أدب عربي

مواطن توظيف الأسطورة في رواية التلال: دراسة سيميائية سردية

مواطن توظيف الأسطورة في رواية التلال: دراسة سيميائية سردية*

هاجر منصور سراج

8 أكتوبر، 2024


فرَّق الشكلانيون الروس، منذ البداية، في ميدان السرد بين الخطاب (المبنى الحكائي) الذي هو دراسة للإطار الشكلي للمتن أو المحتوى، ويعتمد على دراسة الدال؛ والقصة (المتن الحكائي) الذي هو مجموع الكلمات والجمل التي تشكل التمفصل المزدوج، وعبر التحامها تشكل النص، ويعتمد على دراسة المدلول. وقد اشتغل غريماس في سيميائيته على جانب القصة، واستهدف تكوّن المدلول في النص السردي. أمَّا تخصيصه لمجال دراسته في السرد، فراجع إلى كون النص السردي بنية مكتملة المعنى متكاملة بين أجزائها، فلا يُبحث عن المعنى خارج النص السردي. وللتوضيح أكثر، لم يدرس غريماس مادة المحتوى؛ إذ لا تعنيه المضامين مطلقًا، وإنما تعنيه الأحداث التي تكون شكل المحتوى. فدراسة غريماس دراسة تمزج بين الدراسة البنيوية القائمة على الرصد والوصف، وتستهدف من خلاله المعنى الكامن الذي انبثق منه ذلك النظام الذي قام برصده. إذن، عُنِي غريماس في دراسته بهدفين: الوقوف على البنى العميقة التي تتحكم في السرد، وتقديم قواعد وظيفية للسرد.

في هذه المقالة، اتَّبعت المنهج السِّيميائي السَّردي لغريماس في تحليل الأسطورة الحاضرة في النص السَّردي لرواية التلال؛ لأنفذ إلى معرفة البنية التي أنتجت المعنى. وبما أن الأسطورة في رواية التلال مرتبطة بفيضة، (سراج، 2022). فإني سأراقب الحالات والتحولات في الرواية معتمدة على فيضة التي ظلَّ حضورها يلعب دورًا ترميزيًا في سير أحداث الرواية، ومن خلال ذلك سأخلص إلى الثنائية التي حكمت النص السردي. قَبْلَ البِدْء في ذكر إجراءات التحليل السيميائي السردي عند غريماس، لا بد من الإشارة إلى معايير التقطيع التي يتبعها التحليل السيميائي وإلى المعيار الذي اتَّبعته في تحليل الأسطورة في رواية التلال.

إن تقطيع النص ضرورة لا بد منها؛ فهو يسهِّل على الباحث التقاط دلالات النص الظاهر منها والعميق، ويشق له طريقًا واضحًا في التحليل العملي، ويسهِّل تطويق النص والإحاطة بجميع التحولات فيه. أمَّا المعايير المُعْتَمَدة في التَّقطيع فتركن إلى محددات وضوابط موجودة في النص. وقد حدَّدها جميل حمداوي في اثني عشرة معيارًا: المعيار البصري ويعتمد على ما يقدمه الخطاب من العناصر الظاهرة الخاصة بالتقنيات الطباعية والترقيمية ذات البعد الأيقوني؛ المعيار التركيبي ويستند إلى أنواع الروابط النحوية، مثل: لكن، غير أن، بيد إن؛ المعيار الفضائي ويعتمد على المؤشرات الزمانية والمكانية؛ المعيار العاملي أو الفاعلي ويعتمد على مؤشر هيمنة شخصية ما؛ المعيار الدلالي أو ثيماتي ويعتمد على هيمنة قيمة ما؛ معيار التشاكل ويعتمد في تحليله على الدلالة والصياغة والمقصدية، وهو أهم المعايير السيميائية؛ المعيار المناصي ويتعلق بالنص الموازي من عناوين وهوامش وإهداءات ومقتبسات… إلخ؛ معيار الاندماج واللاندماج ويحتكم إلى مجموعة من المعينات الرابطية من مؤشرات ضمائرية وزمانية ومكانية ويتقصى تناقضها؛ وسمَّاه عبد المجيد نوسي بالانفصال المقولي لاعتماده على المقولات الاثنانية؛ المعيار الأسلوبي ويعتمد على ملاحظة تغير الأسلوب كالانتقال من أسلوب السرد إلى الحوار إلى الوصف؛ المعيار الإيقاعي ويختص بالنصوص الشعرية ويعتمد على الوزن والقافية واللازمة الشعرية؛ معيار المنظور السردي ويستند إلى عنصر الرؤية (أو المنظور) في الرواية (الرؤية من الخلف، والرؤية مع، والرؤية من الخارج)؛ معيار الالتفات ويعتمد على الانتقال في الضمائر (المتكلم، المخاطب، الغائب)، وصيغ الأفعال (الماضي، المضارع، الأمر)، وصيغ الأسماء (المفرد، المثنى، الجمع)؛ المعيار التداولي ويعتمد على ملاحظة اختلاف الأطروحات والتوجهات الفكرية التي تبرز اختلاف المقاطع وتعتمد على أساليب الحِجَاج والرسائل والمقصديات الظاهرة والمضمرة في التقطيع. (حمداوي، 2013، ص 13 – 34؛ نوسي، 2011، ص 16).

وقد اتَّبعتُ المعيار العاملي في تقطيع الرِّواية فقسَّمت الرِّواية إلى سبعة مقاطع:

المقطع الأول:

يشكل المقطع الأول المركز المنظم الذي يتمثل في عنوان الرواية: التلال؛ وهذا العنوان يتكون من وحدة معجمية واحدة. ويحتل الصفحة الأولى من الغلاف، فقيمته موقعية. وهو من حيث التركيب يتميز بإضمار لمكونات الجملة: (الفعل، الفاعل، المفعول) للجملة الفعلية، و(المبتدأ، الخبر) للجملة الأسمية. وهذا الإضمار يدل على تبئير هذه الوحدة المعجمية. ومن خلال الرواية، يتبين أن تبئير التلال مؤشر على أهميتها وعلاقتها بالخطاب. ومن حيث الدلالة تحيل (التلال) على وحدة دالة على الكثرة والتعدد وعلى مجموعة من العناصر المتشابهة التي يُمكن جمعها تحت لفظ واحد. فعنصر العنوان من خلال خصائصه الموقعية، والتركيبية، والدلالية؛ يكتسب حجمًا مركزيًا موقعيًا، وخطابيًا، ودلاليًا؛ فهو مقطع يمثل المركز المنظم للخطاب الروائي.

المقطع الثاني:

ويمتد هذا المقطع من (ص 7 إلى 44)، وتوافق بدايته بداية الجزء الأول من الرواية. ويحتوي هذا المقطع على تحديد السارد – الممثل والفضاء السردي. فهو يحدد ممثلًا غير معين، يحكي بصيغة (نحن). أمَّا زمن السرد ففي أيام الحرب العالمية الأولى وأيام الاستعمار الإنجليزي. ويحدد هذا المقطع المكان بمدينة بعليتا. فالمهيمن العاملي هنا هو الاحتلال الإنجليزي.

المقطع الثالث:

ويمتد هذا المقطع من (ص 45 إلى 119) وينتهي بنهاية الجزء الأول من الرِّواية. ويبدأ هذا النص بتحديد مستوى التزمين «بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى (…) أحس الإنكليز أنهم بحاجة إلى إعادة احتلال المدن على الشاطئين. وكان الشعب من الثقة والبداهة بحيث أنهى عصر الاستعمار بقرار من طرف واحد، فأقام حكومة وشكَّل جيشًا»، (التلال،45). فالمهيمن العاملي في هذا المقطع الباشا محمد علي العبد الله. وينتهي المقطع بانقلاب عسكري وعزل الباشا الرئيس عن الحكم.

المقطع الرابع:

ويمتد هذا المقطع من (ص 121 إلى 186). وتوافق بدايته الجزء الثاني من الرواية المعنون بـ (بلاغ رقم واحد). ويبدأ بانتقال على المستوى العاملي، حيث يهيمن المارشال الرئيس بابكر عبود على المقطع. ويبدأ هذا المقطع ببلاغات بابكر عبود، وينتهي بقتله على يد الشعب.

المقطع الخامس:

ويمتد هذا المقطع من (ص 187 إلى 231). وهو يوافق الفصل السادس من الجزء الثاني من الرواية، ويبدأ بقول نذير النميري: «يجب ألّا يحكم عسكريّ هذه البلاد مرة أخرى»، (التلال، 187). أمَّا التَّغير العاملي فإنه يتمثل في هيمنة الرئيس الدكتور سعد الله شمداوي على المقطع.  وينتهي المقطع بفوز مرعي السنجاري بالرئاسة.

المقطع السادس:

ويمتد هذا المقطع من (ص 232 إلى 275). وهو يوافق الفصل الثامن من الجزء الثاني من الرواية. ويبدأ بوصف المدينة: «بعليتا الآن مدينة واسعة. عانقت المزيد من شاطئ النهر وتمطَّت حتى عانقت التلال»، (التلال، 232). والمهيمن العاملي على هذا المقطع هو مرعي السنجاري. وينتهي المقطع بقتل مرعي السنجاري: «أغمضوا عينيه. ثم وشَّحوا وجهه وصدره بالعلم»، (التلال، 275).

المقطع السابع:

ويمتد هذا المقطع من (ص 276 إلى 302). وهو يوافق الفصل العاشر والأخير من الجزء الثاني من الرواية. ويهيمن على هذا المقطع الجنرال الجديد مأمون ملحم الذي قام بانقلاب عسكري. وينتهي المقطع بقتل الجنرال في بيته.

سيميائية العنوان:

يعتبر العنوان من أهم العناصر في النص الموازي، وهو محدد لكثير من خصائص النصوص؛ فهو ضرورة ثقافية. وللعنوان أهمية خاصة ترجع إلى موقعيته، فهو أول عنصر يتم تبئيره في النص من طرف الكاتب الضمني. وللعنوان سلطة خاصة حيث تضع المتلقي في نسق النص. فالعنوان، رغم تبعيته، عنصر مستقل، (نوسي، 2011، ص 109). واستقلاليته هذه تتضح على مستويين: المستوى الشكلي والمستوى الدلالي. على المستوى الشكلي ينفرد العنوان بالصفحة الأولى من النص، ويتميز بتقنيات طباعية خاصة: الكتابة بحروف (كبيرة/ صغيرة)، (غليظة/ رقيقة)، (مزخرفة/ عادية) والتشكيل داخل فضاء الصفحة. أمَّا على المستوى الدلالي، فالعنوان هو أول عنصر يفتتح به النص، ونقطة الانطلاق الطبيعية والمباشرة للنص، والنواة التي يتوالد منها الخطاب. وأهمية العنوان تتمثل، بالدرجة الأولى، في عملية إثارة فضول المتلقي؛ فالعنوان نص مصغر يستهدف إفشاء سر الملفوظ الروائي. (أشهبون، 2011، ص 19).

ودراسة العنوان تتم من خلال أربعة مستويات: المستوى التركيبي، المستوى الدلالي، المستوى المرجعي، المستوى التداولي. من حيث البنية التركيبية، يتخذ عنوان الرواية شكل الوحدة المعجمية الواحدة. تبدو هذه الوحدة المعجمية على غلاف الرواية بحروف غليظة لينة في أعلى صفحة الغلاف، وتحتل حيزًا نصيًا واسعًا بالنسبة لاسم الكاتب ودار النشر. وهذه الوضعية البارزة تعطي للعنوان تمييزًا أيقونيًا.

وفي صفحة الغلاف صورة تحوي ثلاثة تلال باللون الزهري، وفي السماء قرص ذهبي، ينعكس ضوؤه على الماء. ويبدو من الانعكاس، ومن توسطه السماء، ومن ألوان الصورة أنه القمر وليس الشمس؛ فالصورة ليلية لا نهارية. ويحلق فوق صفحة الماء طائر أبيض وتحته ظله الأسود. وعلى الجانب الأيمن يظهر نصف شجرة كثيفة الأغصان، قصيرة الساق، عريضة. ودلالة هذه الصورة أسطورية؛ لأن القمر المعبود الأول، ورمز المرأة، ورمز فيضة. والشجرة أيضًا رمز فيضة، ورمز عشتار الخضراء، وهي شجرة كثيفة الأغصان. ولدينا الطائر الأبيض، ورغم عدم معرفتنا كنهه، إلا أنه أبيض؛ وهذا اللون يمثل السلام والنور. وهذه الصورة تمثل الطبيعة الخالصة التي لم تمتد إليها يد المدنية؛ فهي ثابتة لم تخضع لأي تغيير من يد الإنسان. (سراج، 2022).

أمَّا التمثيل الصوتي للعنوان، فيتكون من مجموعة من الفونيمات: ال + ت + ل+ ا + ل؛ ويمثل هذا التركيب آثارًا للمعنى الأولي المرتبط بشيء مُفْرَد حضر بصيغة المتعدد. أمَّا على المستوى التركيبي، فبنية العنوان تتبع الإضمار؛ فهي غير مسبوقة بفعل، وغير مسبوقة أو متبوعة باسم، حتى تكوِّن علاقة إسنادية في الجملة الإسمية. ومن خلال الخطاب الروائي، يمكن القول إنَّ ثمة إضمارًا سياقيًّا يدور حول العلاقة بين التلال (الطبيعة الثابتة) والمدنية المتغيِّرة؛ فالسياق يضمر: التلال والتغيُّر/ التَّطَوُّر. إلا أن الخطاب الروائي يكتفي بالتلال مجرَّدةً. وهذه الوضعية تهدف إلى تبئير التلال، ومنحها خاصية مركزية في الخطاب. فمقصدية المؤلف هي جعل التلال وحدة مركزية مفردة، نواةً يتولد منها الخطاب الروائي.

من حيث البنية الدلالية، لدينا مجموعة من العلاقات بين عنصرين: الأول يتكون من الدلائل اللغوية التي تكوِّن العنوان، والثاني يتكون من الدلالات التي تثار في الذهن والتي تحيل عليها المركبات اللغوية في علاقتها بالسياق الاجتماعي – الثقافي.

يملك عنوان الرِّواية نواة مقوماتية (صورة نووية) يمكن أن تنمو عنها احتمالات دلالية. وهذه النواة المقوماتية يمكن أن تنطلق منها مجموعة من المسارات المقوماتية (الصورية) والإمكانيات المقوماتية التي يكون بعضها محتملًا والبعض الآخر ممكنًا دلاليًا؛ لأن الدلالة الممكنة التي تولِّدها الوحدة المعجمية لا يمكن أن تتحقق كلها على مستوى الخطاب. وبِناءً على هذا، يمكن أن ينطلق من عنوان الرِّواية (التلال) مجموعة من المسارات المقوماتية. فالمقومات المركبِّة لهذه النواة المقوماتية:

التلال: ارتفاع (تراكم) + تَجَمُّع + ميت (جماد) + ثبات / – انخفاض – حي – تغيّر

وهذه النواة المقوماتية يمكن أن تنتج عدَّة مسارات مقوماتية:

  • يمكن أن تحيل التلال على عنصر جغرافي يحدد مكانًا.
  • يمكن أن تحيل على تلال غير ترابية: تلال من المال، القمح، الحطام، العظام، …

ولعل أبرز مقومات النواة المقوماتية: الثَّبات، فالتلال عنصر جغرافي طبيعي يتسم بالثبات، وهو بالنسبة للمدينة الزاخرة بالسكان ثابت في مقابل متغير.

المستوى السطحي

يقوم التحليل السيميائي على تحليل النصوص من خلال مستويين: المستوى السطحي والمستوى العميق. وبملاحظة المصطلح، يمكننا معرفة أن ما يتقصاه المستوى السطحي في دراسته هو ما يقع في المجال القابل للملاحظة، بينا يهتم المستوى العميق بمقدرة في الملفوظ. ففي الوقت الذي يتوقف عمل المستوى السطحي على النص، وسعيه على جعل المحتويات القابلة للملاحظة منتظمة في أشكال خطابية، يتجه عمل المستوى العميق إلى البحث في الإيحاءات الإيديولوجية بسبب إحالته على سيكولوجية الأعماق. ويتكون المستوى السطحي من: المكوِّن السردي والمكوِّن الخطابي. (غريماس وكورتيس وآخرون، 2014، ص 9، ص 19).

(1) المكوِّن السردي:

عند وصف المكوِّن السردي لخطاب ما، لا نختار إلا وصف الاختلافات التي تظهر في تتابع النص. فتتبع تطوُّر شخصية ما في محكيٍّ ما هو تتبع لحالات الشَّخصية، (انترفون، 2012، ص 41). ويقوم التحليل في هذا المكوِّن على تتبع الحالات والتحولات. والمصطلح الضابط لهذا المفهوم هو البرنامج السردي. ولتحديد البرنامج السردي لا بد من إدخال مفهومي الفاعل (فا)، والموضوع (م)، إلا أن ما يجب معرفته أولًا أن (فا) ليس شخصية، و(م) ليس شيئًا؛ وإنما كلاهما دور ومفهوم يُحدِّدان مواقف مترابطة (عوامل، وأدوار عاملية). وهنا لا يمكن أن يوجد (فا) دون (م)، دون تحديد العلاقة بينهما. والعلاقة بين (فا) و(م) تتجلى في شكلين:

  • ملفوظ حالة منفصل؛ أي أن (فا) و(م) في علاقة فصلة، ويعبر عن الانفصال الرمز Ս.
  • ملفوظ حالة متصل؛ أي أن (فا) و(م) في علاقة وصلة، ويعبر عن الاتصال الرمز Ո.

أمَّا التحوّل من حالة لأخرى فشكلان:

  • التحول الوصلي، ويعني الانتقال من حالة الانفصال إلى حالة الاتصال. ويُعبَّر عنه:

[(فا Ս م) ← (فا Ո م)]

  • التحول الفصلي، ويعني الانتقال من حالة الاتصال إلى حالة الانفصال. ويُعبَّر عنه:

[(فا Ո م) ← (ف Ս م)]

البرنامج السردي:

إنَّ البرنامج السردي (ب س) هو سلسلة الحالات والتحولات التي تتابع على أساس علاقة (فا) بـ (م). وفي البرنامج السردي كثيرٌ من الحالات والتحولات. (انترفرون، 2012، ص 44).

في الرواية، سأتتبع البرنامج السردي للتحرر على أساس علاقة العامل المهيمن بفيضة؛ انطلاقًا من افتراض سراج (2022) أنَّ الأسطورة الحاضرة في النص السردي هي أسطورة معبِّرة عن الخصب، وعن الانبعاث بعد الموت، وأن هذه الأسطورة قد وظِّفت في الرواية لتفيد رمزية التحرر، والوحدة، وصنع وطن جديد له خصوصيته وهويته، وأن الأسطورة كلها في الرواية قد اختصت – تقريبًا – بفيضة؛ فإني سأحدّد البرنامج السردي في المقاطع كلها، باعتبار فيضة موضوعًا. فإجمالًا، يمكن اعتبار التلال قصة كفاح للحرية. وبنيتها التركيبية الكامنة يمكن أن تختصر في الملفوظ السردي:

  • ملفوظ سردي وصلي ف (فا) ← [(فا Ս م) ← (فا Ո م)]
  • ملفوظ سردي فصلي ف (فا) ← [(فا Ո م) ← (ف Ս م)]

(فا) ستمثل العامل المهيمن على المقطع، وسيمثل (م) فيضة. وهذا الملفوظ سيعبر عن التحول بين حالة الانفصال والاتصال. يتحقق في الرواية البرنامج السردي الذي يحقق عملية الاتصال والانفصال متمثلًا في الفاعل المنفذ، أمَّا الشخصيات التي تمثل الفاعل في الرواية فـ: محمد علي باشا العبد الله، مرعي السنجاري، بابكر عبود، فيضي السعيد، سعد الله شمداوي، مأمون ملحم.

فالبرنامج السردي في المقطع الذي هيمن فيه العامل محمد علي باشا العبد الله، لم يتضمن حالة اتصال بفيضة، فلم يكن الرئيس الباشا يرغب بشيء بقدر رغبته في «أن يخبط بقدمه السميكة المربعة على رأس فيضة. لا يدري أحد ما إذا كان محمد علي العبد الله قد اشتهى يومًا هذه المرأة المشتهاة. (…) إن أمره بإبعاد فيضة، بدل أن يودعها السجن مثلًا، يعني أنها لم تثر فيه سوى الضجر تارة والاشمئزاز الأخلاقي تارة، والرغبة في الخلاص تارة أخرى»، (التلال، ص 82). فالرئيس الباشا لم يحلم مطلقًا بهوية بعليتا بقدر ما حلم بكرسي السلطة والحفاظ على السكينة في دولته؛ لذلك كان يسعى لإخراس كل الأفواه التي تنغص تلك السكينة. ولم تشكل له فكرة التحرر والوحدة النيلوتية والهوية العربية شيئًا ذا بال، بل كانت تثير فيه الضجر تارة، والإشمئزاز تارة، والرغبة في الخلاص تارة أخرى؛ إلا أنه حين داعبته فكرة الوحدة النيلوتية عند حرب المخاة «استطاعت أذناه أن تميّز صوت فيضة – أين هي الآن؟ – وعيناه رايتها الخضراء ووجهها الذي بدا لأول مرة جميلًا»، (التلال، ص 94). ومن هنا يكون الملفوظ السردي الخاص بالرئيس الباشا في حالة انفصال:

(ف Ս م)

أمَّا بالنسبة لمرعي السنجاري، فإن فيضة قد سعت إليه سعيًا في كفرطيبا، وحملته على البغلة التي سرقتها إلى مضارب قبيلتها، وهناك أقام ثلاثة أسابيع: أسبوعان بقيت فيضة تداويه فيهما، وأسبوع ثالث أقام السنجاري في مخيم الغجر لينام مع فيضة. فـ «بعد أن تأبلس السنجاري دوائيًا، أقام في المخيم أسبوعًا ثالثًا لينام فقط مع فيضة. وهكذا تأبلس جنسيًا أيضًا»، وهو «الذي اختارته فيضة حبيبًا لمدة أسبوع ليس أقل من مثل أعلى يحتذى به»، (التلال، ص 76). كما أعلن عبد العليم الغزال (شخصية من شخصيات الرواية). وهنا يكون الملفوظ السردي الخاص بالسنجاري:

ملفوظ سردي وصلي ف (فا) ← [(فا Ս م) ← (فا Ո م)]

وبالنسبة لبابكر عبود، فكان قد شاهد فيضة في عمريت بعد مقتل أبيها وخطيبها، و«كانت أقصر نظرة في حياته زمنًا وأدْوَمها تأثيرًا»، (التلال، ص122). بعد ذلك بقيت فيضة تشكل هاجسًا كبيرًا له؛ «لقد انبثق حبّها فيه كأنه طبيعة أولى، كأنه كان هناك منذ عهد قديم ثاويًا تحت تلال وركامات. ثم استوطن حشاشته أعمق مما استوطنتها عناصر تكوينه الراسبة. أحبَّها لهفة إليها، إلى صفاء رأسه واستواء أعصابه. أحبّها كضرورة لم يعرف كنهها، لكنها تأكّدت له عامًا بعد عام. ونحن نعرف أنه رجل أدمن الطبابة الذاتية فكيف لا يحبّ امرأة منحته حتى وهي غائبة البرء والسلام؟»، (التلال، ص 155). فكان موقنًا بحياتها رغم تأكيدات موتها؛ ولذلك أرسل من يبحث عنها، لكنه – رغم كل شيء – أبدًا لم يظفر بها. وهكذا يكون الملفوظ السردي الخاص ببابكر عبود في حالة انفصال:

(ف Ս م)

أمَّا فيضي السعيد، الشاب المقاتل في باب إيل، «الذي من لا مكان، من الفضاء المطلق، من أحشاء فساد برلمانيّ مماثل للذي في بعليتا، انبثق باسم النزير التعيس، وقاد في المدينة خروجًا مماثلًا للذي قاده السنجاري في الريف»، (التلال، ص 163). و«كان الأمريكيون والإنكليز والجيش المهلهل ومواسم البلاد المهدّدة ضدّ فيضي السعيد. وكانت حكومات باب إيل وبيت رع وعمريت ضد فيضي السعيد، ضدّ كل شيء يشبه فيضي السعيد، ضدَّ ألف عام قادمٍ من فيضي السعيد»، (التلال، ص 137). هذا الرجل كان رمزًا مجسًدا للفيض، للمقاومة والتحرر والبحث عن الوطن الجديد؛ ولذلك رفضته كلُّ الحكومات المستبدة الرَّازحة تحت وطأة التَّخلُّف والفساد؛ ولذلك سعتْ إليه فيضة، هبَّت إليه «عابرة جبال عمريت وشعابها، مخترقة عشرين نهرًا ورافدًا، ملتفّة حول أروقة النهر الكبير لتصل إلى باب إيل»، (التلال، ص 163). وبعد أن اتصلت بفيضي السعيد، وبعد أن اضطر هذا للانسحاب عبرت الجسر إلى بعليتا حاملًا في أيام حملها الأخيرة. وكان أن رُجِّحَ أن فيضي السعيد هو أب الجنين. فالبرنامج السردي الخاص بفيضي السعيد:

ملفوظ سردي وصلي ف (فا) ← [(فا Ս م) ← (فا Ո م)]

أمَّا سعد الله شمداوي، الذي كانت له رئاسة الوزارة سنتين بعد سنة انتقالية، فخلال حكمه ضاق الناس ذرعًا بفيضة «بدت خالية تمامًا من الطرافة والجاذبية. كانت تصرخ بينما الحالة تتطلّب الهتاف.. تصرخ بغلظة وهستيريا دون أن تخاطب شيئًا في النفوس (…) لقد أثارت الاشمئزاز ونفاذ الصبر»، (التلال، ص 197). وفي هذه المرحلة كانت هناك «ظاهرة تجتاح بعليتا بأربعة أركانها. إنهم يغسلون الأدمغة تحت سمع الجميع وبصرهم. يريدون تحطيم فكرة التقدّم»، (التلال، ص 198 – 199). وهامت فيضة في الشوارع مجنونة لا ترتبط بأي حدث من الأحداث. وهكذا يكون الملفوظ السردي هنا ملفوظ حالة:

(ف Ս م)

وبالنسبة لمأمون ملحم، الجنرال الذي كان صديق مرعي السنجاري وكان يتردد عليه ليسمع «حكايات فيضة والتقدّم والحضارة»، (التلال، ص 284)، والذي كان يشتهي فيضة اشتهاءً جنسيًا فقط؛ كانت فيضة في عهده هادئة و «لم تتكلم (…) لم تنظر إلى أحد في وجهه. كانت خاضعة، جاهزة»، (التلال، ص 286). واستعصت على الجنرال السَّفَّاح الذي قتل المئات ورماهم في النهر دون دفنهم فعادوا ليرتموا على الشاطئ. ورغم كل ما عمله ظلت مستعصية عليه. فالملفوظ السردي هنا ملفوظ حالة:

(ف Ս م)

من خلال ما سبق يمكننا أن نخرج بنتائج للملفوظ السردي:

الملفوظ السَّردي

ملفوظ الفعل [(فا Ս م) ← (فا Ո م)]

ملفوظ الحالة (ف Ս م)

فيضي السعيد

(اتصال جنسي مثمر)

مرعي السنجاري

(اتصال دوائي، اتصال جنسي)

نبذ كلي

محاولة اتصال

محمد علي باشا

سعد الله شمداوي

بابكر عبود

(محاولة اتصال عشقية)

مأمون ملحم

(محاولة اتصال جنسية)

البنية العاملية:

تتحدد البنية العاملية في ثلاثة محاور: محور التواصل، محور الرغبة، محور الصراع؛ وستة عوامل: المرسل والمرسل إليه، الذات والموضوع، المساعد والمعاكس. ويتحدد محور التواصل بين المرسل والمرسل إليه، وأمَّا محور الرغبة فيتحدد بين الذات والموضوع، كما يتحدد محور الصراع بين المساعد والمعاكس. «وهذه البنية العاملية السُّداسية بينة مجرَّدة عامة وكونية توجد في جميع الخطابات والنصوص الكونية، وتشخص صوريًا المخيال البشري، وتحدد المشترك فيه والمختلف»، (حمداوي ،2013، ص 91).

والبنية العاملية في الرواية تتجسد في خطاطتين:

  • الخطاطة الأولى:

المرسل  ←  الموضوع  ←  المرسل إليه

وبحسب الخطاطة الأولى، البنية العاملية للعوامل تكون على النحو التالي:

  • ملفوظ محمد علي باشا:

الرغبة في السلطة  ←  كرسي الحكم  ←  بعليتا

  • ملفوظ مرعي السنجاري وفيضي السعيد:

الرغبة في التحرر والتقدم  ←  سيادة الديمقراطية وتحقيق الوحدة النيلوتية وإلغاء الطبقات  ←  سكان بعليتا والدول النيلوتية

  • ملفوظ سعد الله شمداوي:

الرغبة في الانفتاح  ←  سيادة الرأسمالية  ←  بعليتا

  • ملفوظ بابكر عبود:

الرغبة في تسييد نظام سويسري  ←  سيطرة الحكم الاستبدادي  ← بعليت

  • ملفوظ الجنرال الجديد مأمون ملحم:

نبذ الرأسمالية والاشتراكية  ←  نظام الحكم السفَّاحي  ←  بعليتا وسكانها

  • الخطاطة الثانية:

المساعد   الذات   المعارض

وبحسب الخطاطة الثانية، البنية العاملية للعوامل تكون على النحو التالي:

  • ملفوظ محمد علي باشا:

الباشوات  ← الباشا  ← المتنورين من أصحاب الجيل الجديد

  • ملفوظ مرعي السنجاري وفيضي السعيد:

المتنورين من أبناء الجيل الجديد وحزب العمل مرعي السنجاري وفيضي السعيد أصحاب المصالح من الباشوية وأصحاب الفكر الإمبريالي الرأسمالي

  • ملفوظ سعد الله شمداوي:

أصحاب الفكر الرأسمالي  شمداوي   السنجاري وأصحاب الفكر الاشتراكي

  • ملفوظ الجنرال بابكر عبود:

الجيش  الجنرال بابكر عبود  الشعب

  • ملفوظ الجنرال الجديد مأمون ملحم:

الضبَّاط أصحاب المصالح   الجنرال مأمون ملحم   الشعب بكل أحزابه.

(2) المكوِّن الخطابي:

يتميَّز العامل في المكوِّن السَّردي ببنيته التركيبية، بينا يتميز الممثِّل في المكون الخطابي ببنيته الدِّلالية؛ كونه وحدة معجمية منتمية إلى الخطاب. فالتِّمظهر الخطابي يقوم على الوحدات المعجمية أو (الصور) التي هي وحدات محتوى. وهو قادر على القيام بدور أو مجموعة أدوار من خلال موقعه. فالممثِّل صورةٌ حاملةٌ دورًا عامليًا أو أكثر يحدد وضعية في برنامج سردي، ودورًا موضوعاتيًّا أو أكثر يحدد انتماءه إلى مسار تصويري أو أكثر. وهنا يتقاطع المكون الخطابي والسردي، فيصبح الممثل نقطة التقاء وتقاطع. فالبنى السردية تربط البرامج السردية بأدوار عاملية مع البنى الخطابية حيث يمكن تقليص المسارات التَّصويرية إلى أدوار موضوعاتية. يعني هذا أن التَّحليل السَّطحي يحدد دورين: دورٌ عاملي ودورٌ ثيماتي. أمَّا الدور العاملي فـ: المرسل والمرسل إليه، والمساعد والمعاكس، والذات والموضوع. أمَّا الدور الثيماتي فقد يكون دورًا عائليًا، أو دورًا نفسيًا، أو دورًا اجتماعيًا، أو دورًا أخلاقيًا… إلخ. وسأتَّبِعُ في تحليل هذا المكوِّن التقطيع المذكور في المكوِّن السابق، وسأسعى لرصد المسارات التَّصويرية والأدوار الموضوعاتية التي تعمل لتكوين النسيج النصي. (العابد، 2013، ص 31؛ حمداوي، 2013، ص 99).

المقطع الثاني:

في المقطع الثاني، كما ذكرت آنفًا، يُحَدَد السارد – الممثل، والفضاء، والزمن. وسأعمل الآن على تحديد النواة التصويرية وتجميعها لتشكل لي المسارات التي ستكون الممثل داخل الخطاب.

يحضر السارد – الممثل في الرواية بصيغة نحن:

«الآن تبدو تلك الأيام ذوائب ليل طويل (…) لقد تغيّرت الصورة.» ص 7

«أين هي المدينة؟ قبل الحرب العالمية الأخيرة، كانت مجموعة حارات صغيرة…» ص 7

«نحن الذين لم نفوّت فرصة لاختلاس النظر» ص 10

«وخلال أربعينات هذا القرن انفجرت أحداث كثيرة، هي التي سنقصّها» ص 11

«… هي الحضارة. أجل. ذلك كان توقنا وحلمنا» ص 11

«هناك التقينا المجاهدين» ص 12

«ذات مرة رجعنا من هناك قبيل الغروب، ومعنا عظمة فخذ ضخمة» ص 12

«هربنا خطوات إلى الوراء، ثم أطلقنا سيقاننا للريح» ص 13

«التفتنا حولنا بحثًا عن مصعب» ص 15

«في أوائل هذا القرن كانت مدينتنا شريطًا دوديًا» ص 19

«كانت مدينتنا مفتوحة» ص 22

«وقفنا هناك وهناك في الساحة وقوفًا متلكِّئًا» ص 30

«لم نلحظ اختفاءها في حينه» ص 31

«أحسسنا أننا حيال طقس، فارتمت وجداناتنا على حسّ عريق بالمثول والانخطاف» ص 32

«كنا نتصور أول الزمان المجيد يبدأ بعبد أسود انتزع حريته بالسيف…» ص 33

«أيامًا طويلة حرّك فينا عيد الفصح النيلوتي كلّ ما في طاقتنا من خيال» ص 35

«كان الدراويش في مدينتنا متسوّلين مقدّسين» ص 35

يحكي السارد – الممثل الأحداث بصيغة (نحن)، ويشترك مع جماعة في ردود الأفعال الحسية والمعنوية (المشاعر)، فهو لا يملك رد فعلٍ مميز وخاص، ولا يملك ملمحًا للشخصية. فالأحداث جماعية خالصة، سواء الظاهرة منها (لم نفوّت، التقينا، هربنا، أطلقنا، التفتنا، وقفنا)؛ والمعنوية (لم نلحظ، أحسسنا، نتصور، حرَّك فينا، توقنا وحلمنا). فالفعل جماعي، والإحساس جماعي، ما يدل على الوحدة في التشارك وفي النظرة؛ فالسارد هنا معبر عن الوحدة التي تحوي مجموعًا. وهو متقصٍ لكل أفعال الـ (نحن) إلا أنه لا يملك شخصية منفردة يحكي عنها، فلم ترد (قلتُ). السارد هنا يعزز الوحدة ولا يعزز الفصل؛ فالمدينة (مدينتنا) وليست (مدينتي)، فالسادر فاعل مشارك. هذه الصور ترسخ ثيمة (الجماعية).

وصيغة الحكي بالماضي، والنظرة إلى الأحداث نظرة إلى الماضي (الآن تبدو تلك الأيام، قبل الحرب العالمية الأخيرة، كانت مجموعة حارات صغيرة، وخلال أربعينات هذا القرن، سنقصّها)، فالسارد شاهد على عصره، وهو في سرده لقصة الإنسان الأول، يحكي حركة تطورية:

«… أول إنسان ارتفعت قائمتاه الأماميتان وصارتا يدين وذراعين، يريدان أن يعرفا الخطوات التي قطعها في طريقه من الهمجيّة إلى المدينة» ص 8

«بالتدريج صارت صحبة الآخر أنضر في النفس من صحبة الخلاء» ص 9

«وفي سنوات، أو قرون، أو لعلّه ألف عام، ابتعد الهمجيّ خطوة عن سديمه وازدوج عيشه» ص 9

«عندها اتخذ الصوت الصارخ في الجبال والوديان والبراري أشكالًا ونبرات ومقاطع، وصار كلامًا ولغة» ص 9

«ثم مشت يده خطوة ثانية: صنعت للخطاب والأسماء أشكالًا» ص9

«في الخطوة الثالثة صنع آلهته وخبزه وحرّيته» ص9

في هذه الصور ينبئ السارد – الممثل منذ البداية أن عمله لن يكون سوى عمل حكي للتَّطور، وقد استأنف ذلك بالإنسان النيلوتي الأول وتطوره نحو التحضر. والثيمة هنا ثيمة تطورية. فالممثل هنا سارد مشارك راصد للتطور.

المقطع الثالث:

سأجمع الصور التي ستشكل مسارات صورية للممثل: محمد علي باشا العبد الله.

«قال الباشا الرئيس لعشرات آلاف المتظاهرين والمتظاهرات (…) إن بعليتا بلاد الخصب والخيرات وقد وهبها الله كلّ ما يُمكِنُ للمعدة أن تفرح به» ص 67

«إذن فقد آن الأوان لكبح جماح أغرار السياسة المغامرين، وأحزابهم الصغيرة المضحكة» ص 68

«ليس فقط ان الباشا الرئيس متواطئ مع بريطانيا – هكذا هتف المتظاهرون – بل ويبدو أنه ورؤساء الدول النيلوتية الأخرى قد غفلوا تمامًا عن وحدة النهر الكبير، وسمحوا لبريطانيا بالتحدّث عن مصالح لها في المخاة» ص 68

«وكان الباشوات والدراويش، ومعهم أسلافنا وأقانيمنا وطواطمنا الخفية، يمثّلون أكره معالم الرثاثة في مدينتنا، وعلى النهر الكبير: السلطة الخانقة، السلطة القامعة، السلطة البشعة المطاطية، السلطة الجوفاء المتكلسة، الواقفة بلا مضمون ولا قيمة ولا نظرة تاريخية جدّية إلى العالم. السلطة السلطة.» ص 69

«الأرض والمال بيدنا، قال بابتسامة واثقة، وبغيرهما لا أحد يستطيع أن يحكم» ص 74

«إنني أستقيل وليس في البلاد جائع، والأفران مليئة بالخبز أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، والأسواق مليئة بالرز والسكر والطحين والسمن والزيت وجميع المواد التموينية الأخرى، والمحطات مليئة بالبنزين والمازوت والكاز…» ص 75

«في اليوم التالي كان يضطجع داخل جناح عصري مريح في أحد فنادق باب إيل، وحوله عدد من الباشوات الحزانى» ص 75

«كان حوله واحد وعشرون نائبًا من مئة وأربعة وأربعين، يصلحون لأي شيء إلا الجلوس على مقاعد الجمعية الوطنية كبرلمانيين. وقد أثبت هؤلاء، مع عدد من النواب اللعازرة والأوازرة، أنهم قردة وثعالب في مجمَّع من الشياه والتيوس» ص 79

«إن الدروب كلها تنتهي إليه. والخيوط كلها عالقة بيديه، والرجال كلها تصغر لديه، والبلاد كلها تتكل عليه. إن خمس سنوات تنبسط أمامه الآن بالسيطرة والمجد وتحريك الرجال وتحطيم التكتلات» ص 80

«استقبل السنجاري (…) فهذا الشاب المشعوذ (…) يصير بعبعًا في أذهان البشاوات فيمنعهم بذلك من التآمر على رئيسهم» ص 80

«يقرر نظامًا للمنح في المدرسة والجامعة للمتفوّقين والنوابغ» ص 80

«إنه لخير لك ألا يعرف الناس كم أنت ذكي وبارع. وابتسم وهو يضع استدارة قبضته تحت ذقنه ويتمشى في البهو الرئاسي الخالي متسائلًا: مَن أيضًا؟» ص 80

«مدّ الجمل رأسه إلى الأمام وأثبت عينيه على صورته الرئاسية. الشفتان المنبسطتان المنتشرتان! والأنف الحادب المديد! هذه القامة المستفيضة! ثم وضاح النهر الكبير الممتد من الكتف إلى الخاصرة إلى الظهر. حقًا أنه لمصوّر بارع» ص 81

«لقد اعتاد أن يلعب بعقول المدنيين، باشاوات وطلابًا وعمالًا وموظفين. لكن العسكر لا عقول لهم كي يلعب بها» ص 81

«إنها لم تظهر قط إلا وحملت إليه تهديدًا من نوع ما.» ص 82

«صارت السيطرة على بعليتا يسيرة. وبعد ثلاث سنوات سيمكنه السعي مع النواب لتعديل الدستور بحيث يمكن انتخابه رئيسًا للجمهورية مرة أخرى» ص 86

«المهمّ هو الاستمرار في عمليات التفكيك والتركيب بين الزعماء والنواب، لكي لا يحدث استقطاب وحزبيّة يقسمان البلاد ويفرقان الكلمة ويطيحان بالإجماع» ص 93

خلصتُ من تجميع النواة التصويرية للممثل: محمد علي باشا العبد الله، إلى مجموعة من الثيمات، ويمكن تجميع هذه الثيمات إلى مسارات صورية وتحليلها بحيث تنتج أدوارًا ثيماتية. يؤكد محمد علي باشا على توفير الأرض للغذاء: «بعليتا بلاد الخصب»، وعلى فكرة البطون الملآنة: «إنني أستقيل وليس في البلاد جائع»؛ فالمسار التصويري هنا يصور تفكير محمد علي باشا في أن البطون الملآنة لا تحتج؛ ولذلك «اضطجع داخل جناح عصري مريح في أحد فنادق باب إيل»، وهو واثقٌ أن الشعب سيرشحه مرَّةً أخرى؛ إذ كُثُرٌ من ينشدون الطعام فقط. ومحمد علي يسعى لكبح الأحزاب والتخلص منها: «آن الآوان لكبح جماح أغرار السياسة المغامرين»، كما يسعى لـ «تحطيم التكتلات» رغم ديمقراطية البلاد، فالمسار الصوري هنا هو رؤية محمد علي لسياسة الحزب الواحد فقط. ويرى أن «الأرض والمال بيدنا»، وهذان كافيان ليحكم البلد، فـ «الدروب كلها تنتهي إليه والخيوط كلها عالقة بيديه»، والمسار الصوري هنا هو رؤية محمد علي لسياسة التملك. وهو يتبع إرضاء الأطراف المزعجة: «ابتسم وهو يضع استدارة قبضته تحت ذقنه ويتمشى»، فالسنجاري يصبح «بعبعًا في أذهان البشاوات يمنعهم بذلك من التآمر على رئيسهم»، ويمنح الطلاب منحًا، ويحاول مع العسكر الذين «لا عقول لهم كي يلعب بها»، وكل ما يفعله درءًا للمشاكل، وحتى «لا يحدث استقطاب وحزبية يقسمان البلاد ويفرقان الكلمة ويطيحان بالإجماع» الذي هو إجماع عليه رغم أن المجلس البرلماني مجمع قردة وثعالب وشياه وتيوس، والمسار الصوري هنا هو سياسة الإسكات والتفريق لبقاء السيد الواحد. فالثيمات هنا: العقلية المتخلفة حضاريًا وثقافيًا، سياسة الحزب الواحد، الإخراس بسلطة المال والخوف. فالأدوار الثيماتية لمحمد علي: متخلف حضاريًا، متسلط، قوي، مراوغ.

المقطع الرابع:

يختص بابكر عبود بالمقطع الرابع، وفيه سأجمع الصور التي ستشكل مسارات صورية تحدد الأدوار الثيماتية:

«مشى جليل القامة منتصب الرأس مطبق الشفتين. ومشوا متهدّلي القامات رخوي الرؤوس، مبتسمي الشفاه» ص 127

«همهم سعدون ساخرًا: «والدليل على تقدميّة الجنرال أن أول شيء فعله أنه ابتكر سجنًا»» ص 135

«الذين عيّنهم الباشا الرئيس شخصيًا، أو الباشوات الآخرون، نالهم مرسوم تسريح ثم عشرون جلدة لكل منهم عقابًا لقبولهم المحسوبية أو سعيهم إليها» ص 139

«وفي اليوم التالي لتقديم العريضة صدر المرسوم رقم 258 بتسريح ستة من الأساتذة وخمسة من الأساتذة المساعدين وعشرة مدرّسين في كلية الحقوق» ص 139

«تساءلنا في صمت أنفسنا المنعزل عن أمر هذه الغرابة المحلية: أن تنتمي فتاة إلى حزب العمل، وأن يعتقلها الجنرال مع الباشوات» ص 143

«… المرسوم التاسع المعلِّق بالصحافة: للقيادة العامة للجيش والقوى المسلحة أن تلغي امتياز كل جريدة أو مجلة ترى في استمرار صدورها ما يؤدي إلى الإخلال بالمصلحة العامة أو بأمن البلاد أو بالعلاقات الخارجية» ص 148

«[مراسيم 210، 212، 227، بتسريح 327 من موظفي الدولة لارتباطهم بفساد العهد السابق]» ص 152

««وهل عقولنا أرقى من العقول الفرنسية، لنناقش عصارة تفكيرها وننقحها؟» (…) «نطبّق قانونهم لنصير مثلهم. هذا هو المهمّ. هؤلاء أبناء عمّ السويسريين. المهمّ رقيّ. اختلافنا عنهم يعني أننا في حالة سيّئة. ونحن يجب أن نصير مثلهم»» ص 153

«لقد فوجئ الجنرال تمامًا بهذا التهيّؤ العجيب لديه لأن يكون طاغية» ص 154

«… راح يهزّ رأسه يمين يسار، يبكي ويصرخ: (ماذا أفعل؟ ماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا؟) رسم ذراعيه إكليلًا حول رأسه، ثم انخبط على الطاولة، وراح يشهق. ثم راح يئنّ. ثم انقطع صوته. ثم نام)»

«وقد علا عدد المعتقلين حتى لطم سقف الأرقام الأربعة. هذا التضخم أصاب العقيد نوفل أبو الدهب بنوبة غضب ثانية. لقد امتلأت المخافر والنظارات» ص ص 178 – 188

شكلت هذه الصور مجموعة من المسارات الصورية، وقد جمعتها على النحو التالي: المارشال الرئيس جليل القامة منتصب الرأس، ما يحيل على دور ثيماتي فيزيولوجي: الضخامة. «ابتكر سجنًا»، «اعتقل فتاة في حزب العمل»، ألغى «امتياز كل جريدة أو مجلة» صدورها يخل بالمصلحة العامة، سرَّح موظفي العهد الباشوي السابق، تخلى عن فيضي السعيد (الذي شكل فكرة التحرر والثورة والدولة الجديدة) وسلمه لمصيره ففرط في الوحدة النيلوتية، وأمام هذا لم يكن أمامه إلا أن «انخبط على الطاولة، وراح يشهق. ثم راح يئنّ. ثم انقطع صوته. ثم نام»، وقد فوجئ إثر ملاحظته أعماله «بهذا التهيؤ العجيب لديه لأن يكون طاغية». هذه المسارات الصورية تحيل على دور الثيماتي: الطغيان. عزم على تقليد السويسريين ثم صمم على تطبيق القانون الفرنسي لأن عقولنا ليست «أرقى من العقول الفرنسية»، وهذا يحيل على دور ثيماتي: التقليد الأعمى. إذن، الأدوار الثيماتية لبابكر عبود: ضخم، طاغية، مقلِّد أعمى.

المقطع الخامس:

يختص المقطع الخامس بسعد الله شمداوي، وسأجمع الصور التي ستشكل مسارات صورية منها أستخلص الأدوار الثيماتية:

«لم يكفّ الدكتور عن تصوّر عالم بعليتي، بل ونيلوتي أيضًا، يزدهر بالصناعة في الجنوب والأطراف – وبالزراعة حول النهر الكبير، وبالحرّية المطلقة من غول الشيوعية البغيضة» ص 209

«… وإذا ما أبقي الجيش بعيدًا عن السياسة (…) فستهبط شعبية مشعوذي الطبقة المتوسّطة من أمثال السنجاري، ولن يجد حزب العمل من يشتري جريدته الإرهابية» ص 209

«… استطاعت آراء سعد الله شمداوي أن تقنع الحكومة بالموافقة على إنشاء مكتب للمعلومات الأمريكي. الاتّحاد من أجل التقدّم، كان هو الشعار الذي رفعه المكتب. وكان الدكتور (…) سعيدًا بشعار إنساني من هذا النوع، منسجم مع صورة العمّ سام في خياله.» ص 209

«لم ينزعج الدكتور للأغلبية البرلمانية التي حصل عليها، لكنه انزعج لفضل الدراويش فيها. (…) لقد أخمد سحرُهم سحر السنجاري وأحزابه» ص 210

«إن حبّ الاستبداد من شِيّم النفوس في هذه البلاد. وهو الدكتور سعد الله شمداوي عازم على استئصال شأفته وزرع الديمقراطية في تربته» ص 210

«عندما تسلم الدكتور رئاسة الوزراء أحسّ بِحَميّة رسوليّة للعمل» ص 210

«… حيث سيلتقي ضباط جيش بعليتا بضباط متحضّرين، لا شأن لهم بالسياسة، ممنَّعين ضد الشيوعية، ملتزمين بقانون البلاد والقسم العسكري.» ص 213

«إن بلادًا تنتج القصب الحلو وتصدّره سكرًا إلى كافة أنحاء العالم (الولايات المتحدة على الأخص)، والقطن الطويل التيلة وتصدّره إلى كافة أنحاء العالم (الولايات المتحدة بشكل خاص)، والبنّ البرّي ذا النكهة الفريدة وتصدّره إلى كافة أنحاء العالم (الولايات المتحدة..)، وإن بلادًا محصّنة ضد الوباء اللاتيني متمتعّة بالحرية الاقتصادية» ص 213

«من ناحيتنا، نحن سنجعل كلمة (برجوازية)، وخاصة (البرجوازية البلدية)، توحي بالفرح والسموّ، لأنها ستعني التقدّم. تقدم الإنتاج والإنتاجية.» ص 215

«سنصل إلى وضع سياسي شبيه بالذي في فرنسا» ص 216

«وقالت حياة إن ما شاهدته ليس استعمارًا وحسب، بل استعمار استيطانيّ.» ص 217

«… المشاركة في إعلان الحرب على عملاء أمريكا» ص 217

«لقد شاهد الدكتور جلسات مثل هذه في الجمعية الوطنية الفرنسية. كانت طبيعية تمامًا، وممتعة تمامًا. ولكن أولئك كانوا الفرنسيين. أما هنا! في بعليتا! …» ص 220

«لا المؤرخون ولا الشعراء والأدباء يهتموّن بكتابة الترّهات والبذاءات، وإنما ينصرفون.. المؤرخون إلى تسجيل الإنجازات والتقدّم، وهذا وحده هو المهمّ، والشعراء إلى التغني بالمشاعر والدراما في الحياة الإنسانية للفرد» ص 220

«الغول الشيوعيّ ما يزال وراء الستار الحديديّ المزعوم. لكن الغول الأمريكي صار بيننا» ص 221

«كيف يكون رئيس وزراء سمسارًا؟ كيف يعقل أن يكون أيّ حاكم سمسارًا؟» ص 222

«… أن يسلّم باستحالة المضيّ في تنفيذ برنامجه الاقتصادي دون أن تنعزل بعليتا في المآل عن الجسد النيلوتي» ص 228

شكلت هذه الصور مسارات صورية، وقد جمعتها على النحو التالي: «لم يكف الدكتور عن تصوّر عالم بعليتي، بل ونيلوتي أيضًا»، فهو مهموم بفكرة وحدة «الجسد النيلوتي»، وهذا المسار يحيل على ثيمة: الوحدة. إلا أن فوزه برئاسة الوزراء كان باستخدام سحر الدراويش الذي أخمد سحر السنجاري وأحزابه، ففوزه ناتج عن احتيال ولعب بعقول البعليتيين، وهذا يحيل على ثيمة: الاحتيال. وبعد أن تزعم رئاسة الوزراء كان سعيه أن يصل «إلى وضع سياسي شبيه بالذي في فرنسا»، وهو يتذكر جلسات الجمعية الوطنية الفرنسية ويرى الفارق بينها وبين ما يجري في بعليتا «أولئك كانوا الفرنسيين.»، فهو يسعى إلى أن يتمثل فرنسا في سعيه التقدمي، كما يتمثل أمريكا، التقدّم المتجسد، وكان يجد الشعار التقدمي «منسجم مع صورة العمّ سام في خياله»، وهو يستعمل كلمة برجوازية ويضيف إليها خصوصية بعليتية، ويسعى أن يدرِّب العسكر البعليتيين مع عسكر متحضرين رغبةً في نقل الخبرات؛ فتقليده تقليد عقلاني، ما يحيل على ثيمة: التقليد. وكان يرى ضرورة هبوط «شعبية مشعوذي الطبقة المتوسّطة من أمثال السنجاري»، وكذا حزب العمل، ويرى ضرورة بقاء «الجيش بعيدًا عن السياسة»، ويرى أن الشيوعية «غول» يجب أن تتحرر بعليتا منه، وكان يرى أن «كل مجتمع إقطاعي مجتمع بدائيّ»، (التلال، ص 235)، ما يحيل على ثيمة: اللبرالية. وفي فترة رئاسته كان حريصًا على التفكير في أن المؤرخين والشعراء والأدباء لا يسجلون إلا «الإنجازات والتقدم» ويتغنون «بالمشاعر والدراما في الحياة الإنسانية للفرد»، ومن هنا سعى إلى خلق اقتصاد عالمي لبعليتيا، فسعى إلى زيادة إنتاجية القصب الحلو والقطن والبن البريّ، ما جعله يتعاقد مع شركات أمريكية حتى غدت أمريكا في بعليتا مستعمِرة مستوطِنة، ورآه الجميع سمسارًا بعد أن صار الغول الأمريكي بينهم؛ فهو لم يهتم سوى بالإنتاج الاقتصادي، ما يحيل على ثيمة: الرأسمالية. من هنا نجد أن الأدوار الثيماتية لسعد الله شمداوي: وحدوي، محتال، مقلِّد عقلاني، لبرالي، رأسمالي.

المقطع السادس:

في المقطع السادس سأدرس الصور التي شكلت مسارات صورية أنتجت ثيمات عبَّرت عن أدوار ثيماتية لمرعي السنجاري:

«سأبني قاعدة اقتصادية لا مصلحة لأحد فيها غير البعليتيين والنيلوتيين» ص 236

«أنا قرّرت إحداث قطيعة تامّة مع الرأسمالية. قرّرت ألّا أترك لأمريكا موطئ قدم هنا إلا على جثتي» ص 237

«ستؤمّم، وتصادر، وتوزّع الأراضي» ص 237

«… أخلوا أماكنهم الآن لدراويش من نوع آخر أقاموا مساندهم وأكشاكهم عند الزوايا والتكايا وراحوا يبيعون الصحف» ص 241

«اعتادت شوارع بعليتا أن تخلو من أفواج المتسكّعين فيها على مدار اليوم، لتستقبل أناسًا يظهرون فجأة ليشتروا جريدة ويغيبوا بين سطورها» ص 241

«ألم يكن ترفًا ذهنيًا وديمقراطيًا يفوق التصوّر…» ص 242

«تعزيز الراية التي كانت فيضته وفيضي السعيد أول من حملها» ص 242

«إن بلادًا تحضّرت حتى بات مواطنوها يقرأون المقالات المقذعة عن رئيس وزرائهم فيتندّرون بها، لا يمكن أن تقبل باعتداء همجيّ على قدسيّة الفن وكرامة الفنّانين!» ص 244

«باسم الشعب النيلوتي في بعليتا تؤمم شركة الاستثمار العالمية شركة مساهمة بعليتية وتصير ملكية للشعب والدولة بموجب الحقّ القانوني…» ص 248

«كان رجلًا لا يحب العداوات» ص 249

«هو رجلٌ يخشى الموت. يخشاه مذ ذبح أبوه أخته» ص 249

«خوفه من أن يكون قد جاء ببعليتا إلى المذبح بدلًا من الشركة العالمية ظل يرغي ويزبد في أعصابه» ص 249

«تناول من درج مكتبه التقارير الصحفية التي جاءت إلى عبد العليم من دار (الصيحة) مع ترجمات مصعب وحياة» ص 251

«لم يقدّم التأميم ترخيصات عاطفيّة للشباب. لكنه أعطى الناس كلّهم إحساسًا بالقوّة، بالمقدرة على الانتقال من حال إلى حال، بالخروج إلى الحرية» ص 252

«أحسّ أنه يتوسّط حلقة من الضواري لا سبيل إلى كسرها والإفلات منها» ص 252

«من الداخل نفر خوف الفلاح القديم من الموت واعتلى نبضات قلبه. إنهم سيطيحون بكلّ شيء لا محالة. وسيكون عاجزًا عن منع هجومهم المدمّر على القوى الحيّة في النهر الكبير» ص 252

«وها هوذا الدكتور شمداوي يلتفت عند باب الخروج ويجهر: «قل لي: أنا أعرفك تمامًا. من أين واتتك هذه الشجاعة والشراسة على مناطحة أمريكا؟»» ص 252

«لكن بدنه كان يرتعش، ومسامه ترشح. ليس سهلًا أن يشعر رجل مثله بالخوف. وهو ليس بالذي سلّم جسده للغضب. فما هذه الأجمة المتشابكة من المشاعر التي تهزّه؟»

«كان مزيجًا من الضبع والسبع. وكان واضحًا أن المحاصرة العالميّة شبه المطبّقة قد فتقت فيه حسّه الصدامي القديم» ص 255

«لقد ذهب السنجاري غير مرة إلى هناك ليشارك في القطاف» ص 256

«لكن قلب السنجاري كان مليئًا بمشاعر أخرى: الحزن، الدهشة، الوجع، الخوف، الغضب» ص 257

«الصورة الشعبية للسنجاري (…) إنها لرجل متردّد متخوّف، كثير الحسابات قليل الإنجازات» ص 258

«أنا رجل فعل (…) إذا لم أتحرّك، أحسّ أن الموت يقترب مني. وأنا أوقفت حركة. حركة حيّة وتاريخيّة. بسبب تعنّت شمداوي. مصيبتي أن رجل السياسة الذي في رأسي يجب أن يحبط أحيانًا رجل الحركة الذي في دمي» ص 258

«وراء صمته وانتقال عينيه بين أفواه المتكلّمين، فاض خوف قديم، هو خوف الفلّاح العريق ولا شكّ، لكنه أيضًا خوف الفتى الذي صارت بلاده أختًا بديلة» ص 260

«بقي المسرح سيّد الحياة الثقافية» ص 262

«لقد عاد الخوف فقبع في خاطر السنجاري» ص 263

«وقبع السنجاري منتظرًا بيقين حرباوي إشارة السلام الأولى ليردّ عليها بأحسن منها» ص 268 – 269

«حاول خلال هذه السنوات أن يجنّب بعليتا الصدام الدامي ويكسب لها استقلالًا اقتصاديًا أبيض» ص 271

إن الصور المكوِّنة للمسارات الصورية تتجلى على النحو التالي: سعى السنجاري إلى بناء «قاعدة اقتصادية لا مصلحة لأحد فيها غير البعليتيين والنيلوتيين» وسعى إلى «إحداث قطيعة تامة مع الرأسمالية» وإلى توزيع الأراضي، والتأميم كي يعطي «الناس كلهم إحساسًا بالقوة» والحرية، وهذه الصور تشكل مسارًا صوريًا واحدًا يحيل على ثيمة: الوحدة والاشتراكية. وفي عهده أخلى الدراويش أماكنهم لدراويش الثقافة والصحف والانفتاح على أقوال الآخر، وراح الناس «يظهرون فجأة ليشتروا جريدة ويغيبوا بين سطورها» الأمر الذي شكل «ترفًا ذهنيًا وديمقراطيًّا»، حتى تجلَّت الديمقراطية في «قراءة المقالات المقذعة عن رئيس وزرائهم» والتندر بها. وقد أكَّد السنجاري على مساره الديمقراطي بذهابه إلى مسرحية مناهضة لرؤاه السياسية الحزبية، وسيادة المسرح للثقافة، وهذه المسارات الصورية تشكل ثيمة: الديمقراطية. وحينما تكالبت على السنجاري الهموم والمشاكل وأصوات الأعداء لم يجد أمام كل هذا إلّا أن يشعر بالخوف؛ فهو رجل «لا يحب العداوات»، وهو يخاف الموت، ويشعر بالعجز أمام المسؤولية التي أنيطت به، ويشعر بالحزن والوجع والخوف. وهو يأتي الأمور التي يدعو إليها الشعب، فقد ذهب «ليشارك في قطاف البن»، وعلى الرغم من الارتعاش الذي كان يقتحمه، واجه أمريكا بدرجة جعلت شمداوي يسأل «من أين واتتك الشجاعة والشراسة على مناطحة أمريكا»، ما يحيلنا على ثيمة: المسؤولية والشجاعة. والسنجاري «رجل فعل» يتقاتل بداخله رجل الفعل ورجل السياسة، إلا أن المواقف الشديدة كانت تخرج الشخص الصداميّ من داخله فيظهر مزيجًا من الضبع والأسد؛ ما يحيلنا على ثيمة: الثورية. إذن، الأدوار الثيماتية لمرعي السنجاري: وحدوي، اشتراكي، مسؤول، ديمقراطي، شجاع، ثوري.

المقطع السابع:

في المقطع السابع، سأجمع الصور التي شكلت مسارات صورية ومن خلالها أتبين الأدوار الثيماتية لمأمون ملحم:

«في البداية لم يصدّق الناس أن هذا الحنرال الذي يجيد رقصة هزّ البطن، الممسوح بطلاء من الدعابة، يمكن أن يتبع القول بالفعل» ص 281

«لقد زركش لون الدم الساحات والشوارع والجدران والأسوار والشجر. وبقي هناك ليراه العائدون من جحيم مأمون ملحم. كان قربانًا أضحويًّا جماعيًا يقدّم لآلهة قديمة لا ترتوي قط، تطهّرًا أملته ضرورة الاغتسال من رجس الشرق والغرب» ص 281

«أوقفت الصحف والدوريّات برمّتها في أحد بلاغات اليوم الأول» ص 283

«لكن الكتب كانت الينبوع الأكبر للخطر. فهي بلا استثناء تتكلّم ذات اليمين وذات اليسار. ألم تكن الكتب هي السبب في ظهور شمداوي والسنجاري؟» ص 283

«جيء بجميع ما في المكتبات الجامعيّة والمدرسيّة والحكوميّة والحزبيةّ، وما في دكاكين الورّاقين، وأحرق في الساحات، أو على أطراف المدينة» ص 283

«دخلت كلمة (الثورة) في مفردات حديثنا اليومي. كانت تعني النظام والاستقرار والانضباط، وإلغاء الديمقراطيّتين البرلمانيّة والنقابيّة، ورفع حصّة الدولة من أرباح مزارع القصب والقطن، وإلغاء سندات تمليك الأرض التي أعطاها السنجاري للفلّاحين، وإنشاء تلفزيون محلّي يعرض على (الجماهير) نشاطات (الثورة)» ص 284

«صحيح أنه كان أحيانًا يحسّ بشيء من تعب مفاجئ يحمله بعيدًا عن السنجاري، لكنه كان دائمًا يعود إليه في الفرصة التالية حاملًا الزاد للسياسيّ المتواري وشوقًا متجدّدًا إلى حكايات فيضة والتقدّم والحضارة» ص 284

«لقد شاهد أناسًا سعداء يعيشون بلا أفكار، ولكنهم يعيشون. وكان ذلك النمط من الحياة هو ما جعله يكره شمداوي والسنجاري معًا، وبصورة خاصة السنجاري الذي جعله بطريقة ما يعتقد أنه لن يظفر بفيضة قطّ» ص 285

«يعيد مع الشركة العالميّة صياغة العقود القديمة لتتقاسم بعليتا معها الأرباح مناصفة» ص 285

«لقد أمضى في الولايات المتحدة ستة أشهر، لم يجد فيها يمينًا هناك ولا يسارًا. لم يجد أيًا من هذه الأهواء السّكينية…» ص 285

«لقد جاء إلى الحكم ليوقف العنف، لا لكي ينجذب إليه ويغرق في دوّامته» ص 288

«… فقد حصدت رشّاشاته زعماء المضربين، وعُلِّقت جثثهم بكلّابات معدنيّة قويّة في ساحتي الشهداء والنجمة» ص 298

«يفكّر في كيف يكون مرنًا مع جيرانه الصلبين وخصومه الأشدّاء، دون أن يحيد عن صراطه التوفيقيّ.» ص 299

«كيف يمكن لهذه الكتلة الرخويّة أن تحتوي على شيء صلب مثل عشقها لسفك الدماء؟» ص 301

تشكل هذه الصور مسارات صورية على النحو التالي: ما إن قام مأمون ملحم بالانقلاب حتى «زركش لون الدم الساحات والشوارع والجدران والأسوار والشجر»، وأغرق بعليتا بالجثث، وقد استغرب الناس ولم يصدقوا «أن هذا الجنرال الذي يجيد رقصة هز البطن، الممسوح بطلاء الدعابة»، و«الكتلة الرخوية» يمكن أن تغرق بعليتا بالدماء، يمكن أن «تحتوي على شيء صلب مثل عشقها لسفك الدماء»، وأن تعلِّق الجثث بالكلابات المعدنية، وهذا يحيل على ثيمة: السفاحة، وثيمة فيزيولوجية: البدانة. والجنرال مأمون ملحم، لم يكتف بالعرس الدموي وإنما أقام عرسًا ناريًّا بإحراقه للكتب التي كانت «السبب في ظهور شمداوي والسنجاري»، وأغلق، علاوة على ذلك، الصحف؛ فالثقافة والكتب «الينبوع الأكبر للخطر»؛ لأنهما تتكلمان عن اليمين واليسار، ولا بد بعد أن تفشت آثارهما أن يريق الدماء «تطهرًا أملته ضرورة الاغتسال من رجس الشرق والغرب»، وما دام التفكير بشكل عام يزيل السعادة، ولأنه «شاهد أناسًا سعداء يعيشون بلا أفكار»، فإن التفكير في اليمين واليسار مجلبة للشر، وقد رأى ذلك في السنجاري وشمداوي ما جعله يكرههما، وهكذا راحت كلمة ثورة تعني زوال الديمقراطيتين البرلمانية والنقابيّة، وسحب سندات التمليك من الفلّاحين، ما يحيل على ثيمة: الطغيان. وهو رغم كل ما فعله يعتقد أنه «جاء إلى الحكم ليوقف العنف، لا لكي ينجذب في دوّامته»، فلم يشترك في حرب خارج بعليتا، وحجته في أي تقصير أن بعليتا ليست الدولة الوحيدة في نيلوتيا، فهو متكلٍ على غيره، وهو في نفس الوقت «يفكر في كيف يكون مرنًا مع جيرانه الصلبين وخصومه الأشدّاء، دون أن يحيد عن صراطه التوفيقي»، ما يحيل على ثيمة: المداهنة. إذن، الأدوار الثيماتية لمأمون ملحم: بدين، سفّاح، طاغية، مداهن.

إذن، يمكن جمع الأدوار الثيماتية للممثلين الذين تمَّ ذكرهم في الجدول التالي:

محمد علي باشا

بابكر عبود

سعد الله شمداوي

مرعي السنجاري

مأمون ملحم

متخلف حضاريًا

متسلط

قويّ

مراوغ

ضخم

طاغية

مقلِّد أعمى

وحدوي

محتال

مقلِّد عقلاني

لبرالي

رأسمالي

وحدوي

اشتراكي

مسؤول

ديمقراطي

شجاع

ثوري

بدين

سفَّاح

طاغية

مداهن

ومن هؤلاء كلهم، لم يكن أحد منهم على اتصال بفيضة (الأسطورة) إلا مرعي السنجاري، الذي يتضح من خلال الأدوار الثيماتية أنه مؤهل لامتلاك فكرة العروبة والبلد، فبعليتا بالنسبة له أعظم مما كانت لدى جميع الممثلين.

إنَّ التحليل السيميائي – حتى الآن – قد سمح لنا بإقامة علاقات بين البرامج السَّردية وترابطات وتسلسلات للمسارات التصويرية؛ فالمكوِّن السردي ينظم الأشكال الخطابية التي تقدمها له اللغة؛ فشبكة الصورة لا يكون لها معنى إلّا من خلال العلاقات والروابط التي تفرضها وتسطرها الشبكة السَّردية. وهذا التداخل بين المكوِّنَين هو الذي يشكل البنية السَّطحية للنص.

وهكذا تكون الخطوة الأولى من التحليل المعتمدة على (المستوى السطحي)، والتي مكَّنتنا من الكشف عن شبكة الاختلافات والفروق التي قامت على أساسها المدلولية وقياس حجم الفروق والاختلافات، قد انتهت. أمَّا الخطوة التالية في التحليل فتَنْقُلُنا من تداخل المكوِّنات السردية والخطابية إلى المنطق الَّذِي يُسيِّرُ هذا التمفصل. وهنا «نستطيع القول مجازًا إذا كانت البِنى الظاهرية تتكون (وراء) الكلمات بنسج علاقات المسارات والبرامج السردية التي تتجاوز لكسيمات النص البسيطة. فإن البنى العميقة تبني (دون) الكلمات بتنظيم ما تأسس هذه المسارات وهذه البرامج باسمه»، (انتروفرن، 2012، ص 155).

المستوى العميق

تتداخل مستويات التحليل السيميائي فيما بينها تداخلًا ينبئ عن تماسكٍ في المنهج. ففي هذا المستوى سنجد النظام المنطقي الخاضع لمجموعة من القوانين التي تُسيِّرُ شكل المعنى في النص، وتتحكم في تمفصلات العوامل في المستوى السَّردي، والصور في المستوى الخطابي. والمربع السيميائي في هذا المستوى «لا يسمح فقط برصد التّنظيم العامّ لعالم دلاليّ أدنى (المربّع التّقسيميّ)، بل أيضا لتداخل العلاقات ما بين عناصر دلاليّة تمّت محاصرتها أثناء تحليل في مستوى التّركيب السّرديّ السّطحيّ»، (غريماس وكورتيس وآخرون، 2014، ص 89)

«ويبنى المربع السيميائي على معانم دلالية محورية، وسيمات ثنائية كونية متقابلة، تشكل جوهر الحياة الوجودية للإنسان. ويعني هذا أن المربع السيميائي يقوم على سيمات ثنائية متضادة: (السعادة ≠ الشقاء)، و(الحياة ≠ الموت) و(الفرح ≠ الحزن)، و(الفشل ≠ النجاح)، و(النصر ≠ الهزيمة)»، (حمداوي، 2013، ص 114)؛ فالمربع السيميائي يقوم على مجموعةٍ من العلاقات الكامنة في العمق، وهو يظهر ثلاث علاقات: التضاد، التناقض، التضمّن. يؤشر التضاد والتناقض إلى الانفصال ويؤشر التضمّن إلى الاتصال. إذن، المربع السيميائي هو التمثيل المرئي لبِنية الدلالة الأوَّلِيّة التي هي عبارة عن علاقة تضاد أوليِّة بين لفظين على الأقلّ.

وفي النص لدينا متقابلات كثيرة وردت في المستوى السطحي في كلا المكونين السردي والخطابي:

  • النظير الاجتماعي – السياسي (الطبقات العليا الاقطاعية/ الطبقات الدنيا العاملة)
  • النظير الكوني (بعليتا والدول النيلوتية / أمريكا وفرنسا وبريطانيا والسوفييت)
  • النظير المكاني (التلال / المدن)
  • النظير الديني (فيضة / الدراويش)

هذه التقابلات تجلٍ لفكرة الصراع في الرواية. وهذا الصراع بين الصور المنتشرة في الرواية يمكن أن تجمع في ثنائية واحدة (الهوية/ الاستلاب). فمحمد علي باشا مستلب من قبل الإنجليز، وبابكر عبود مستلب من قبل التقليد الأعمى للفرنسيين، وسعد الله الشمداوي مستلب بالانقياد والخضوع للرأسمالية، ومرعي السنجاري مستلب من عدّة جهات، فكان مصيره التشتت، ومأمون ملحم مستلب من عدّة جهات لعدم وجود ثوابت عنده، فهو منطلق من مبدأ الرفض للشرق والغرب. وهؤلاء كلهم في استلابهم باحثين عن الهوية والتحرر والتقدم. ويمكن تمثيل هذا في المربع السيميائي:

فعلى مستوى النظير الاجتماعي السياسي تهدف الطبقات الدنيا العاملة إلى التحرر والتقدم والبحث عن الهوية البعليتية النيلوتية، بينا يتمسك أصحاب الإقطاعيات بالنظام الطبقي لحفظ مصالحهم. وسلطتهم في الحكم لا تبحث عن الهوية، وكل أعمالهم تمكين وتوطيد لسلطتهم، وهم متبعون للإنجليز في عاداتهم (كشرب القهوة عند محمد علي)، وهم رافضون لوجودهم الذي ينقص من سلطتهم الخاصة؛ ولذلك لم يعط محمد عليّ أيَّ اعتبار للتلال، وكانت المدينة في عصره وفي عهد الاستعمار مجموعة من الحواري المتفرقة البعيدة عن التلال. فالتلال في الرواية رمز لجذر الحضارة النيلوتية ورمز الهوية الخاصة الذي كانت بعليتا تقترب منها يومًا تلو آخر في طريقها للبحث عن الهوية النيلوتية الخالصة. والتلال أيضًا هي تلال من العظام وتلال من لحوم البشر وتلال من ركام الأموات في سبيل البحث عن الهوية الخاصة. فتلة القطن في كفرطيبا التي تشكَّلت من أجساد خمسين فلّاحًا كانت أوّل تلة في سبيل التحرر من ربقة الإقطاعية ومن بعدها تتابعت التلال على طول الرواية.

وعلى المستوى الكوني، تتنازع بعليتا والدول النيلوتية أمريكا وفرنسا وبريطانيا، كلٌّ في محاولة سلب وسيطرة؛ فظلَّت بعليتا والدول النيلوتية تكافح للبحث عن خلاصها، وحرّيتها، وهويتها الخاصة؛ ولهذا جرَّبت جميع النظم السياسية، البريطانية والفرنسية والسوفييتية، وتجلى عدم نفع النظم الشرقية والغربية في عهد الجنرال الجديد مأمون ملحم حين تذمّر من تلك النظم وراح يعمل رصاصه في أجساد أصحاب تلك الانتماءات بحثًا عن هوية خاصة ونظام خاص رغم كل المجازر التي قام بها والتي انطلقت من مبدأ الرفض غير المنظَّم.

على مستوى النظير المكاني، تمثل التلال منبع الحضارة والثبات في مقابل التغيُّر (المدن)، إلا أن هذا الثبات ليس ثباتًا مرفوضًا، وشائنًا، ومعيقًا للتقدم؛ فالتلال مهد الحضارة النيلوتية، كما ذكرت آنفًا، ومن خلالها يكون الانطلاق. فلا يمكن أن ينبتّ المتقدِّم وينسلخ ويتخلص من جذره، بل إن الجذر هو أساس التقدم وأساس الحضارة. وفي بعليتا كانت التلال معبِّرَةً عن الحضارة، وقد وعى سكان بعليتا ذلك مع الزمن فراحوا يتصلون بها، وراحوا يحتفون بها ويقتربون بمدنيّتهم منها، وراحوا يلتفون حولها. فالتلال شكّلت الهوية التي لا بد من المحافظة عليها في التقدم والرقي، وأساسًا للانطلاق الآمن نحو الآخر؛ فالتلال مثَّلت الثَّوابت التي كان ينبغي أن يتمسَّكَ بها البعليتيون منذ البداية. وفي الرواية، كان سكان بعليتا يصيرون إلى الوعي بأهمية التلال حين كانوا يتخلَّصون من استلاب أطراف متعددة لهم.

على مستوى النظير الديني، تمثل فيضة أسطورة الأم الكبرى التي كانت معبودة في الحضارة النيلوتية. وجليٌّ أن الشخصيات في الرواية كانت تبحث عن الجذر النيلوتي ومنبع الحضارة النيلوتية، وفي بحثهم راحوا يتمسكون بكلّ معتقداتهم القديمة؛ وقد تجلّى هذا في احتفاء السارد بحضور القمر. وقد كانت طقوس النيلوتيين (الغجر) تأتي عندهم أولًا، محترمة في مقابل ما كان للدراويش من التسفيه والاستخفاف من قِبل المتعلمين، والإيمان الأعمى من قِبل الأميين. وفي الرواية، خاضت فيضة عدِّة شجارات مع الدراويش الذين كانوا «متسوّلين مقدسين، كهنة مسلّطين على الوجدان ومن هناك على الجيوب. إذا لم ترهم في المعابد رأيتهم في التكايا، أو الزوايا، أو أرصفة النهر، أو نواصي الشوارع: جالسين هناك، حاضرين غائبين، وجودًا بلا كينونة، عروقًا بلا دماء، وجوهًا بلا ملامح، تاريخًا من العطالة المستبدّة بالروح»، (التلال، ص 35). في مقابل فيضة الكاهنة الباحثة عن دم أوزيري، المشتهاة، اللائثة الملتاثة، رمز التحرر والهوية، التي كانت تصطاد السمك لتطعم أهل بعليتا، كان الدراويش يبقون جالسين صنانيرهم ممدودة ولا يرفعون ذراعًا ساعات طويلة: «الحركة الوحيدة في كل ما يمتّ لهم بصلة صعدت من جوف النهر نحو الصنّارة، فإلى راس القصبة المنحني، ثم تلاشت هناك: حركة السمكات التي علقت بالشصوص وظلّت تبرعط في الماء»، (التلال، ص 14). وقد خاضت فيضة صراعات مع الدراويش آمرة إياهم أن يتركوا النهر. وفي هذا قال السارد «وقفنا حول اثنين يتهاتران وكلٌ منهما يظنّ أنه وحده يمتلك النهر والمدينة». إنه نزاع المعتقد الديني الذي وُجِدَ أولًا. وفي النهاية، كان الدراويش يطاردون بينا تبقى فيضة، فالدراويش السكون والبطالة، وفيضة التحرر والتغيّر والتطوّر. وهذان الوجودان الدينيان راحا في محاولة لسلب عقول أهل بعليتا والسيطرة عليها.

***

كان هاني الراهب مهمومًا بسؤال: ما الوطن؟ وما الهوية؟ وقد تجلَّى سؤاله هذا في هذه الرِّواية التي راحت ترصد تطور بعليتا، بل تطور الإنسان النيلوتي الذي كان أول فعل بدأه هو الانتصاب على قدميه، ثم التعرف على أنثاه، ثم بدء مرحلة الالتقاط، ثم الزراعة، ثم إنشاء القبائل. وأزعم هنا أن هاني الرَّاهب قد اطَّلع على كتاب لغز عشتار، بل قد قرأه واستوعبه استيعابًا عاليًا، وهذا الكتاب يفتتح حديثه بالإشارة إلى الحضارة النيلوتية.

وقد كتب هاني الرَّاهب روايته التلال ليعبر فيها عن ضرورة التشبث بالقيم والمبادئ التي تعبِّر عن الهوية الخاصة، ليست الهوية العربية ولا الإسلامية، بل الهوية التي شكلت الحضارة. الهوية الأعمق من الإسلام، الهوية التي شكَّلت حضارة الإنسان الأول التي يمكن بعدها الانطلاق إلى التقدّم وإلى الحداثة والرقيّ دون أن يخشى استلاب الآخر له. وفي هذه الرواية لم يحدد الرَّاهب قطرًا عربيًّا بعينه، وإنما ابتدع أسماء لبلدان هي معادل موضوعي للتعبير عن تجربة التقدم العربي. وهنا ألاحظ أن أسماء المدن مستمدة من تراث إقليم الهلال الخصيب الأسطوري، فهي (بعليتا، وعليتا، باب إيل، عمريت، بيت رع). والحق أن تسمية بيت رع قد لفتت انتباهي أوَّل الأمر؛ فليس من العبث أن يطلق الرَّاهب اسم رع الذي هو إله الشمس المصري، رغم تسليمي بشمولية التجربة الأسطورية التي تلغي الخصوصية. وبعد أن قرأت الرواية مرَّات أخرى وأخذتها بالتحليل السيميائي تبيّن لي أن بيت رع هو إشارة لمصر. وقد صرَّح الرَّاهب بذلك حين ذكر أن جنرالًا عسكريًا قام بالانقلاب في بيت رع وأزاح حكم الباشوات وأزال الطبقات. إن استعمال هاني الرَّاهب للأسطورة في روايته كان حاجة لا بد منها في معمعة تطور تقنيات الرواية، ومعمعة تطورات الواقع العربي، وتغيّرات النظم السياسية. فالأسطورة في روايته كانت أقدر التقنيات للقيام بما أراد هاني الرّّاهب إيصاله، فتضافر الشكل والمضمون لتقديم رؤية كاملة.


* هذه المقالة هي الفصل الثالث من بحث التخرج (2022) للكاتبة، بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة صنعاء. عنوان البحث: توظيف الأسطورة في رواية التلال لهاني الراهب: دراسة سيميائية سردية.


المصادر والمراجع

(1) الاتجاه السيميائي في نقد السرد العربي الحديث، محمد فليح الجبوري، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2013

(2) تجليات الأسطورة في رواية التلال، هاجر منصور سراج، 2022. ibnulyemenarabic.com

(3) التحليل السيميائي للخطاب الروائي (البنيات الخطابية – التركيب – الدلالة)، عبد المجيد نوسي، شركة النشر والتوزيع المدارس، الطبعة الأولى، 2011

(4) التحليل السيميائي للنصوص، مقدمة/ نظرية – تطبيق، فريق انتروفرن، ت: حبيبة جرير، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، 2012.

(5) الرواية السورية، نبيل سليمان، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1982

(6) السميولوجيا بين النظرية والتطبيق، جميل حمداوي، دار الريف للطبع والنشر الإلكتروني، المملكة المغربية، الطبعة الثانية، 2020

(7) السيموطيقيا السردية (من سيميوطيقا الأشياء إلى سيميوطيقا الأهواء، جميل حمداوي، دار نشر المعرفة، الطبعة الأولى، 2013

(8) السيميائيات – القاموس المعقلن في نظرية اللغة، غريماس وكورتيس، ت: رشيد بن مالك، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2020.

(9) سيميائيات الخطاب الروائي، عبد المجيد العابد، كتاب الرافد، العدد 59، ديسمبر، 2013

(10) العنوان في الرّواية العربية، عبد المالك أشهبون، محاكاة للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2011

(11) لغز عشتار – الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، فراس السوَّاح، دار علاء الدين، الطبعة الثامنة، 2002.

(12) المنهج السيميائي – الخلفيات النظرية وآليات التطبيق، غريماس وكورتيس وآخرون، تر: عبد الحميد بورايو، دار التنوير، الجزائر، 2014.

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

شعر الغزل في العصر الأموي

شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…

2 weeks ago

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…

2 weeks ago

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج  30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…

3 weeks ago

إَلِى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى

إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج  5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…

4 weeks ago

بين ألسنة الليل

بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج  12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…

4 weeks ago

نُوح

نُوح في الحلم، كان اسمه نوحًا، وكان يعرج، وكان يحمل الماء إلى أهله. السماء داكنةٌ…

4 weeks ago