التجديد الشعري في العصر العباسي

التجديد الشعري في العصر العباسي

هاجر منصور سراج 

7 سبتمبر، 2024


التجديد الشعري في العصر العباسي

أخذ الأدب في العصر العباسي يكتسي حلية جديدة، وأغلب الظن أن ذلك وافدٌ من الثقافات التي تسللت إلى المجتمع العربي ثم تغلغلت فيه، وأبرز تلك الثقافات هي الثقافة الفارسية، وقد اتضح ذلك في الأدب كما في العادات الاجتماعية السائدة آنذاك، وفي الأعياد الفارسية التي استحلت عقول العرب وأيامهم، وفي اللغة العربية الصرفة التي بدأت تبتعد عن الحواضر أكثر لتحل في البادية وتنحصر.

وأدب هذا العصر يسمى بالأدب العباسي، وهي تسمية خاضعة للتقسيم السياسي؛ كما يسمى بأدب المولدين، وهذا عائد إلى حقيقة أن معظم شعراء هذا العصر هم من المولدين؛ ويسمى أيضًا بالأدب المحدث لأن أدباء هذه العصر كانوا من المحدثين؛ أي جددًا متأخرين عن شعراء الجاهلية والعصر الأموي.

وقد كان في شعر هذا العصر من الجِدَّة ما لم يألفه العرب، وقد تمثَّلت في: الخمريات، والغزل بالمذكر، والتوسع في وصف الحضرية، وأُهملت العصبية القبلية، كما ظهر، في هذا العصر، النفور من القديم والتقليد، وبدأ التجديد والإبداع، ولعل أظهر بيت ما انفك مؤرخو الأدب يرددونه هو بيت أبي نواس (وكان أبرز مهاجمي القالب القديم):

قُل لمن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَسْ ♦♦♦♦ واقفًا ما ضَرَّ لو كان جَلسْ

وبيت آخر له:

يا ربع شغلك إني عنك في شُغُلٍ ♦♦♦♦ لا ناقتي فيك لو تدري ولا جملي

وآخر:

سقيًا لغير العلياء فالسند ♦♦♦♦ وغير أطلال مي بالجردِ

وقد اعتبر النقاد هذه الأبيات صرخةً نافرةً من القديم، لكننا لا نرى أبا نواس متخليًا عن (القالب) القديم الذي أغار عليه، إذ صاغ بعض قصائده في ذلك القالب وإن بدا غير راغبٍ في ذلك وإنما يجبره الذوق العربي، والتراث، وذلك الفكر بأفضلية الأقدمين، والاعتقاد أن متجاوز ذلك القالب إنما هو مغير لا يجار. وكان أبو نواس قد جعل الغزل بالخمرة مطلع قصائده، وجعل ذلك مذهبه فما ترك ذلك إلا بعد أن سجنه الخليفة لاشتهاره بالخمرة وأخذ عليه ألَّا يذكرها في شعره، فما كان من أبي نواس إلا أن استجاب، وعاد في سخرية وتندر إلى ذكر الأطلال في ذلك:

أَعِر شعرك الأطلال والمنزل القفرا ♦♦♦♦ فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا

دعاني إلى نعت الطلول مسلطٌ ♦♦♦♦ تضيق ذراعي أن أردَّ له امرا

فسمعًا أميـــر المؤمنين وطاعــــةً ♦♦♦♦ وإن كنت قد جشمتني مركبًا وعرا

ونرى بوضوح أن عودته للأطلال إنما من تركه الخمرة خشية من الخليفة، وإنه (مركب وعر) لا يستلذ السير فيه، ولا يأنس في انتهاج ذلك النهج في القول.

بيد أن الفنون الشعرية في ذلك العصر هي نفسها تلك القديمة إلا من توسع وتطوير فيها، وهذه الموضوعات هي: المديح، الرثاء، الهجاء، الفخر، الغزل، الوصف، العتاب. وإنما اتسعت بفعل العصر وتطوراته وما طرأ عليه من تغيير جدير بأبناء الحاضرة إحداثها، وقد كان النقاد آنذاك يعتقدون أنَّ أبناء البادية القدماء لم يتركوا للمحدثين شيئًا من المعاني، وانتقصوا شعرهم واعتبروه تقليدًا، بيد أنَّ مستلزمات العصر فرضت على الشعراء التحديث حتى دون ان يقصدوه؛ فبدلًا من وصف الأطلال، أصبح وفد القصور، والحدائق، والبحيرات وغير هذه المظاهر الجميلة. ولم تعد المرأة في الشعر الغزلي هركولةٌ فنقةٌ بل أصبحت رقيقةً يهفهف الوشاح حول كتفيها. وقد قال الجاحظ واصفًا الدولة العباسية أنَّها لم تعد (عربيةً أعرابيةً) بل استحالتْ (أعجميةً فارسية)؛ وفي قوله هذا كثير مما يمكن استنباطه، فالفكر العربي تغير، كما تغير الذوق، إلا أنه لم يبتعد كثيرًا إذ كان قريب العهد بالأمويين (رعاة عربية البادية وذوقها) وهكذا امتزجت المعاني القديمة بالحديثة في خطوات خجلى، ما تلبث أن تترك الحداثة لحظة لتعود إلى القالب القديم عند بعض الشعراء، فجمعوا بين الإبداع والتقليد وأحسنوا (غالبًا) صوغها. فتارةً يحاكون القدماء في حسن السبك، وتارةً يزيدون عليهم بما امتازوا به معانٍ جديدة وحيلةٍ قولية تجمِّل الألفاظ. غير أنَّ هذا غير منتشرٍ بينهم كلهم، وإن كان شائعًا بين مجيديهم. وأغلب الظن أنَّ أثر الحضارة وامتزاج الأعراق قد أثَّرت في الذوق العام، ولمَّا كان الخلفاء قد أصبحوا يسكنون القصور العالية، فقد أخذوا يستطيبون أوصافًا جديدةً رقيقةً غير ما كان يحبّه الجاهليون والمسلمون الأوائل. (محمود مصطفى، 1937)

وهذا واضحٌ في ما روي عن أنَّ الشعراء كانوا بباب الخليفة المنصور حشدًا، فقال المنصور لحاجبه: «اخرج إليهم فاقرأ عليهم السلام وقل لهم: من مدحني منكم فلا يصفني بالأسد؛ فإنما هو كلب من الكلاب، ولا بالحية؛ فإنما هي دُويبة تأكل التراب، ولا بالجبل؛ فإنما هو حجر أصم، ولا بالبحر؛ فإنما هو غطامِط لجب. ومن ليس في شعره هذا فليدخل ومن كان في شعره فلينصرف»، فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة، فمدح المنصور:

له لحظات عن حفــافي سريره ♦♦♦♦ إذا كــرها فيها عذاب ونائل

لهم طينــة بيضــاء من آل هاشــمٍ ♦♦♦♦ إذا اسود من كوم التراب القبائلُ

إذا ما أبى شيئًا مضى كالذي أبى ♦♦♦♦ وإن قال إني فاعــلٌ فهو فاعلُ

فقال له المنصور: «حسبك. هاهنا بلغت، هذا عين الشعر. قد أمرت لك بخمسة آلاف درهم». (ابن عبد ربه، ج1، 220).

وكان الشعراء في العصر العباسي يتدارسون الشعر القديم ويحفظونه ويأخذون اللغة من البادية حتى ينطقوا بما يوافق الذائقة العربية والنقاد القدماء الذين كانوا يبثون رأيًا أنَّ شعر المحدثين ركيكٌ مصنوع دون حتى النظر فيه. وقد اجتهد الشعراء في ذلك كثيرًا، بيد أن الحضارة كان لها معانيها الخاصة، ونحن في متابعتنا لأشعار القدماء وصولًا إلى العصر العباسي، ندرك الارتقاء الذي عمَّ كل مجالات الحياة، وفرض على الشعراء تصوير واقعهم، وقد أجادوا في ذلك؛ من ذلك قول بشار بن برد:

يا قوم أذني لبعض القوم عاشقةٌ ♦♦♦♦ والأذن تعشق قبل العين أحيانا

ثالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم  الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

والأغراض القديمة التي سأتناولها بالبحث: 1. المديح، 2. الهجاء، 3. الفخر، 4. الوصف، 5. الرثاء، 6. الغزل، 7. الزهد.

أمَّا التجديد في هذه الأغراض، فيتمثل في: 1. ازدياد المجون. 2. وصف الخمرة 3. وصف الرياض والبساتين والقصور. 4. ازدياد الوعظ والتزهيد في الدنيا والحكمة. 5. رثاء المدن، والطيور والحيوانات. 6. الغزل بالمذكر.

(1) المدح

نظم الشعراء العباسيون في الموضوعات القديمة من مدح ورثاء ووصف وهجاء ورثاء وفخر، وعتاب وغزل وزهد، كما فعل السابقون، وهكذا بقيت أغراض الشعر العربي الموروث إلا أنها تزينت بثوب الحضارة والعصر.

وقد عرف الهاشمي في كتابه جواهر الأدب المدح بأنه: «الثناء على ذي شأن بما يستحسن من الأخلاق النفسية كرجاحة العقل، والعفة، والعدل، والشجاعة، أن هذه الصفات عريقة فيه وفي قومه وبتعداد محاسنة الخلقية»، (الهاشمي، 1969، ص 27)، وأضاف أن المدح قد شاع عندما ابتذل الشعر، وجعله الشعراء مهنة، وذكر أن من أوائل المدَّاحين: زهير، والنابغة، والأعشى.

من حيثُ الشكل، لم يستطع شعراء العصر العباسي التخلي عن القالب القديم كليًا الذي تُحْشر فيه أغراض ومقاصد، وقد طبع كثير من الشعراء على انتحال أخيلة شعراء الجاهلية وخواطرهم. والشكل القديم للقصيدة يتمثل في الوقوف على الأطلال وذرف الدموع ووصف الظعائن، ثم القيام بالرحلة التي يصف فيها الصحراء والدابة، ثم ما يرى من حيوان وحشي، ويذكر الصياد وكلابه، ويُضمِّن الشاعر قصيدته حكمًا وأراء فلسفية هي نتاج رحلاته. وأول ما يلاحظ المطالع لقصائد الشعر في العصر العباسي هو بقاء ذلك القالب بيد أننا سرعان ما ندرك أن كل تلك الخطوات التي خطاها القدماء إنما أصبحت على أيدي العباسيين رمزًا؛ فالأطلال للحب الماضي، والرحلة رمز لأفكار الإنسان وتقلباته في الحياة. ولم يتمكن الشعراء العباسيون من انتزاع ثيمة بعينها، فمن يذكر الأطلال لابُدَّ أن يذكر رحلة الصحراء، ويصف طرقها، ويصف حيوان الوحش، ومثال ذلك ما قاله مسلم بن الوليد بمقدمة الظعائن:

هلا بكيــتَ ظعائنًا وحُمــولا ♦♦♦♦ ترك الفــؤادَ فراقُهم مخبـولا

فإذا زجرت القلب زاد وَجِيبُهُ ♦♦♦♦ وإذا حبست الدمع زاد هُمولا

وقد مدح أبو نواس هارون الرشيد فلم يجد بدًا من يكسو مدحته بثوب البلاغة والوقار، فيوافق الذوق العربي، ويقف على الديار يحييها شأن القدماء (وهذا ما ذكرته في المقدمة) ثم يعمد إلى النسيب، فينتقل إلى رحلته إلى الممدوح، ولا تجده متعجلًا في وصف الناقة بل يستطرد فيصفها وصفًا دقيقًا يظهر به وفرت مفرداته، وبلاغته، فيصف مشافرها وأنفها ولونها ويخلص إلى نعتها بالأصالة، ثم يصل إلى مدح الخليفة:

حي المنــازل؛ إذ الزمـــانُ زمانُ ♦♦♦♦ وإذِ الشِّباكُ لنا حَرَى ومعانُ

يا حبــذا سفــوان من متربَّـعٍ ♦♦♦♦ ولربما جمع الهوى سفوانُ

وإذا مررت على الديار مسلِّمًا ♦♦♦♦ فلغير دار أميمةَ الهجرَانُ

ويقول في وصف الناقة:

سبط مشافرها، دقيق خطمها ♦♦♦♦ وكأنَّ سائر خلقها بنيانُ

واحتْازَهَا لونٌ جرى في جلدها ♦♦♦♦ يقَقٌ كقرطاء الوليد هجانُ

ويقول مسلم بن الوليد في رحلة الصحراء:

ومَجْهلٍ كاطِّراد السيفِ مُحتجَزٍ ♦♦♦♦ عن الأَدلَّاء مسجور الصياخيدِ

تمشي الرياحُ به حسرى مُولَّهَةً ♦♦♦♦ حيرى تلوذ بأطراف الجلاميد

وهنا نلاحظ الصورة في الرياح التي تلجأ إلى الجلاميد بعد أن مس الفزع قلبها، كأنما تريد الفرار منه. وقد حاول شعراء هذا العصر خلق صور طريفة في القالب القديم، في نحو ما قاله بشار بن برد مصورًا أتن الوحش في حال العطش:

غدت عانةٌ تشكو بأبصارها الصَّدى ♦♦♦♦ إلى الجَأبِ إلا أنها لا تخاطبُهْ

إلا أن بعض الشعراء حاولوا ترك القالب القديم، فأبدلوا الحديث عن الأطلال المهجورة بالحديث عن القصور المأنوسة، وفي هذا يفقد الشاعر عنصر الحنين فلا يسترسل فيه شأن الواقف على الأطلال، ثم لا يصف الصحراء ومسالكها وحيواناتها وإنما يتجه إلى وصف الرياض في الحاضرة ومناظر الربيع المبهجة. واتخذ بعض هؤلاء أحيانًا من وصف رحلة السفن بديلًا عن رحلة البعير في الصحراء. كما استهل البعض مقدمات قصائدهم بمدائح الخمرة، أو ما يسميه بعضم (الغزل بالخمرة)، ومن توسع في ذلك: مسلم، وأبو نواس، وأبو العتاهية، وقد أستهل ذلك بشار بن برد. وابتدئ بعضهم قصائدهم بالغزل، كما في مطلع قصيدة مروان بن أبي حفص في مدح الخليفة المهدي:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها ♦♦♦♦ بيضاء تخلِط بالحياء دلالها

قادت فؤادك فاستقاد ومِثْلُها ♦♦♦♦ قاد القلوب إلى الصبا فأمالها

أما من حيث المضمون، فيعتبر المديح من أبرز الفنون الشعرية منذ الجاهلية، ويشكل قسمًا كبيرًا من انتاج الشعراء، ولا يخفى علينا أن الازدهار الكبير لهذا الغرض قد حدث في العصر الأموي، حين كان الشعراء يتوافدون على رعاة الإسلام والحضارة في قصورهم لمدحهم ثم ينصرفون بأكياس العطايا. ويرتبط هذا الغرض بالتكسب، وفي هذا العصر جعل بعض الخلفاء، أمثال المهدي، والرشيد، والمأمون أيامًا لملاقاة الشعراء، واستماع ما تنتجه قرائحهم فأعلى ذلك من شأن الأدب، كما كان الغرض ميدان يظهر فيه الشاعر أفضل ما عنده، وقد نشأ هذه الغرض، أول ما نشأ، إعجابًا بالفضائل العربية مثل: المروءة، والعفة، والإباء، والسماحة، والكرم، والشمم، والعدل، والشجاعة، والقوة، والحلم... وغير ذلك من الصفات الحميدة التي أخذ الشعراء يلبسونها الممدوح وقد وافقوا بين المدائح والممدوح، فهم يمدحون القواد بالشجاعة والبعد عن التأنق، كما في مدح مسلم بن الوليد يزيد بن مزيد، وهو أحد قادة الرشيد:

يغشى الوغى وشهاب الموت في يده ♦♦♦♦ يرمي الفوارس والأبطال بالشُّعل

يفتر عند افترار الحربِ مُبْتَسِمًا ♦♦♦♦ إذا تغيَّر وجه الفارسِ البَطلِ

ويقول:

لا يعبق الطيب خديه ومفرقهُ ♦♦♦♦ ولا يُمَسِّحُ عينيه من الكُحُلِ

قد عوَّد الطير عاداتٍ وثقن بها ♦♦♦♦ فهن يتبعنه في كلِّ مرتحلِ

ويمدحون الخلفاء بالصفات المستمدة من الدين الإسلامي مثل الورع، والتواضع، والتقوى، والعدل، وغير ذلك. كما مدح الشعراء خلفاءهم بأنهم حماة الإسلام ورعاته، ومثبتي عراه. يقول علي بن الجهم:

وأنت خليفة الله المعلى ♦♦♦♦ على الخفاء بالنغم العظام

ليهنك يا أبا إسحاق ملكًا ♦♦♦♦ يجل عن المفاخر والمسامي

لسيفك دانتِ الدنيا وشُدَّت ♦♦♦♦ عرى الإسلام من بعد انفصام

 ولما جاء العباسيون توافد الشعراء عليهم يتغنون بمدحهم، فخلع الخلفاء عليهم، ووهبوهم من الأموال ما وهبوا، على أنهم لم يزيدوا شيئًا على ما فعله القدماء من التغني بتلك الصفات الخلقية التي قد لا تنطبق أحيانًا على الممدوح ما يجعلنا نظن أنَّ الشعراء إنما انساقوا إلى مدح (رمز الخليفة) بالصفات الحميدة، لا الخليفة نفسه مهما كان سلوكه سيئًا - كما كان من الخليفة الأمين. وهذا المدح يمكن أن يكون نداءً للخلفاء كي يقيموا سياسةً حكيمةً رشيدة، وأن يتحلوا بصفاتٍ إسلاميةٍ حميدة.

أمَّا الثورة على المعاني القدية، فتتضح في قصة تشبيه أبي تمَّام الخليفة المعتصم بحاتمٍ، والأحنف، وإياس، وغيرهم ممن كان العرب قد اتخذوهم أمثلةً لمنتهى صفةٍ ما، فكان أن أنكر عليه جلساء الأمير ذلك زاعمين أنَّ الأمير فووق كل ذلك، فما كان منه إلا أن بالغ في قوله معتذرًا:

لا تنكـروا ضربي لـه من دونه ♦♦♦♦ مثلًا شـرودًا في النـدى والباس

فاللـه قـد ضرب الأقـلَّ لنـوره ♦♦♦♦ مثـلًا من المشـكـاة والنـبـراسِ

وكذلك ما حكاه علي بن عبد الرحمن بن المنجم أن محبوبته لم ترض عن تشبيهه إياها بالبدر:

شبهتها بالبدر فاستضحكت ♦♦♦♦ وقــــابلـت قولـي بالنُّـــكـرِ

وسفهّـت قولـي وقالـت متى سمجـتُ حتـى صـرت كالبـدرِ

ولعل ازدياد المبالغة في هذا العصر راجع إلى رغد الحضارة، والرغد المتفش، والأمان المستتب. وربما أغرى العطاء الوفير الشعراء فزادوا في التملق والتزلف، ولم يتهيبوا أن يرفعوا ممدوحيهم إلى مقام الإله، فجنوا في الشرك، ومنهم من وقع فيه، وفي هذا أشعارٌ كثيرةٌ، منها قول العكوك في مدح أبي دلف:

أنــت الذي تنـــزل الأيام منزلها ♦♦♦♦ وتنقـل الدهـر من حـال إلـى حـالِ

ومـا مددت مــدى طــرف إلى أحـدٍ   إلا قـضـــيـت بـأرزاق وآجــــــالِ

وقول أبي نواس في مدح هارون الرشيد:

وأخفـت أهـل الشـرك حتى إنه ♦♦♦♦ لتخـافك النطـف التـي لـم تُخْلَـقِ

وقول البلاذري في مدح المستعين بالله:

ولو أن بُـرْدَ المصطفـى إذ لبستـه ♦♦♦♦ يظن لظَـنَّ البُردُ أنـك صاحبهْ

وقال وقــد أعطِيتــهُ ولبِسْتَـــهُ ♦♦♦♦ نعـــم هذه أعطـــافه ومنــاكبـه

كما حوت قصائد المدح حكمًا وأمثالًا كثيرة أطلقها الشعراء ترسيخًا لأقوالهم وتوطيدًا لتعليلاتهم، وقد اشتهر بها أبو تمام وبلغت القصائد قمَّة ذلك عند المتنبي، من ذلك ما قاله أبو تمام في قصيدة مدح بها أحمد بن أبي داوود:

وإذا أراد اللـه نشر فضيلـــةٍ ♦♦♦♦ طــــويت أتاح لها لســان حسودِ

لولا اشتعــال النارِ فيمــا جاورت ♦♦♦♦ ما كان يُعــرف طيـف عَرْفِ العـودِ

(2) الهجاء

«هو تعداد مثالب المرء وقبيله، نفي المكارم والمحاسن عنه»، (الهاشمي، 1969، ص 27). وهو فن أدبي قديم منذ الجاهلية، وقد رافق المديح، وكان أول أمره يدور على التعبير «بوضاعة النسب والبخل، والفقر، والقعود عن الغزو، والتقصير في حماية الجار، والعجز عن أخذ الثأر، والانهزام في الحرب، والاستسلام للأعداء، واستساغة الظلم». (رشيد، 1989، ص 29). وقد فتر هذا اللون في عصر صدر الإسلام، ثم عاد فنما شرره في عهد الدولة الأموية التي اعتمدت في أساسها على العصبيات القبيلة، ومعه نما فن النقائض على أيدي شعراء سوق المربد، وقد كانت بدايات هذا الأخير في الجاهلية، بدايات بسيطة التكوين ثم بلغت أوج قوتها، وفي هذا العصر خبا وهج هذا الفن، واقتصرت على فئة قليلة.

ويرى محمود مصطفى (1937) أن الهجاء في هذا العصر إنما مما تثمره المدنية من خبث النفوس، والتقول على الناس، وقد أرجع ذلك لضعف الوازع الديني، ورأى أن من أثر المدنية تعدد المثالب، وكثر الفجور، فكان الهجاء مما تورط فيه الناس من المفاسد فعيبوا بما يعاب به المرء من البخل، وامتناع الوفاء، والمروءة، وخلع العذار، والجبن، كما كان من أثر المدنية ارتقاء الأذواق فاستقذرت بعض المناظر، وهجنت العادات، وسخروا من أشكال الأشخاص، ومن أصوات المغنين، وهجو كلًا بما فيه، فكان الشعراء يهجون الخلفاء والوزراء إذا ما رأوا منهم فعلًا مشينا، أو حدثت بينهم خصومة شخصية، أو ضنوا عليهم في العطاء، وقال أبو العتاهية يهجو مَعْن بن زائدة:

فَصُغْ ما كنت حلَّيـــــــت به سيفك خلخالا

فمـا تَصْــــــنعُ بالسَّيــــف إذا لم تكُ قتَّــالا

 وكان مهجوي أبي تمام هم ممدوحيه القدماء، وقد أسرف أبو تمام في هجائهم كما أسرف في مدحهم، أما أبو نواس فقد عُرف أن هجاءه نوعان، نوعٌ صارمٌ ثقيل الوطأة، شديد النكاية، بذيء العبارة، ونوعٌ آخرُ مسرفٌ في السخرية والمرح، طريف ظريف، خفيف الروح، من ذلك ما قال يهجو به الفضل:

رأيت الفضل مكتئبا ♦♦♦♦ يناغي الخبز والسمكا

فـأسبـل دمعه لـمَّا ♦♦♦♦ رآني قادمـــًا وبكى

فلمــا أن حلفت له ♦♦♦♦ بأنِـي صـائمٌ ضحكـا

 بيد أن الأحقاد ليست الباعث الوحيد للهجاء بل كان مرجع أغلبه إلى السخرية، والتهكم، وحب التندر، والغلو في المجون، وإظهار البراعة في التقبيح، وتوليد المعاني؛ وقد قال ابن الرومي يهجو شخصًا يسمى عمرًا:

وجهُك يا عمرُو فيه طولُ ♦♦♦♦ وفي وجوه الكلاب طولُ

والكلبُ وافٍ وَفِيـكَ غَدْرٌ ♦♦♦♦ ففيك من قـدره سُفُـولُ

وقال الحسين بن الضحاك في جارية:

لها في وجهها عُكَنُ ♦♦♦♦ وثلثا وجهها ذَقـن

وأسنانٌ كريشِ البط ♦♦♦♦ بين أصولها عفـن

أمَّا بشار بن برد فكان يحترف الهجاء، وقد رأى الشكعة (1986) أن هجاءه ثلاث مراتب:

  • المرتبة الأولى: مرتبة من الانحدار والانحطاط والنيل من الأعراض، والمبالغة في الإفحاش إلى مستوى من التردي.
  • المرتبة الثانية: وهي مرتبة أقل انحطاطًا من المرتبة السابقة، لكنها لا تزيد عن عملية شتم وسب من تلك لا تحسنها إلا طائفة بعينها من الناس السوقة وغير ذوي المروءة.
  • المرتبة الثالثة: وهي من ضروب الشعر اللطيف الذي يمكن استقراؤه والاستمتاع ببعض ما حوى من معانٍ مبتكرة أو سخرية فكهة. (ص 145)

وقد رأى شوقي ضيف أن الهجاء في هذا العصر أصبح كالصحيفة التربوية المقابلة للمديح، ففي حين أن المديح يرسم المثالية الخلقية لهذه التربية، فإن الهجاء يرسم المساوئ الفردية والاجتماعية التي ينبغي أن يتخلص منها المجتمع. وهكذا كان الهجاء في الأعراض والأشكال (شكل الإنسان) وفتحت الحضارة باب الهجاء بالقذارة والدنس، في مجتمع النظافة والتعطر، كما ظهر هجاء الزندقة، والسحر والشعبذة وعزائم الجن والشياطين.

(3) الفخر

«هو تمدح المرء بخصال نفسه وقومه، والتحدث بحسن بلائهم، ومكارمهم، وكرم عنصرهم، ووفرة قبيلهم، ورفعة حسبهم، وشهرة شجاعتهم»، (الهاشمي، 1969، ص 27).

ويرى الرافعي أنه «شطر من الهجاء؛ إذ يقصد به التفضيل والترجيح بين الصفات الممدوحة التي يعتز بها والصفات المهجوة التي يفتخر عليها»، (الرافعي، ص 717)، كما يرى أنَّه تأريخ سواء لفضيلة الفرد أو فضيلة الجماعة، فالشاعر لسان القبيلة ومؤرخ أحسابها. وقد شاع الفخر في صدر الإسلام وفي عهد بني أمية وفي عهد بني العباس، إلا أن الفخر القبلي القديم تضاءل، واتسع الفخر الشخصي بالنفس وخصائصها الذاتية والأخلاقية ونتاجها الشعري، (فروخ، 1981، ص43). على أن الفخر القبلي بقي عند نفر من الشعراء في مقدمتهم أبو نواس الذي كان يتعصب لمواليه من بني سعد العشيرة القحطانيين، وينظم في ذلك أشعارًا كثيرة، وكان بشار يتعصب في عصر بني أميّة لواليه القيسيين بحدة، حتى إذا ما أخذ بنو العباس الخلافة أظهر بشار ما كان يكنه من بغض للإسلام والعرب، وصوَّره في شعره متعصبًا لأصله الفارسي مفاخرًا به ذامًا العرب والمسلمين، ومن هنا تولد فنا (الشعوبية) من ذم العرب والفخر بالأصل الأجنبي، وتولدت (الزندقة) من بغض الإسلام. إلَّا أنَّ كثرًا من الشعراء ظلُّوا صاردين في فخرهم عن شعورٍ طاغٍ بالمروءة، والكرامة، من ذلك قول بكر بن النطَّاح:

ومن يفتقـرْ منا يعشْ بحســامِهِ ♦♦♦♦ ومن يفتقر من سائر الناس يسـألِ

وإنَّا لنلهو بالسيـوف كما لهتْ ♦♦♦♦ فتــاة بِعِقْـدٍ أو سِخَــابِ قَرَنْفُـلِ

(4) الوصف

«هو شرح حال الشيء وهيئته على ما هو عليه في الواقع لإحضاره في ذهن السامع كأنه يراه أو يشعر به، وأشار الهاشمي إلى أن أشهرهم في ذلك: امرؤ القيس، وأبو داود الإيادي»، (الهاشمي، 1969، ص 27).

وهو جزء طبيعي من منطق الإنسان؛ لأن النفس محتاجة من أصل الفطرة إلى ما يكشف لها من الموجودات وما يكشف للموجودات منها، ولا يكون ذلك إلا بتمثيل الحقيقة وتأديتها إلى التصور عن طريق السمع والبصر والفؤاد؛ أي الحس المعنوي. (الرافعي، ص 735)

يعدُّ الوصف من أهمِّ صفات هذا العصر، إذ ازدهر وصف الرياض والبساتين، والقصور ومجالس الأنس، وأحوال الطبيعة، ومصايد الوحوش، والطير والسمك، والأمور الدقيقة، ولعلنا إذا ذكرنا الوصف في العصف العباسي ذكرنا في طليعة محترفيه أبا تمام، ويذكر البصير (1955) أن أبا تمام ليس أول من وصف الطبيعة في الأدب العربي، لكن ربما يكون أول من أحب الطبيعة حبًا حقيقًا، ووصف بعض ظواهره وصفًا يكاد يكون غزلًا. ومن أشهر ما قاله أبو تمام:

رقَّـت حواشي الدهر فهي تمرمـر ♦♦♦♦ وغدا الثـرى في حَلْيـهِ يتكسَّـرُ

نزلــت مقدمِّةُ المَصِيـفِ حميـدةً ♦♦♦♦ ويـدُ الشتــاءِ جديـدةٌ لا تُكْفَــرُ

وفي هذا العصر أصبح للوصف بابًا خاصًا، وقد اتسع مع اتساع العمارة وجمال الطبيعة وقد كان العرب يصفون قبلًا المعارك والأطلال وغير ذاك، وعلى الرغم من توسع فن الوصف في هذا العصر إلا أن العرب قلما اشتغلوا بوصف الحوادث الطويلة أو التواريخ كما فعل اليونان والفرس قديمًا، (زيدان، ص 659). وفي حين اشتهر أبو تمام والبحتري وصف الطبيعة، اشتهر أبو نواس في وصف الخمرة، كما اشتهر في وصف الصيد والطرد. ومما قاله أبو نواس في وصف الخمرة:

يا شقيـق النفـس من حَكَـمِ ♦♦♦♦ نِمْـتَ عن ليلـى ولـم أنَـمِ

فاسـقني البِكْـرَ التي اختمرتْ ♦♦♦♦ بخِمـار الشَّيْــبِ في الرَّحِــمِ

كما ظهر وصف السفن، وقد وصف كثيرٌ من الشعراء سفينة الأمين التي على شكلِ عُقابٍ، منه قول أبي نواس:

سخَّـر الله للأمين مطايـا ♦♦♦♦ لم تسخَّر لصاحـبِ المحـرابِ

فإذا مـا ركــابه سـرن بـرًّا ♦♦♦♦ سار في المـاءِ راكبًا ليـثَ غابِ

أسدًا باسطًا ذراعيـه، يعدو أهْرَتّ الشَّدْقِ، كالـحَ الأنيـابِ

(5) الرثاء

«هو تعداد مناقب الميت وإظهار التفجع والتلهف عليه، واستعظام المصيبة فيه»، (الهاشمي، 1969، ص 27).

ذكر جرجي زيدان أن الرثاء إنما هو فرع من المديح، فهو مدح الميت، وهذا اللون يجمع بين التفجع والحسرة والأسف والتلهف والاستعظام، ثم يذكرون صفات المدح مبللة بالدموع، حتى قال قدامة: إنه ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على انه لهالك. ومن البديهي أن الرثاء لا يتعلق بالنسيب كما يتعلق به المدح والهجاء وغيرهما ولكن وردت للعرب في ذلك قصيدة واحدة. قال ابن الكلبي: لا أعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة:

أرث جديـد الحبـل من أم معبد ♦♦♦♦ بعافية وأخلفـت كـل موعـدِ

أما في الإسلام فقد جمع الرثاء بين التعزية والتهنئة، ومن ابتدأ بالإجادة في هذه الطريقة من الشعراء، أبو نواس في قصيدته النونية التي يعزي بها الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنيه بالأمين، يقول منها:

وفي الحيِّ بالميْـتِ الذي غَيَّـث الثـرى  ♦♦♦♦ فلا الملـكُ مغبـونٌ ولا المـوت غابـن.

ثم تبعه أبو تمام في قصيدته التي أولها:

ما للـدمـوع تـروم كـل مـرام ♦♦♦♦ والجفـن ثاكـلُ هجعـةٍ ومنـامِ

وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء خاصة، حتى قيل فيه إنه نوَّاحة ندَّابة، بيد أن البصير (1955) يقول إن رثاءه يقسم إلى قسمين: مطبوع ومصنوع، وهو في الأولى قوي العاطفة صادق الشعور والألم، وفي الثاني صاحب صناعة يحسن اختيار الألفاظ ويجيد صقل الديباجة، وأشهر ما اشتهر به أبو تمام هي رائيته في رثى محمد بن حميد الطوسي، منها:

فتى مـات بين الطـعن والضـرب ميتة ♦♦♦♦ تقـوم مقـام النصـر إن فاتـه النصـر

 ومن طرق الرثاء التي أحدثها المتأخرون، ما يرثون به الدواب والأثاث والأدوات، والقصيدة التي احتذوها في ذلك إنما هي القصيدة الهرِّية الشهيرة التي نظمها ابن العلاف في هر له كان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، وكثر ذلك منه فأمسكه أربابها وذبحوه، وقد قال كُثر إنما الهر على سبيل الكناية فالمقصود إنما هو عبد الله بن المعتز، وخشي من الإمام المقتدر الذي هو سبب قتله، فنسبها إلى الهر وعرَّض به في أبيات منها، وقيل بل كنى به عن الوزير أبي الحسن بن الفرات:

يا هـرُّ فـارقتنـــا ولـم تعـدِ ♦♦♦♦ وكنـت عنـدي بمنـزل الولـدِ

فكيف تنفك عن هـواك وقد ♦♦♦♦ كنـت لنـا عـدة مـن العـددِ

تطـرد عنا الأذى وتحرسنـا ♦♦♦♦ بالغيب من حـيةٍ ومن جـردِ

وتخـرج الفأر من مكامنهـا ♦♦♦♦ ما بيـن مفتوحـها إلى السددِ

يلقـاك في البـيت منهمُ مددٌ ♦♦♦♦ وأنـت تلقــاهمُ بـلا مــــددِ

وكان الشعراء لا يتركون موت خليفة أو وزير دون رثاء، يظهرون في اللوعة والحسرة مصبوغًا بالحماسة وتمجيد بطولاتهم، على نحو ما جاء في رائية أبي تمام. ولعل أكثر الأبطال رثاءً يزيد بن مزيد فقد أخذ كل شعراء عصره في رثاءه.

وفي هذا اللون تتضح دقة التفكير وبعد الخيال، وتجد الشعراء يتنافسون لاستنباط أفضل المعاني شأنهم في ذلك شأن تنافسهم في استنباط معاني المدح النادرة، ومن طريف ما قاله مسلم في الرثاء:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ♦♦♦♦ فطيب تراب القبر دلَّ على القبرِ

وذاك بكاء الخلفاء والوزراء والقواد، وشاع بكاء الأصدقاء، والأبناء، في نحو ما قاله أبو العتاهية:

بكيتك يا عليُّ بدمع عيني ♦♦♦♦ فما أغنى البكاء عليك شيا

وكانت في حياتك لي عظات ♦♦♦♦ وأنت اليوم أوعظ منك حيا

واشتهر في هذا العصر رثاء المدن، كرثاء البصرة حين سطا عليها الزنج فقتلوا أهلها وسلبوا أموالها وهدموا دورها، وكذلك رثاء بغداد حين رماها الحيش قبل مقتل الأمين بالمجانيق، فبكاها من الشعراء:

ألا ابكِ لإحراقٍ وهدمِ منـازلِ ♦♦♦♦ وقتـلٍ وإنهابِ اللُّهى والذخائرِ

وإبراز ربَّات الخدور حواسرًا خرجنَ بلا خُمْـــرٍ ولا بمـــآزرِ

وقد شاع رثاء الطيور والحيوانات، وجدَّ رثاء محمد بن يسير لبستان له عاثت فيه شاة، وآخر رثى قميصًا أغار عليه فأر فقرضه، وقد رثى أبو نواس كلب صيد له قائلًا:

يا بؤس كلبي سيد الكلابِ ♦♦♦♦ قد كان أغناني عن العُقابِ

ويتوعد في آخر مرثيته بالثأر من الحية التي لدغته. وكان شعراء العصر العباسي صريحين في تصوير أحاسيسهم ومشاعرهم، وصادقين في تعابيرهم، فقلما تشوبها الصنعةُ والتكلف. 

(6) الغزل

ذكر النساء ومحاسنهن وشرح أحوالهم، ويذكر الهاشمي أن هذا اللون كان عند الجاهليين في المقام الأول من بين أغراض الشعر، حتى لو انضم إليه غرض آخر قدم النسيب عليه وافتتح به القصيد، لما فيه من كل اجتماع إنساني-والبدو أكثر الناس حبًّا لفرَاغهم، (الهاشمي، 1969، ص26).

وقد تغنى الشعراء مذ قبل الإسلام بالغزل، وجعلوه مستهل مدائحهم، وأهاجيهم، وحماسياتهم، وخصص له فريق آخر قصائد ومقطوعات، وارتقى في عصر بني أمية على أيدي الشعراء العذريين، كما ظهر الشعر الحسي الذي كان ابن أبي ربيعة رائده، وقد عد جرجي زيدان جميل بثينة إمام أهل النسيب والغزل في الإسلام، وذلك لأنه صادر من عاطفة صادقة، ورأى أن من داء بعده إنما أخذوا يقلدونه فينظم الواحد منهم أبيات غزل أو نسيب لمحبوب وهمي، واستعار بعضهم أسماء حبيبات شعراء عاشقين وشببوا بهن تقليدًا. (ص 278).

وبقي التياران (العذري والحسي) في العصر العباسي مع اختلاف في الكم والنوع، ولعلنا ندرك -نظرًا إلى الانفتاح على الحضارات الأخرى، وسيود عادات الفرس - أن حال هذين اللونين في العصرين العباسي والأموي قد اختلف، فلما كان العذري في العصر الأموي هو السائد وكان الحسي محصورًا في قلة، ومستهجنًا، فقد أصبح العذري في العصر العباسي محصورًا في بضعة شعراء على رأسهم العباس بن الأحنف، بينا اتسعت أفق الشعر الحسي، وارتاده كثر، وتوسع اتساعًا مفحشًا. ومن أشهر أمثلة الشعر العذري الذي قاله العباس بن الأحنف:

لا جزى الله دمع عيني خيرًا ♦♦♦♦ وجزى اللهُ كلَّ خيرٍ لساني

نمَّ دمعي فليس يكتـمُ شيئًا  ♦♦♦♦ ورأيتُ اللسـانّ ذا كتمانيِ

كنتُ مثل الكتابِ أخفاهُ طيٌّ ♦♦♦♦ فاستــدلُّوا عليــه بالعنـوانِ

وقد كان بشار بن برد (أبو المحدثين) في باب الغزل فأفرط في الصنعة؛ لأنه كان أعمى، وبالغ في تصوير الإحساس ليمتاز بذلك على المبصرين. وفي هذا العهد شاع النسيب والتحم بالشعر ورغب فيه الخلفاء من شعرائهم حتى إن الرشيد أمر بحبس أبي العتاهية والتضييق عليه لما تزهد وآلى على نفسه ألا يقول شعرًا في الغزل. ثم أضاف البحتري إلى النسيب معنى تعلق به وردده في شعره واستقصاه، حتى كان الباب الذي اشتهر به على أنه أرق الناس نسيبًا وأملحهم طريقة. ولعل السبب وراء تفشي الغزل الحسي هو انتشار الجواري والقيان بكثرة، وتفشي الفساد الخلقي في بيوت اللهو، وتردد هؤلاء الشعراء المولدين على هذه البيوت، ثم الإغراق في الوصف الحسي لدرجة الفسوق والإثم، (شوقي ضيف، 1966،ص 176).

ولم يقف الغزل عند هذا بل ظهر تجاوزه إلى الغلمان والغلاميات، وهو ما يسمى بالغزل بالمذكر، وقد حكى الجاحظ أن السبب الذي أشاع اللواط في أجناد خراسان في البعوث مع الغلمان، حين تعذر عليهم اصطحاب النساء والجواري حين منع أبو مسلم الخراساني اصطحابهن، ولم يكن هذا عند العرب، ثم ساعد على بروز هذا النوع عوامل أخرى جعلت من الغزل بالمذكر فنًّا شعريًا، وأبرز الشعراء في هذا: أبو نواس، والحسن من الضحاك، ووالبة بن الحباب.

وقد قال أبو نواس الغزل بلونيه: المؤنث والمذكر، وقال كثيرًا في غزل النساء بيد أن أكثره حديث إعجاب مؤقت، أو شعر مناسبه، ورأى طه حسين أن واحدة فقط هي من أحبها أبو نواس بعاطفة صادقة، ومن أشهر ما قاله في هذه:

يـا قـــمــرًا أبــرزهُ مــأتمٌ ♦♦♦♦ يندب شجـوًا بين أترابِ

يبكي فيذري الدرَّ من نرجسٍ ♦♦♦♦ ويلطــم الــوردَ بعُــنَّــابِ

لا تبكِ ميْتًا حلَّ في حُفــرة ♦♦♦♦ وابــكِ قتيــلًا لـك بالبـابِ

(7) الزهد

«من زهد في الشيء وعنه؛ أي رغب عنه وتركه، ومنه زهد في الدنيا، أي تخلى عنها للعبادة فهو زاهد»، (رشيد، 1989، ص 51)، وقد واجه هذا اللون انتشارًا واسعًا في مقابل الزندقة والمجون، وإذا كان «كتاب الأغاني يفيض بالمجون فإن كتب الطبقات التي ترجمت للفقهاء والمحدثين تفيض بأخبار العبَّاد والزهاد، الذي ين رفضوا الدنيا»، (ضيف، 1966، ص 180). ومن نماذج ما قاله أبو العتاهية في الزهد:

رغيف خبز يابس ♦♦♦♦ تــأكـله فـي زاويـة

وكــوز مـــاء بارد ♦♦♦♦ تشـربه من صـافية

وغــرفـة ضــيقــة ♦♦♦♦ نفسـك فيهـا خـالية

أو مسـجد بمعـزلٍ ♦♦♦♦ عـن الورى في ناحـية

 وقد عرف في هذا المذهب شعر أبي العتاهية، وقد قصر عليه قوله في آخر أيامه، فكان يذم الدنيا ويزهد في نعيمها، ويعيب على من يره رونقها، ويذكر الموت وهوله، وبلى الأجسام فيه، وقد بالغ في ذكره حتى انتبه القوم إلى أنه لا يذكر بالبعث والنشور، وقد قال ذاك لفلسفته الذاتية إذ رأى تذكير الناس بما هم صائرين إليه من الفناء، لا بما وعدهم في الجنة.  وهذا السلوك التقشفي كان الشكل الأول لنزعة التصوف التي ظهرت فيما بعد، وقد اشتهر بشعر الزهد والوعظ الإمام الشافعي، وقد رويت له أبيات في نحو:

يا من تعــزز بالـــدنيا وزينتها ♦♦♦♦ الدهر يأتي على المبنى والباني

ومــن يكن عِـــزُهُ الدُّنيا وزينتها ♦♦♦♦ فعـــزه عن قليــلٍ زائـــلٌ فانـي

واعـلم بأن كنوز الأرض من ذهبٍ ♦♦♦♦ فاجعــل كنــوزكَ مــن بـرٍ وإيمـانِ

وكذلك اشتهرت رابعة العدوية بالزهد، ومن أشهر ما قالته:

أحبـك حبين حب الهوى ♦♦♦♦ وحــب لأنك أهــل لذاكــا

وفي هذا العصر نرى التطرف في الغزل يصبح مجونًا، والتطرف في التقشف والزهد يصبح تصوفًا، وقد عاد بعض الشعراء من غفلتهم فكتبوا في الزهد، نحو أبي نواس، ومسلم بن الوليد، وغيرهم في نحو ما نرى في ندم أبي نواس في آخر حياته بعد أن قعدت به الصحة فلم يستطع إلى ما كان فيه من إثم ورجس، يقول:

يا رب، إن عظــمتْ ذنوبي كثـرة ♦♦♦♦ فقلـد علمت بأن عفوك أعظم

إن كــان لا يرجــوك إلا مــحسن ♦♦♦♦ فبـمن يلوذ ويستجير المجرم


المصادر والمراجع

  1. الأدب العربي في العصر العباسي، ناظم رشيد، مديرية دار الكتب والنشر، الموصل، 1989
  2. الأدب العربي وتاريخه في العصر الأموي والعباسي، القسم الثاني، محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت.
  3. الأدب العربي وتاريخه في العصر العباسي، الجزء الثاني، محمود مصطفى، مطبعة البابا الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية، 1937.
  4. تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
  5. تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة.
  6. تاريخ الأدب العربي الأعصر العباسية، عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1981.
  7. جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، السيد أحمد الهاشمي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1969.
  8. الشعر والشعراء في العصر العباسي، الدكتور مصطفى الشكعة، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السادسة، 1986.
  9. العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة.
  10. في الأدب العباسي، محمد مهدي البصير، مطبعة السعدي، بغداد، الطبعة الثانية، 1955.
  11. الوسيط في الأدب وتاريخه، الشيخ أحمد الاسكندري والشيخ مصطفى عناني، مطبعة المعارف ومكتبتها، مصر، الطبعة التاسعة، 1931.

There are no comments for this article at this moment. Add new comment .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

@