أدب عربي

وُلِدَ من الحَجَر

وُلِدَ من الحَجَر

هاجر منصور سراج 

28 يناير، 2025


حينما ولد من الحجر… حجرٍ أحمر مغمورٍ بالدم، رأى أمامه امرأةً تلاحق الأغنام. زحف بين الأحجار، تسلَّق الجلاميد، تعفر بالتراب. وحين مضت مع الغروب عائدةً إلى بيتها، لحقها.

في القرية، انتشر خبر اختفاء الأغنام؛ لكنها ظلَّت تعود إلى البيت بأغنامها كلِّها. تناديها بأسمائها، تحصي عددها، تداعبها؛ ثم تسير خلفها عائدةً إلى البيت.

وفي يومٍ، تلبَّدت السماء بالغيوم. راقبتها تحتشد سوداء مقعقعةً، ثم هتفت بالأغنام المذعورة. ركضت إلى مأوى قريب بنافذةٍ واحدةٍ، وحشرت فيه الأغنام كلَّها، ثم قعدت بينها. هطل المطر صاخبًا، وظلَّت هي حاضنةً أصغر الأغنام، مرددةً القرآن. أقبل الليل ولم تعد. وكان أهلها معتادون على غيابها في الأيام الماطرة؛ لكنها ككل مرةٍ تسلم نفسها لأفكار الشك. تتساءل إن كان الشك يحوم في أدمغتهم ويسلمهم إلى أفكارٍ بشعة، رغم أنَّها أصبحت في الأربعين ولم يعد ثمة من يطرق بابهم طالبًا يدها.

الأغنام صامتة، تستند كل واحدةٍ إلى الأخرى، والرعد يدوي، والبرق يلمع. أسندت رأسها إلى جسد الغنمة الصغيرة، وبصرها معلَّقٌ بالنافذةِ الصغيرة حيث ثبتت لوحًا خشبيًا قديمًا درءًا للبلل. شرد فكرها، وظلَّت نظراتها هناك. وحين لمع البرق مرَّةً أخرى، أضاء وجهًا غريبًا أحمر العينين، فخفق قلبها فزعًا.

ضمَّت الغنمة الصغيرة أكثر وضبطت أنفاسها متذكرةً كل الحكايات القديمة: أم الصبيان، البدة، الأكلوب، النباش، الجن. تحفظ كل الحكايات عن ظهر قلب، ولا تنفك تحكيها للصبيان والصبيات في القرية. الحكايات كانت سبيلها الوحيد للبقاء على قيد الحياة بين تسلط الأخوة ودكتاتورية الأب الذي أصرَّ على بقائها عزباء لرعي الغنم.

أتتجسد شخصيةٌ من حكاياتها الآن؟ أهو أكلوب سيأتي على غنمها كلِّها؟ سيختطفها ويرغمها على الزواج منه لتنجب له أبناء بمخالب وذيول؟ أم هو جني سيتزوجها ويأخذها معه إلى عالم الجن المبهر المليء بالمركبات الطائرة المرصعة بالياقوت، والثياب الحريرية، والقصور المضيئة؟ لن تقترب منها البدة لأنها ليست رجلًا؛ فتلك تهوى فقط إغواء الرجال. فكَّرت في أمِّ الصبيان التي ستأكلها. ستخدعها أوَّل الأمر بمظهر امرأةٍ عجوزٍ تطلب المساعدة، ثم تأكلها؛ إذ أنَّها آكلة لحوم البشر المعروفة مذ بدء التاريخ.

لمع البرق، وأضاء العينين الحمراوين؛ فراعها أن رأت شيئًا لا تألفه، ولا تعرف له مسمًى. لمع البرق مجددًا، فأمكنها أن تراه محملقًا فيها. عيناه واسعتان حمراوان، شعره أشعث. أمكنها أن تشعر بشرارات متدافعة من تينك العينين، وأمكنها أن ترى شعره لهيبًا مستعرًا. ومهما ضمَّت إليها الغنمة الصغيرة، استفحل أثره داخلها تاركًا فيها رعشةً لم يفلح شيءٌ في نفضها. رأت كل شيء حولها يظلم ويختفي وتبقى العينان الحمراوان، يمتد ضوؤهما حولها ويحيطها، يذكرها بذكريات مستقبليةٍ لها ترعى أبناءً صغارًا، تعانق زوجًا، تزرع رياحين أمام نافذة حجرتها. لا! ما كان لها أن تسمي تلك الصور ذكرياتٍ؛ إذ لا يمكن أن تكون الذكريات مستقبليةً؛ لكنها تشعر بهذا عميقًا داخلها كأنها عاشته، وكررته، وراقبت نفسها تنمو وتكبر بينا هي في الحقيقة تذوي وتضمر ويمنعها الأب من الزواج، حتى أصبحت شبح امرأةٍ تسافر بين الأغنام وتضم الصغار إلى أحضنها، تتخيل الأبناء الذين لن تنجبهم؛ لكنها الآن تستطيع أن تلمس دفء نفسها وأمنياتها تسافر حولها. تمتعها العينان بصور أحلامها، وتمتعها الأحلام بالأحاسيس التي مهما تبذل جهدًا في تصورها، تغرق ولا تفلح في استشعار شيء. الآن تشعر بكل شيء!

وعت والشمس تنسكب على وجهها، والأغنام حولها ساخطة تطلق رغاءها وتصم أذنيها. أخرجتها ساهمةً شاردة، تنظر إلى النافذة التي سقط خشبها وتهشم، تتذكر الأحاسيس المسافرة داخلها، تتلمس جدار المأوى القديم بحثًا عن طيف أحلامها؛ بحثًا عن العينين الحمراوين.

عادت إلى القرية، فاستقبلتها الأم بالأسئلة، وأجابت مطرقةً لا تجرؤ على فضح أحلامها. رغبت بالتمدد في حجرتها في الحلم، حيث الرياحين تحنو على النافذة وتطلق عبيرها العطر، حيث الضوء يغمسها فيه ويطهرها، حيث يتراكض الأبناء وتمد كلتا كفيها تتلمسهم؛ لكنها الآن لا تملك أيًّا من هذا، ومبيتها في الحظيرة قريبًا من الأغنام يعطِّر نومها وأحلامها ببعر الغنم… لكنها ترضى! ترضى إذ تجد فراشًا تمد جسدها عليه؛ فأمَّها لا تنفك تذكرها أنَّ ثمة نساء حالهن أسوأ من حالها. ومنذ الطفولة نشأت على الرضى والقناعة؛ لكنها في الظلمة، حيث لا يمكن أن تتسلل يد أمها العجوز لتتلمس أحلامها وأفكارها… هناك فقط، يمكنها أن تنفض ثوب الرضى والقناعة وتبطش بكل الصبر، والحلم، والأناة، والجلد. يمكنها في الظلمة فقط أن تحلم أنَّ ضوء القمر ينسكب على فراشها، وأن بعر الغنم شذا الرياحين، وأنَّ فراشها الخشن ناعمٌ.

لطالما حلمت، وآمنت أنَّ لا ضير من الأحلام؛ لكنها الآن تشعر بأنفاسها ثقيلةً مستعرةً، وبجسدها غاضبًا منتفضًا، وبأفكارها ثائرةً مهتاجةً. أنصتت إلى حوار الرجال يتسرب إليها من الطابق العلوي، وإلى أحاديث النساء (المتزوجات) بعد أن ركلنها من مجلسهن؛ زعمًا أنَّه آن أوان حديثهن الخاص… فهي عذراء حيية في الأربعين!

تجرَّدت من خوفها وكوَّمته في الزاوية الأبعد، ثم انتفضت واقفةً وفتحت باب الحظيرة، فخلَّف صوتًا دوى في أركان المنزل القديم، وسرعان ما تمثَّل أخوها قبالها غاضبًا عابسًا. تقدَّم نحوها جهم الوجه، ساخط الصوت. سألها عمَّا دفعها إلى فتح الباب؛ فانسحبت الشجاعة، وتبعثر الخوف من الزاوية، ثم قفز عليها، وغمرها من رأسها حتى أخمص قدميها. غادرتها الشجاعة، فجثت أمامه واعتذرت؛ فاكتفى بذلك وغادر موصدًا الباب من الخارج.

اضطجعت وتلقاها النوم ثقيلًا، فغابت. حين استيقظت في وقتٍ لا تعرفه من الليل، راقبت العينين الحمراوين ينظران إليها من الكوة الضيقة التي يتسَّرب منها ضوء شفيف، ونسيم خفيف، وأصوات رهيفة. ذعرت أوَّل الأمر، لكنَّ الذعر ما لبث أن انسحب وأقبلت البهجة تزين ثغرها؛ وانتظرت الأحلام.

تسرَّبت إليها رجفةٌ بدل الأنس، وخوف بدل الأمان، وقشعريرة بدل الدفء. تسرَّبت إليها صورٌ مرعبةٌ رأت فيه زوجًا شديد الغضب، يضربها، يسحجها، يلكمها، يخنقها. ورأت الأبناء معرضين، صامتين، متجهمين؛ مهما تكلَّمهم، لا يردون عليها؛ مهما تناديهم، يعرضون عنها؛ مهما تتوسل إليهم، يحدجونها بنظرات مشمئزة ويمضون. تلبَّسها خوفٌ وألمٌ. وحين أفاقت، كان ضوء الشمس ينسكب من الكوَّة الضيقة، وهي تبكي.

مضت خلف أغنامها لا تلوي لها طرفًا؛ لكن أكثر من امرأةٍ استوقفتها تخبرها أنَّ وحش الجبل يأتي على كل الأغنام. أخبرها صبيٌ أنَّ الوحش الغريب لم يعد يتورع؛ بل يلاحق الأغنام في ضوء النهار، يمضي راكضًا على أربع، ثم يثب على فريسته، فينزع عنها صوفها أوَّلًا، ثم يجردها من عظامها، ثم يرمي اللحم كومةً يضع الرأس على قمَّتها، ويمضي بغنيمة العظام.

سألت: العظام؟!

فأومأ الجميع مستغربين، وإن تألق في أعينهم رضى عجيب لم تفهمه. تستطيع أن تلمس النظرات الحيرى، النظرات الساخطة، النظرات المتعبة وقد أضحت كلها مغمورةً بالرضى، وكأن تناقص الأغنام لم يعد يزعجهم في شيء.

رعت أغنامها وعادت إلى البيت، ورجفتها لا تزال تمرض جسدها. رأت أخاها واقفًا قرب الحظيرة، يرفع رأسه إلى النافذة العلوية، وينادي الأب: يا أبي، رأيت رجلًا عجيبًا قد انحدر من الجبل، وأتى على غنم أهل القرية كلهم. حاولت مصارعته، فباغتني بضربةٍ تلو أخرى حتى شعرت برأسي يسافر وحده في آلاف المجرات. ولمَّا أفقتُ، كنتُ ها هنا!

لم يرد الأب. عاد الأخ ينادي: يا أبي، رأيتُ رجلًا عجيبًا ذو بأسٍ يمشي في القرية مختالًا. سألته من أنت؟ ومن أين أتيت؟ فصرعني ولم يجب، ورأيت عقلي كلَّه يسافر في أفلاكٍ كثيرةٍ. ولمَّا أفقتُ، كنتُ هنا!

لم يرد الأب. تراكض أهل القرية نحو الأخ، واحتشدوا حوله، وتزاحمت النساء حولها راكضات نحو الأخ. تدافع الجميع نحو الأخ، وقفزوا عليه، وأخذوا يلكمونه. حتى الأب قفز من نافذته العلوية ولكمه حتَّى حطَّم أسنانه. رأت أسنانه تطير، وأحصتها واحدًا تلو الآخر ستَّة عشر سنًّا. رأتها تقع على الرمال وتمتزج بها، وتدوسها أقدام المتكالبين على الأخ.

الأخ لا يزال يتكلم، كلماته مسحوقة مدعوكة بالتراب: يا أبي، رأيت رجلًا عجيبًا يهبط من أعلى الجبل، يغزو عقول أهل القرية، ويأكل عظام الغنم؛ فيرضون بغنيمته. تسللتُ إلى كهفه المظلم الغريب، وضِعتُ متتبعًا خواره وأنينه، وحين سألته من أنت؟ وماذا تريد؟ صرعني، ولم أفق إلا هنا والناس يقتلونني!

ثم صمت الفم؛ فتقهقرتْ وفرَّتْ نحو الجبل. في كلِّ خطوةٍ، تلفَّتت خلفها لترى أهل القرية يقضمون عظام أخيها، يكوِّمون اللحم كومةً يتربع على قمتها الرأس. أحلامها كلُّها تحطَّمت، خوفها سرى داكنًا ثقيلًا في الهواء فأثقل خطواتها وأطرافَ النهار؛ فسقطت غشاوة الليل.

سمعتْ صوت أخيها في الهواء عابرًا، يتكلم في الصخر، ينبس مع هفيف الريح: يا أختي، رأيتُ رجلًا عجيبًا ولد من حجرٍ أحمر مغمورٍ بالدم. مشى في التلال، مشى في السهول، مشى في الجبال، مشى على البحر. ولمَّا سألته كيف؟ صرعني ولم أفق إلَّا وأنا محض نبات ميِّت تجففين به دموعكِ.

– يا أختي، رأيتُ رجلًا عجيبًا يرتدي لباسًا أخضر ويخور سائرًا، وطائرًا، وزاحفًا. يرمي الحجارة على كل المسافرين، يفرق القطعان، يفرق الأحباب، يفرق اللحم بأظافره ويتعطَّر بالدم. ولمَّا سألته لماذا؟ صرعني ولم أفق إلَّا وأنا حجرٌ أصم يراقب دموعكِ ويبكي.

– يا أختي، رأيتُ رجلًا عجيبًا أشعث أغبر، يدعي أنَّه ذو بأسٍ شديد، وأنَّه أقوى الرجال. يسير باطشًا كل رجل. وفي أعين النساء الحزينات يسكب الأحلام والرضا أخضر شفافًا كأمواج الغيوم الحيية. ولمَّا سألته لماذا؟ صرعني ولم أفق إلا ذرةً رملٍ مسافرة، تسقط في عينيكِ وتبتهل للدموع أن تكف.

– يا أختي، رأيتُ رجلًا غريبًا أحمر العينين، يتجلى ضوء عينيه في الظلمة، وفي الضوء يبدو حييًا سليم النية. يمد سحره إلى أعين المتعبين ويربت على جباههم المتغضنة، يريهم الأحلام سحرًا يمتد ستارًا أخضر على أجسادهم ويسكبهم في مشاعر غريبة. ولمَّا سألته من أنت؟ وكيف تفعل هذا؟ مدَّ إليَّ يدًا خضراء وحشية وبطش بي. ولم أفق إلَّا وأنا محض لحدٍ أصم يراقب جسدكِ كومةً من اللحم كوَّمتها مخالب خضراء، وعلى القمة وضعتْ رأسكِ مغسولًا بالدموع.

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

أين تختفي الأشياء؟

أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج  17 إبريل،  2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…

1 hour ago

هِي خَائِفَة

هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج  15 إبريل،  2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…

2 hours ago

وَجْهٌ ذَائِب

وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج  12 إبريل،  2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…

2 hours ago

هِبَةُ القَصْرِ السِّحْرِي

هِبَةُ القَصْرِ السِّحْرِي هاجر منصور سراج  8 إبريل،  2025 تتدلى الثريات المضيئة من سقف المجلس…

15 hours ago

فَأْرَة

فَأْرَة هاجر منصور سراج  1 إبريل، 2025 فتحت فأرة عينيها للنور في سيرك يعج بالمهرجين؛…

15 hours ago

رثاء الريحانة العَطِرة

رثاء الريحانة العَطِرة هاجر منصور سراج  1 فبراير، 2025 ريحانتي الراحلة! تركتُكِ، في آخر زيارة…

2 days ago