أدب عربي

ماضي اليمن والمآل: قراءة للرموز السياسية في رواية «حصن الزيدي»

ماضي اليمن والمآل: قراءة للرموز السياسية في رواية «حصن الزيدي»

هاجر منصور سراج 

8 أغسطس، 2024


يقول ابن خلدون عن العرب «وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعًا بالقهر وإلا لم تستقم سياسته»، وهذا ما عاشت عليه اليمن سنوات العهد الإمامي، مذ حلَّ الإمام بعد الانصراف العثماني ليطبق على اليمن وأهلها داخل قمقم لم تخرج منه حتى بزوغ فجر الثورة التي استبشر كثير بها، لكنها اغتيلت في مهدها؛ فلم تحقق أيًا من أهدافها، ثم جاءت ثورة الربيع العربي إلا أنها كانت ثورة ميتة تركت جثتها على أرصفة شوارع الجامعة لتبثَّ العفن في صنعاء ثم اليمن بأسره، وحين تلاشى آخر فتات عظامها كان وحش آخر قد استلم مهمة تمزيق اليمن.

حينما تحدث ثورة في التاريخ، فإن الأثر الذي تتركه في الإنسانية يتجلى في حياكة الكثير من الأعمال الأدبية حولها، وهذا ما كان بالنسبة لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، لكن الوقت راح يدفع الأدباء اليمنيين إلى نفض غبار التاريخ والاندفاع إلى أحداث حديثة تتيح لهم التعاطي المريح مع القضايا الحالية، إلا أن المستبد، الذي ترتعد فرائصه لعلوم الحياة – كما يقول الكواكبي – التي تكبِّر النفوس وتوسع العقول، أعاد قضية الثورة الأولى للتعاطي لعدة أسباب لعل أهمهما أن السلطة الحاكمة سابقًا لا تختلف في شيء عن السلطة الحاكمة حاليًا؛ فامتدت أيدي الأدباء إلى دثار التاريخ تستتر به خوفًا من بطش السلطة.

لم يتعرض الغربي عمران في رواياته مطلقًا لذكر تاريخ اليمن الحديث، بل ظل عاكفًا في الماضي؛ فاعتبرت، شخصيًا، كتابة «حصن الزيدي» خطوة جريئة منه بعد غرقه في حقبة أقدم. في هذه الرواية قام الغربي عمران بنسج رواية تدور أحداثها في إحدى القرى التي يقع فيها حصن مرداس الذي يحكمه شيخ بطَّاشٌ، ويحدد زمن الأحداث بزمن الفترة الإمامية، معتمدًا على الرمز في رسم الشخصيات والمكان.

تلخص «حصن الزيدي» تاريخ اليمن الحديث في رواية لا تصل عدد صفحاتها إلى ثلاثمائة صفحة، وتثبت من خلال الرمزية والدثار التاريخي منطق أن التاريخ يعيد نفسه؛ إذ يتسلح الغربي عمران بتلك الحقبة المظلمة ليقول شيئًا واحدًا: عدنا إلى الدوامة السوداء. فقرية مرداس ليست إلا رمزًا لليمن، ويشكل كل فرد في الرواية رمزًا بعينه لثيمة سياسية استبدادية أو جزءًا من جماعة ما يكون رمزًا لثيمة اجتماعية؛ فمرداس شيخ القرية رمز للاستبداد السياسي الذي يتجلى في حكومة الحاكم المطلق الذي يتوارث أبناؤه حكمه، إلا أن الشيخ مرداس لم يحض بالاستبداد المطلق؛ إذ حاز مستشاره زيد الفاطمي السلطة الدينية. فكان هذا البناء الاستبدادي المشكل من السلطتين قادرًا على اخضاع أهل القرية، والتسيّد عليهم، ومعاملتهم معاملة بهائمية تتضح في قتل عبد الجبار، رمز القهر والظلم والجور، فلاحًا بعد تحدٍ لنفسه بقنصه. وشكَّل الابن البكر عنصيف، الذي ما فتئ يتصيد النساء، رمزًا لعهر أصحاب السلطة. وشكل الابن الثالث جمال، الذي تعشم والده حين ولادته أن يكون شبيهًا بجمال عبد الناصر، رمزًا لعهد القانون والثورة، ولعل أول قرينة لهذا الرمز قد تجلت في النص عند تعشم والده، واكتملت ملامح الرمز في نهاية الرواية. وشكّل عرَّام رمز الثورة والتمرد على الاستبداد منذ البداية؛ عندما سرق دواب الحصن وحمل جثة والده وأخذ أمه وذهبا إلى الغابة، ثم عندما رفض لقب المشيخة، وعندما وسم بالشيوعية – وإن كنت أرى أن عرّام، ذلك القروي البسيط، كان يملك من المفردات أكثر مما يملك جمال الذي سافر خارجًا. وشكّل شنهاص رمز للسلفية والتشدد الديني، ولعل وصف شنهاص أكثر من مطابق لزعماء الدين في الواقع اليمني؛ فلحيته كانت مصبوغة بالحناء، وكان يتشدق بالدين دائمًا ساعيًا إلى جمع أكثر عدد من المنصتين منازعًا عرَّام الشيوعي المتمرد في أنصاره، ويتجول بثياب النساء زعمًا أنه مداوية تُبث على يديها البركات.

يتعدد المكان في الرواية، فيتنقل السرد في قرية مرداس، التي تعد نموذجًا للقرى أيام الحكم الإمامي، بين الحصن والغابة التي كانت للمتمردين على الاستبداد المزدوج (سياسي/ ديني)؛ وصنعاء التي انتقل إليها جمال رهينة من رهائن الإمام يتنقل بين الشرائف دويدارًا، وعدن التي انتقل إليها قارون فوجدها خليطًا من بشر أفارقة وهنود وإنجليز فعمل خادمًا كما عمل غيره من اليمنيين، ومصر التي انتقل إليها جمال ليدرس في الكلية العسكرية، والجبل معقل الثوار على الاستعمار – إلا أن السرد لم يتطرق مطلقًا إلى الأحداث في الجبل، فلم يتم ذكر الثائر عرّام سوى ذكرًا عارضًا حين انضمامه إلى الثوار بعد أن حاول اقناع قارون فترة طويلة وحين خبر مقتله. وهذه الأمكنة هي تلك التي دارت رحى الثورة اليمنية فيها: فصنعاء معقل الإمام، وعدن معقل المستعمر، وقرية مرداس جزء بسيط مما كان يدور في تلك الحقبة ومما راح يدور الآن، والجبل هو جبل ردفان الذي قبع عليه ثوار الرابع عشر من أكتوبر، ومصر هي التي أيقظت في نفوس الثوار الرغبة في تحطيم القمقم، والتي تدخلت عسكريًا في الرواية من خلال جمال الذي جاء في نهاية الرواية، بعد أن استنجد به والده، ليأتي بدبابة وحيدة يرتفع مدفعها إلى الحصن الذي استحله زيد الفاطمي بعد أن ضعف الشيخ مرداس وانكسر؛ فجرَّه الفاطمي إلى السجن وألقاه هناك غائبًا حتى أخرجه ابنه جمال، فظهر للجميع بمظهر السجين الذي لطالما تفنن الغربي عمران في تصويره في رواياته كلها: عاريًا، نحيلًا، ملطخًا بفضلاته، طويل الأظافر واللحية… إلخ.

يمثل جمال رمز الثورة، فيصوره الروائي بإسهاب ليجعله الصورة الأجمل في الرواية؛ فهو فارع القامة، أصهب، رقيق، هادئ، أنيق، بار بأبويه، بينما ظهر مرداس وابنه عبد الجبار قبيحين، قصيرين، قاسيين. إلا أن جمالاً لم يظل حتى النهاية بتلك الحياة البارقة بين عينيه؛ إذ سرعان ما تردى إلى المرض في نهاية الرواية وانحدرت حاله ولم يعرف أحدٌ ماذا أصابه. فبقيت الدبابة الوحيدة في القرية مدفعها مرفوع إلى الحصن، وذهبت وعوده بالثورة أدراج الرياح، وظلَّ تغيير اسم الحصن إلى حصن الثورة وهمًا لا أكثر إذ بقي حصنًا للزيدي، الذي فرَّ بثياب النساء كما فعل إمام اليمن حين فرَّ، وكما تنكر شنهاص السلفي المتزمت بثياب النساء فترة طويلة، لكن بوعد بالعودة، كما صار الحال الآن.

في النهاية، يكون مآل قرية مرداس إلى العصافير والعناكب التي تتخذ من الدبابة التي في الساحة مكانًا لها، بينا يختفي جمال رمز الثورة، فيقول البعض بمرضه، ويقول البعض الآخر بمسامرته لقارون رمز الشباب المجدد (المبنطل) الذي عزف المزمار وعاقر الخمرة دون اعتبار لعرف أو دين، فاتحد رمزا الثورة والتحرر وغابا معًا بعيدًا عن قرية مرداس تاركين أهلها حيارى فيما يفعلون، بينا اجتمع زيد الفاطمي وشنهاص ووحدا معسكرهما وراحا يدعوان إلى الجهاد في سبيل الله باسم الدين. هذه النهاية للرواية لم تشكل منبعًا للأمل الذي تجسد في بعض روايات الفترة التي سبقت ثورة الربيع العربي، بل جسدت الفشل الذي منيت به كلا الثورتين، وما آل إليه التحرر والرغبة في الثورة على كل مظاهر الفساد والاستبداد. في النهاية كانت الغلبة لأولئك الذين حكموا باسم الدين ولم تغب أخبارهم بل كان أهالي قرية مرداس على ثقة من توجههم إلى الجبال الشرقية، ما يذكرني بقول ابن خلدون «العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية».

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

شعر الغزل في العصر الأموي

شعر الغزل في العصر الأموي هاجر منصور سراج 3 ديسمبر، 2024 بَدأت الدولة الأموية بمعاوية…

2 weeks ago

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ

أُغْنِيَةُ الْعَظْمَةِ This story has been taken from Brothers Grimm’s Folk Tale Collections. To make…

3 weeks ago

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي

عَلَى أَرْصِفَةِ مَدِيْنَتِي هاجر منصور سراج  30 نوفمبر، 2024 نقعد على أرصفة فارغة نتعاطى اليأس…

4 weeks ago

إَلِى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى

إِلَى مَلَكُوتِكَ الأَعْلَى هاجر منصور سراج  5 نوفمبر، 2024 والآن، إذ تنظر من ملكوتك الأعلى…

1 month ago

بين ألسنة الليل

بين ألسنة الليل هاجر منصور سراج  12 أكتوبر، 2024 (0) بين ألسنة الليل تتلوى الحكايات…

1 month ago

نُوح

نُوح في الحلم، كان اسمه نوحًا، وكان يعرج، وكان يحمل الماء إلى أهله. السماء داكنةٌ…

1 month ago