أدب عربي

هِبَةُ القَصْرِ السِّحْرِي

هِبَةُ القَصْرِ السِّحْرِي

هاجر منصور سراج 

8 إبريل،  2025


تتدلى الثريات المضيئة من سقف المجلس الفاخر لتضيء مائدةً عامرةً بالطعام، والشراب، والحلوى. تمتزج الروائح الجميلة وتشكل مزيجًا عذبًا، يخدر كلا الكلبين الجالسين إلى المائدة. يحرك الكلب الأزرق ذيله حركة بسيطة لا تكاد ترى، بينا يلعق أصابعه ويتلمظ ناظرًا إلى جليسه الكلب الأحمر الواثق. كلاهما يبدوان واثقين مستمتعين لا ينقصهما شيء، حتى أنهما لا ينبحان، ولا يصفقان، ولا يرمشان كي يطلبا شيئًا؛ بل إنهما ما إن يشتهيا شيئًا حتى يظهر أمامهما، كأنما ثمة مارد موكل بإجابة كل رغباتهما.

تكلَّم الكلب الأزرق راضيًا: نحن هكذا منذ عهدٍ طويلٍ. ما أجمل السعادة!

أمَّن الكلب الأحمر على كلامه، وهو لا يزال منكبًا على طبقه، يمد لسانه الطويل فيه ويلعقه بينا مخالبه متسخة تقطر مرقًا، ويتساقط الفتات في حضنه وعلى خطمه. فكَّر الكلب الأزرق في أنَّ صاحبه لا يزال مستمتعًا بالطعام؛ بل لا يزال يستمتع بالطعام الذي يتناولونه كل يومٍ، كأنما يراه للمرة الأولى. يستطيع أن يتذكر المرة الأولى قبل أكثر من ثلاثين عامًا حين عثروا على هذا القصر السحري واتخذوه سكنًا. ومنذ ذلك اليوم، لم تقل شهية الكلب الأحمر درجةً عمَّا كان. هو أيضًا لا تزال شهيته مفتوحةً؛ لكنه يفضل أن يترك الأطباق الكبيرة الشهية لجرائه الصغار.

حوَّل الكلب الأزرق بصره إلى الجراء الصغار المتراكضة حوله، ثم إلى جراء الكلب الأحمر وابتسم. كان يعلم أنَّ ثمة منافسة غير شريفة بينهم، لكن عند الحديث عن الطعام لا يمكن أن يكون المرء شريفًا؛ ذلك أمرٌ تعلمه في طفولته قبل أن يصل إلى هذا القصر السحري الفاخر.

عاد ينظر حوله مبتهجًا متحسسًا السعادة في كل شبر في القصر، وفي عيون جرائه الصغار، وفي انكباب صديقه الكلب الأحمر؛ ولم ينتبه للظل الرابض في العتم. كان دائمًا يشعر بوجود شيء، يحدِّق فيه من الزاوية المظلمة في الدهاليز؛ لكنه لم يقترب منها مطلقًا. في الأيام الطيبة التي يرغب فيها أن يبدد ظلمة القصر، يرسل أحد جرائه الصغار لتنظيف تلك الزاوية المظلمة؛ لكن الجرو الصغير الغر يعود دائمًا دون تقرير أو تفسير، أو أحيانًا يهرب إلى إحدى غرف القصر. يتساءل في كثيرٍ من الأحيان عمَّا إذا كان هنالك وحش كبير في الظلمة؛ لكنه دائمًا على يقين من أن الرابض المستتر في الظلمة إنما كلب مثله؛ إذ يستطيع شمَّ رائحته جيدًا، والشعور بلهفته وشهيته للطعام، وسماع لعابه يقطر ويترك دويًّا في القصر. ورغم أنَّه كريم معطاء إلا أنَّه لا يستطيع أن يشارك ذلك الكلب الغامض بعضًا من طعامه.

الهبة التي حصل عليها حين دخوله القصر لا يملكها الكلب الأحمر؛ فهو يستطيع أن يفكر في أيِّ شيء ويجده. أمَّا الكلب الأحمر فيبقى ذليلًا لا مناص من نكس رأسه والعواء قربه للحصول على طبقٍ آخر، إضافةً إلى المائة الفارغة. يتعجب من شهيته، لكنه يعلم لو أنَّه أصغر قليلًا لأكل أكثر منه؛ لكنه يفكر دائمًا في جرائه الصغار، لا سيما جروه الحبيب الشجاع الذي لا ينفك يتخذ وضعية فخورة، وينبح نباحًا جذابًا.

عليه أن ينقل هبته إلى جروه الصغير الشجاع. لا يمكن الفرار من الموت؛ لذا عليه أن يترك مؤونة كبيرة، لكن يجب أن يتأكَّد أنَّ الهبة ستنتقل إلى جروه الصغير الشجاع، لا إلى صديقه الكلب الأحمر. غباء! من ذا قد يفكر في تفضيل صديقه الصدوق على ابنه؟! سخر من تطلعات الكلب الأحمر وأمنياته؛ لكنه لم يصارحه بشيء أبدًا. فكَّر قليلًا ثم قرر أن يبدأ بتقليل عدد الأطباق من ألف إلى تسعمائة ثم إلى ثمانمائة حتى يصل إلى مائة، وآخر الأمر يصل إلى عشرة. وسيقسم القصر إلى قسمين، ويملأ قسمه بالمؤونة، ثم يشرع في تدريب جروه الصغير الجذاب على إدارة القصر حتى يتلقى الهبة بعد موته… لكنه يخشى من الكلب الأحمر الطماع، ماذا يفعل؟ سيشعر أنَّه يريد الغدر به، وسيدرك حركة البساط حين يسحبه من تحت قدميه!

أمعن في التفكير حتى توصل إلى قرار أن يبدأ بتدريب جروه الصغير الجذاب سرًّا، ثم ينقل إليه الهبة ما إن يثبت نجاحه – وهو واثقٌ من نجاحه، دون ريب! – ثم بعدئذٍ سيسلم زمام الأمور إليه، وينعزل في جناحه الوثير الرائع. وربما يطلب بعض التعديلات قبل أن يسلم له الهبة… ربما يفكر في ديكور جديدٍ، أو يطلب جزيرة، أو بعض المناظر الرائعة المبهجة.

تبعثرت أفكاره حين تناهى إليه الدوي المزعج للعاب الكلب المختبئ في الظلمة؛ فنخر ونبح نبحة ساخطة رفع الكلب الأحمر لها رأسه متعجبًا، ثم قال: دعك من ذلك اللعين المستتر في الظلمة! لن يخرج من ظلمته مطلقًا! ثم إنَّه فردٌ وحيد بينا لنا الكثير من الجراء؛ فإذا خرج، فتكنا به!

أومأ موافقًا، فتابع الكلب الأحمر: والآن، يا صاحبي، ما رأيك أن تجلب لنا قطعة لحم شهية؟

ابتسم الكلب الأزرق، وفكَّر في أنَّه قادرٌ على خداع الكلب الأحمر طويلًا طالما يطعمه طعامًا شهيًا. أجل، رائع، ممتاز! سيطعمه حتى يتخمه؛ فلا يلاحظ بعد ذلك شيئًا. فكَّر في فخذ مشوي، شهي، متخم بالبهارات، مزيَّن؛ رائحته تتصاعد وتتخم أنفه وعقله، ومذاقه شهي غني بالمرق. آهٍ، أجل! مذاق يترك رعشة في جسده وخمولًا في عقله.

بووف! تجسَّد الطبق أمامه. نظر إلى الطبق مندهشًا؛ إذ لم يسبق له أن طلب طبقًا بهذا الجمال، بل لم ير، بل لم يشم، بل… بل! كيف جاء هذا الطبق؟ إنَّه شهي وعامرٌ جدًّا! أرغبته العارمة في التضليل والخداع هي ما حرَّكت شهيته حتى استطاع أن يتخيل شيئًا شهيًا كهذا؟ أجل! ربما هي رغبته العارمة في توريث الهبة لجروه الصغير الجذاب وحمايته من الكلب الأحمر الطماع! آه! لقد نسي حقًّا كم يشتهي الطعام! كان مؤخرًا يأكل طعامًا مكررًا ولم يبدع عقله شيئًا بهذا الجمال والروعة!

أخذ لعابه يقطر على المائدة بينا يقترب من الفخذ الرائع الشهي، مادًّا لسانه فاغرًا فمه؛ لكن مخالب الكلب الأحمر وقعت على الطبق قبل أن يصل إليه. نبح ساخطًا كي يبعد صديقه عن الطبق الشهي، فقال له صاحبه: فكِّر في غيره واترك هذا لي! لكنه كان يعلم تمامًا أن عقله لن يسفر عن شيء مشابه. رفض، وتحجج، وبرر؛ ثم قفز على المائدة وانتزع الفخذ من على الطبق وفرَّ به؛ لكن الكلب الأحمر أدركه قبل أن يغادر المائدة وطرحه أرضًا.

– أنتَ طمَّاعٌ لعين! تملك هبة القصر السحري وتضن عليَّ بهذا الفخذ!

– أنا من فكَّر في هذا الفخذ! اتركه لي وسأفكر لكَ في آخر.

– كلَّا! أنا أعلم أنَّ عقلك أصبح راكدًا مثل مستنقع تملؤه الجيفة! انقل لي الهبة لأستطيع أن أملأ هذا القصر بأنواع وأصناف جديدة لا تعرفها!

– أنقلها لكَ؟! أنتَ طماعٌ لئيم! كيف تسنى لكَ أن تفكر في أنَّ بإمكانك امتلاك الهبة؟!

نبح الكلب الأحمر وعضَّ ساق صاحبه: نعم! نعم! توقَّعتُ أن تغدر بي! أتريد منحها لجروك الصغير المغرور؟ وماذا سيحدث لجرائي؟ تطردوننا من القصر السحري، فنتشرد في الشوارع؟

قرَّر الكلب الأزرق أنَّ المهادنة أفضل حلٍّ لتجنب الصراع، لا سيما أن الجراء أخذت تنبح وتئن حولهما. نظر إلى جرائه مشفقًا، وإلى جراء صاحبه ساخطًا، ثم قرر أن يترك الفخذ. فغر فاه قليلًا، لكنه لم يستطع! تسرَّب مذاق الفخذ الشهي إلى داخله، وجرى في دمه، وأورثه سعادةً وحيوية كان قد نسيها منذ زمن طويل؛ مذ اعتاد على سحر القصر فلم يعد شيئًا بهيًا! لكنه الآن يشعر ببهائه وروعته! الآن يشعر بينا يقضم الكلب الأحمر طرفًا من الفخذ.

شدَّ الفخذ بأنيابه، ونبح في صاحبه نبحة ساخطة تردد دويها في القصر؛ فارتعدت الجراء ونكصت. وثب عليه الكلب الأحمر ساخطًا، وضربه بمخلبه حتى طرحه أرضًا. سرى الألم في جسده، لكنه تذكَّر جراءه اللعوبة الصغيرة، فنهض وضرب صاحبه ضربةً مدوية، وعضَّه حتى تسرب مذاق الدم العفن إلى جسده وبدد كل الروعة السابقة؛ فلم يعد يشعر بشيء سوى رغبة عارمة في تبديد الكلب الأحمر اللعين الذي يشكل تهديدًا له ولورثته!

تعاركا، وترددت أصواتهما في القصر الواسع. وحين طلع الصباح، خرجت الجراء لتنظر في البهو العظيم الفاخر، فلم ترَ سوى جثتين يكسوهما الدم، والفخذ الرائع الشهي مرميٌ في زاويةٍ بعيدةٍ، والشمس تسكب ضوءها عليه. كانت رائحة الفخذ لا تزال تفوح، والبخار يتصاعد منه كأنما قد شوي للتو. تقاطر اللعاب من الجراء الحمراء والزرقاء، فتراكضوا نحو الفخذ متزاحمين متناسين الجثتين. ولمَّا وصلوا، تجاذبوه، وتعاركوا؛ ثم تركوه ليفتكوا ببعضهم. تعالى نباحهم في الأنحاء؛ فتحرَّك الكلب في الظلمة مبتسمًا متبخترًا، لعابه يرسل رعشة شهيةً في جسده كله. نظر إلى جرائه الخضراء الصغيرة وأمرهم أن يتبعوه، ثم باغت الجراء الصغيرة المتعاركة وقضى عليهم بضربةٍ واحدة.

سقط الجرو الصغير الجذَّاب مغشيًا عليه لبضع دقائق فقط؛ فلم يفطن إليه الكلب الغامض حين استيقظ وانسحب إلى الظلمة ليحدِّق في لون خضرة الكلب الغامض الفاقعة التي أبرزتها الشمس. كان أضخم من أبيه وصديق أبيه الأحمر، وكانت شهيته ترسل ذبذبات مزعجة مقلقة. فكَّر في أن الحال يكون هكذا دائمًا في بداية الأمر حين تتذوق شيئًا شهيًا رائعًا؛ لكنه كان واثقًا أنَّ والده لم يكن كذلك! أو ربما يتحيز لأبيه فقط.

فكَّر في الاستتار بالظلمة، ثم الوثوب عليه وقتله في غفلة من الجراء الخضراء الشعثاء المتوفزة؛ لكن شيئًا باغته وأوجعه. راقب الكلب الأخضر مندهشًا، واقترب كي يتأكد مما رأى، ففاجأه الكلب مرَّةً أخرى حين أطبق جفنيه مليًا حتى تجسَّد طبق شهي أمامه. تساءل كيف انتقلت الهبة إلى الكلب الأخضر؟! كيف انتقلت إليه دون إذن أبيه؟!

تنبَّه إلى أن الكلب الأخضر يرسل نحوه شرارات مزعجة؛ فرفع رأسه إلى عينيه وأدرك تمامًا أنَّه مكشوف. وإن لم يهرب ويختف، فسيلحقه الأذى ويُترك جثةً للذباب كحال الكلبين الميتين. ألقى نظرةً أخيرةً على الفخذ المنهوشة بين مخالب الكلب الأخضر، ثم تحسَّر وهرب.

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

أين تختفي الأشياء؟

أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج  17 إبريل،  2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…

24 hours ago

هِي خَائِفَة

هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج  15 إبريل،  2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…

24 hours ago

وَجْهٌ ذَائِب

وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج  12 إبريل،  2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…

1 day ago

فَأْرَة

فَأْرَة هاجر منصور سراج  1 إبريل، 2025 فتحت فأرة عينيها للنور في سيرك يعج بالمهرجين؛…

2 days ago

رثاء الريحانة العَطِرة

رثاء الريحانة العَطِرة هاجر منصور سراج  1 فبراير، 2025 ريحانتي الراحلة! تركتُكِ، في آخر زيارة…

3 days ago

وُلِدَ من الحَجَر

وُلِدَ من الحَجَر هاجر منصور سراج  28 يناير، 2025 حينما ولد من الحجر... حجرٍ أحمر…

3 days ago