مَضَّنِي الْحُلْم

مَضَّنِي الْحُلْم

مَضَّنِي الْحُلْم - قصة قصيرة

أغلقت الأمُّ الباب؛ إذ مضَّها الحُلم ولم تلمسه. ومذ دهرٍ، أُوصِدَت كُلُّ الأبواب. ولدتُ قبل يومين، فلم أعرف الطيف المتاخم، ولم أعلِّم الغربان النعيق. عرفتُ من الأخوة المرتعشين في البرد، أنَّ الباب يفتح في الشتاء فحسب، يومين فقط. لم أميِّز الشتاء من غيره سوى بالبرد والثلج. تدفع الأم العصافير إلى الثلج، فنتقلَّب فوقه تأخذنا بهجة التنفس، ثم تأخذنا رعشة البرد، فنمرض.

حين نتقلب في الثلج، تلوح لنا مغارةٌ معتمةٌ. تقول العصافير فيها يرقد الأب؛ إذ مضَّه الحلم وعجز! تقول العصافير إنه اعتزل الأمَّ منذ دهر. ومذ يومها، تكوِّر الأم الثلج، وتلفه بريشها، ثم تلقيه في النار. يمضي شتاءان حتى يصبح الثلج بيضًا، ونفقس نحن. تقول الأم إننا نولد، ولا تقول إننا نفقس. تقول إننا نولد من قلب الثلج، فحري بنا أن نتناغم معه؛ لكنه يظل يمرضنا كلَّ عامٍ مهما نتقلَّب فيه.

تقول العصافير اعتزل الأبُ الأمَّ وعلَّم الغربان النعيق. درَّبها على الطيران، درَّبها على الهجوم، درَّبها على سرقة مجوهرات الأم المنسوجة من الجليد. تعرف الأم كلَّ ذلك، لكنها تلومنا نحن حين تتناقص أحجار الجليد اللامعة من على جدران القلعة المغلقة.

أُتْخِمنا بالمرض، وتناقصت أعدادنا يومًا تلو آخر. راقبتُ أخوتي العصافير يموتون بين الثلج. ترميهم العاصفة بعيدًا أو تدفنهم، والأم تراقب ذلك شاخصة البصر نحو المغارة. تحلِّق الغربان بعد أن تنتهي العاصفة. تنبش الثلج وتلتقط أخوتي العصافير وتحملهم بعيدًا. لا تفتح الأمُّ الأبواب، ولا أيَّ بابٍ، ولا تتلقى الجثث الصغيرة، ولا تجمعها، ولا ترسل سهمًا إلى أيِّ غراب. تتقبل كلَّ ذلك صامتةً خانعةً.

في الشتاء الماضي، أكل غرابٌ أختي العصفورة. رأيته ينبش الثلج حتى عثر عليها. وحين غرس منقاره الأسود في عينها، جذبها ثم أخذها بالنقر. استغرق الأمر طويلًا. راقبته النقرة تلو الأخرى، أحصيت حركات جناحيه، نعيقه، خطواته، خفقات قلبه.

تحيَّنتُ الفرصة حين كانت الأمُّ تدرِّب جناحيها الضئيلين على التحليق، وقذفته بحجرٍ صغيرٍ فيروزي. أصبته في قدمه، فحجل مبتعدًا، ثم حلَّق. راقبتُ جسد العصفورة الأبيض منهوشًا؛ لكن الثلج ما لبث أن ستره، ودفنه الشتاء.

لم تفتح الأم الأبواب في غير الشتاء. يمرضنا العتم، ويسقمنا الهواء الحار، ويقتلنا الجوع. تقول العصافير إن الأم تنتظر الأب كي يفتح الأبواب بجناحيه الكبيرين ويحملها إلى الحلم؛ لكن الأب لم يعد منذ دهر. تكوِّر الأم البيوض الثلجية، وتنتزع ريشها ريشةً تلو أخرى. ريش الأم لا ينمو... ويومًا تلو آخر، تصبح قرعاء عاجزةً عن الطيران. تراقب سلالة الطيور الجليدية تولد في النار، وتعلِّم الغربان النعيق.

أنا لم أعلِّم الغربان النعيق، ولم أعارض سوادها ببياضي. أتيت من النار وحدي. ربما كنتُ محض دودةٍ في الثلج، كوَّرتها الأم، ثم قذفتها النار؛ فالكرات لا تستحيل جميعها بيضًا!

في الشتاء التالي، تكوَّرت الأم في الثلج، وأمرتنا أن نضمها في كرةٍ ضخمةٍ، ثم نلقيها للنار. احتشدنا جميعًا، ولففناها في كرةٍ كبيرةٍ. وفي كلِّ مرةٍ، تذوب الكرة، وتبقى الأمُّ عاريةً من ريشها. غِصتُ في الثلج بحثًا عن الديدان. ألقمتُ الأم الديدان، وأسقيتُها دماء أخوتي الموتى. أقذف الغربان بالحصي الفيروزية، وأعصر جثث أخوتي بحثًا عن شراب للأم.

من المغارة الكبيرة، دوى صوتٌ غريب. لم يكن نعيقًا، لم يكن عويلًا. استمعنا، الأم وأنا، إليه صامتين، وترقبنا، لكنه لم يسفر عن شيء. وحين أقبل الليل، لم تستطع الأم أن تنهض لتدخلنا القلعة، وتغلق الأبواب. ظلَّت ترقد عاريةً في الثلج. كسوتها بريش الغربان المتساقط، وجمعتُ حولها جثث العصافير البيضاء، ثم دفنتها في الثلج. في الليل، دنا القمر متعجبًا. حملق فيَّ بعشرين عينًا، ثم بصق عليَّ وغادر. في النهار، استحالت بصقته الشفافة دمًا. راقبت الثلج كلَّه يستحيل أحمر، ثم جررتُ الكرة إلى النار. قذفتُ الأم إلى النار، وراقبتُها صامتًا.

في الخارج، دوى نعيق الغربان فوق بصقة الدم القمرية. طاب لي سماع نعيقها المرعوب. تقول الأم إننا نعلِّم الغربان النعيق؛ إذ يستحيل الهواء كله نعيقًا حين نولد! تحوم الغربان حول القلعة، وتنعق. لا تقول إن الأب من علَّمها! لكني أعلمُ أنَّهُ علَّمها العدوان، ودربها على الشماتة.

ظلَّت الأم في النيران. حلَّ الصيف، ولم يستحل الثلج بيضًا. وفي كلِّ يومٍ، أشمُّ رائحة الدم. خرجتُ في الصيف، وأطراف النهار ممدودة. حدَّق النهار فيَّ مندهشًا، ثم صفعني. ولدتُ في اليوم التالي بلونٍ مختلف. استحال البياض فيروزًا، كألوان الحصيات الصغيرة. مضيتُ متبخترًا، ولحقتني العصافير. وحين سمعنا نعيقَ الغربان، لم نختبئ. تحدينا حضورها، فردنا أجنحتنا، ركضنا... ثم حلَّقنا! صفقت أيدي النهار الكثيرة. وحين جاء الليل، تعاركا؛ إذ رفض النهار أن يغادر.

في الصيف، جاء شبحٌ غريب. كان يحمل كيسًا كبيرًا على ظهره. يتدلى الكيس طويلًا، فيجرجره الشبح خلفه. هربنا إلى القلعة، وأغلقنا الأبواب. ارتجفنا، وأنصتنا لجرجرته الثقيلة. حبسنا أنفسنا طوال الشتاء؛ إذ كان يرقد على بابنا. لم نسمع نعيق الغربان، ولم يدن القمر. راقبته من النافذة يحدِّق في الشبح غير قادرٍ على البصق، غير قادرٍ على الغياب. يثبته الشبح بمنجله، ويشده بسلسلةٍ قوية. صلصلة السلسلة في الليل، ترجفنا. نتكوم أمام النيران، وندعو الأم أن تتحول بيضةً، ثم تفــ... تولد. لم تولد الأم!

مضى شتاءٌ آخر، والشبح رابضٌ بالباب. لم يطلع النهار. في كلِّ مرةٍ يأتي متبخترًا، يرى الليل باكيًا؛ إذ يريد النكوص وتثبته سلاسل الليل. يفزع النهار ويهرب. ومذ مدَّةٍ، لم نره. أتوق إلى الثلج، أتقلب عليه في الحلم. أحلم... ويمضّني الحلم. يستحيل الريش الفيروزي أبيض، ثم يسقط. تتلوى أجساد العصافير عاريةً واهنةً. وفي كلِّ ليلةٍ، يقتلنا الجوع، لكننا لا نموت!

يمضّني الحلم أكثر من الجوع! أحلم بالثلج باردًا، دافئًا، خانقًا، منعشًا! وتذكي النيران الأحلام الواهنة. لا تتسرب الأحلام إلى الشبح الرابض أمام الباب. أغلقتُ الباب، ولم أفتحه. وندمتُ إذ فتحته وحلَّقتُ في الصيف، وتذوَّقتُ الطيران، وسمعتُ تصفيق النهار! ندمتُ لحظةً، وأعادني الحلم اللطيف إلى مساق اللذة، فنسيتُ الندم؛ بل ندمتُ إذ ندمتُ على ما كان من حريتي المؤقتة!

ظننتُ الأحلام لي وحدي، لكن العصافير كلَّها حلُمت. وبغتةً، صَخُبَتْ. قالت إنَّ الابتعاد عن الثلج يسقمها، ثم تصارعت أمام الباب الوحيد، وأسقطته. ناديتها أنَّ الشبح رابضٌ أمام الباب؛ لكنها لم تستجب. تراكضت أمام الباب رعناءَ واهنةً. ولدى ذلك، علا نعيق الغربان، وحلَّقت من لدن المغارة الكبيرة نحونا. ربضتُ قرب النيران مفزوعًا راجفًا.

انقضَّت الغربان على العصافير الواهنة. تبعثرت الدماء كثيرةً على الثلج، وظلَّ الشبح رابضًا يستر وجهه بالعتم، ولا يبتسم. وحين تساقطت، حرَّر الليل من سلسلته، وجذب النهار من تلابيبه، ثم أقبل على العصافير والغربان، وجمعها واحدًا واحدًا في كيسه الكبير. توقَّف قبل أن يغادر، والتفت إليَّ. حملقَّ فيَّ، فارتجفتُ، ودفنتُ رأسي تحت جناحي، ولم أرفعه إلا حين سمعتُه يجرجر كيسه مبتعدًا، وذويتُ.

عدتُ إلى الكرة الثلجية في النار، فألفيتها تذوب. هممتُ بالبكاء، بيد أنَّ ظلًا ضخمًا اقتحم القلعة. عرفته دون أن أنظر إليه. كان الأب الراقد في المغارة! لم أنظر إليه؛ إذ لم أجرؤ. خفتُ، وارتعش جسدي العاري من الريش، وأسقمني البرد والثلج. مدَّ جناحيه إلى الكرة الذائبة، وحملها. التفتَ وغادر راكضًا، فحدَّقتُ في ظلِّه المغادر. تبع الشبح ذا الكيس، وحين أدركه، كلَّمه طويلًا. فتح الشبح كيسه الكبير أمام الأب، فشدَّ هذا الأخير البيضة الثلجية في حضنه، ثم قفز إلى الكيس.

رأيت الأب والأم يتدحرجان داخل الكيس بيضتين صغيرتين سوداوين متخمتين بالخلاف والصراع. قبل الخلق، كانا كيانًا أبيضَ هائلًا... ومذ وجدا معًا، لم يعودا إليه.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@