توسَّلت الجدة، فضربها، ولم تجرؤ زوجة العم على الاقتراب. وطوال الليل استمعت هي لأنينها.

رفض أن يدخل لها طعامًا، رفض أن تنظر إليها الأم، رفض استعطاف الجدة. ظلَّ يردد فضيحة! ولم تعلم حينها عن أيِّ فضيحةٍ يتحدث! بعد أسبوع، دخل ليعطيها جرعة الضرب المعتادة، فوجدها ميِّتة. كان جسدها مغطًى بالكسور والرضوض، شعرها مسحوب كلِّه على أرضية الحمام، وجهها مهشم، الدم جاف في كل زاوية. وحتى الآن لا تعلم لماذا كانت فضيحة! كان الأمر من بدايته غير واضحٍ، والهاتف الذي تسلَّمه العم ظلَّ مقفلًا كصندوقٍ أسود لا يمكن فتحه؛ إلا أنَّ العم ظلَّ يتخيل كل أنواع الرذائل داخله. تساءلت آنذاك عن الفضيلة التي ظلَّت ابنة عمِّها تنشدها. كانت سرابًا بلا ريب... بل صورة مخادعة في زمن العالم الافتراضي الهائل.

قالت للضرة الافتراضية: «اشبعي به».

وأغلقت الهاتف عازمةً على الطلاق. في اليوم التالي اتصلت زوجة عمِّها باكيةً صارخة لتخبرها أنَّ الشرطة أخذت العم إلى السجن. لم تفهم شيئًا، واستطاعت أن تتخيل رذاذ عمَّتها يتطاير على وجهها ويترك فيها نفورًا. استمعت للكلام الغريب طويلًا، وتعجَّبت أنَّ عمَّها يمكن أن يحصل على عقابه بعد عامٍ ونصف!

أخبرتها زوجة العم أنَّ العم في أخبار الهاتف، ففتحت مواقع التواصل وبحثت عن خبره. كانت صحيفة محلِّيةً كتب فيها تحقيق طويلٌ عن قصَّة ابنة العم التي حاولت التغطية على صديقتها، فتلقتها الأخصائية الاجتماعية التي يجدر بها أن تكون جديرةً بمنصبها، لكنها كانت محض حثالةٍ، ونموذج آخر للصنم التقليدي الذي قتل ابنته دون سماع التفاصيل.

تستطيع أن تتذكر جيِّدًا العزاء الذي أقاموه وادعوا أنَّ موت الفجأة فتك بالابنة. رددت الأم الباكية والجدة التعسة أنَّ موت الفجأة من علامات الساعة، وفي الغرفة ترددت كلمات النساء وحوقلتهن. بعد أن غادرت، أخبرت زوجها بكل شيء. والآن، تتساءل لماذا أخبرته؟ كان محض نذلٍ منذ البداية، وقد أخبر تلك الصحافية الحمقاء المستغلة عن القصة. كان تحقيقًا في سلسلة تحقيق لم يكن هنالك رابحٌ من ذلك غير الضرة الافتراضية!

على هاتفها أمس وصلت ثلاث صور لها مرتديةً المريلة وعلى رأسها منديلها المرقط. صورةٌ التقطها الزوج أثناء سخريته منها، أو شكواه إلى الضرة الافتراضية من الزوجة الغبية البليدة، أو تحسره على عمره الذي ضاع مع امرأة لا تحسن شيئًا سوى فرك الأرضية والجدران. حدَّقت في صورها متأملةً متعجبةً، وتساءلت إلى أيِّ مدىً بلغت نذالته؛ لكنها مطلقًا لم تسأله، ولن تسأله.

عاد. سمعت صوت المفتاح يدور، واستطاعت أن تتخيل وجهه مكظوم غيظًا. وحين صفع الباب، انتظرت وقوفه أمامها لتشتمه، لكنه بادرها صارخًا: «سيرتي على كل لسان أيتها الزوجة الفاضلة المصون! عمك الملعون قتل ابنته، والآن سيصبح خريج سجون! شوَّهتِ سمعتي يا ملعونة!».

أرادت أن تخبره أنَّه جرَّ ذلك على نفسه، لكنها لم تستطع. تذكَّرت دون سبب صوت صديقة ابنة عمِّها تبكي وتعتذر قائلةً إنَّها لا تستطيع أن تكمل حياتها وروح ابنة العم اللطيفة الشجاعة معلَّقة في عنقها. أرادت فقط أن تعترف... أن تخبرها وتبكي معها، لكن ذلك لم يزدها إلا بؤسًا؛ بينا تلقَّت هي كل ذلك صامتةً، ومن يومها لم تتكلم.

أرادت فقط أن تلاقي روح ابنة العم لتخبرها أنَّها هي من كانت على حق، وأنَّ الفضيلة التي جسَّدها المنفلوطي في شكله ذاك... قد ماتت منذ زمن. هتف الزوج بطلاقها؛ فجمعت ثيابها وغادرت. لم تنظر إليه نظرةً واحدةً، ولم تكلِّمه، ولم تتركه يتكلم؛ لكنها ابتسمت وركضت إلى الخارج.

حُكم على العم بالحبس عامًا ونصف. وافترض الجميع دون تفاصيل أنَّ قتله ابنته يتعلَّق بقضية شرف، ولم يصل كلام الصحافية إلى الحقيقة في أذهانهم؛ إذ لم يكن هنالك من يبذل روحه هكذا دون سبب. قالوا ربما ابتزتها صديقتها، ربما هددتها بفضحها، ربما... وتجاهلوا الفضيلة التي لهثت وراءها ابنة العم. ليتها هنا الآن لتقول لها انظري إلى كل المنظومات الاجتماعية تنهار. هاكِ، انظري وتمعني أنَّ لا فضيلة - كما قلتُ، وأنَّ كل شيءٍ سينهار - كما قلتِ.

كيف أعيش إذن؟!

الكائن الصغير يحوم في فلكه المعتم رافضًا الخروج قبل موعده، وهي ترفضه، والأب لا يعرف بوجوده. أبٌ نذلٌ غير قادرٍ على شيء سوى الانسياق وراء سخرية الزملاء والأصدقاء، وراء ملابس جديدة، هاتفٍ جديد، علاقةٍ جديدة. ولدهشتكِ يا ابنة العم... أصبحت الرذيلة شيئًا مستطابًا طبيعيًا، والفضيلة شيئًا شاذًا وصنمًا تقليديًا آخر.

جرعت الدواء، ثم راقبت الكائن الصغير يسيل دمًا، واستطابت الألم، لا تتسرب إليها ذرَّة ندم. وحين جاءت عجوز الجيران بعد انقضاء العدة لتطلبها زوجةً ثانيةً لابن الجيران منكوش الشعر، حسدتها زوجة العم لأنَّه يملك سيَّارةً. راقبته من النافذة يسير منفوخ الصدر، خائب المسعى، متكبر العينين؛ ولم تجد فيه سوى مزيجًا من العم والزوج. رأت في كفيه دلائل إذلال الزوجة الأولى، وتذكَّرت نحول كفيها، ورائحة الأرز المحترق، والاختناق، والتبرج طلبًا لراحة البال، والضحكات المكتومة في الليل؛ ثم نظرت إلى زوجة العم وأخبرتها أنَّها غير موافقة. وحين انتهت الفكرة، قررت أن تبحث عن الفضيلة وحدها، فربما تجدها مختبئة في ركن وظيفي مُنِعت منه، أو مالٍ لم تمتلكه، أو عرق جبين (عليها) أن تبذله؛ ثم أخرجت الشهادة الجامعية المدفونة في الصندوق الأسود، ومضت باحثةً حاملةً قرارها على كتفيها ثقيلًا ذا أجنحة.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@