هاجر منصور سراج
28 سبتمبر، 2024
نادى الإسلام إلى المساواة بين المسلمين وترك العصبيات القبلية، وإلغاء التأصيل والنسب، والدعوة إلى تساوي الناس في الحقوق والوجبات، فخفتت العصبية حينًا من الزمن لكنها ما لبثت أن عادت في عصر الدولة الأموية متمثلةً في تباهي العرب بأنسابهم وأحسابهم، وأبرز مثالٍ على هذا هو شعر النقائض الذي ازدهر في سوق المربد في البصرة. وتفاخر العرب بأنسابهم أفضى بهم إلى احتقار الموالي والتفاخر عليهم. وقد تقبل الموالي ذلك صامتين حتى جاءت الدولة العباسية وذكَّرتهم بماضي حضارتهم الساسانية، فانطلقوا يفخرون بذلك. وفخرهم هذا يصنَّف في الشعوبية، لكنهم في معرض فخرهم بأصولهم، احتقروا كلَّ ما يمت للعرب بصلة، ورفعوا قدر كل شيءٍ فارسي، فتفاخروا بدياناتهم السابقة، وعلى رأسها المجوسية. وقد كان أغلب الفرس قبل الإسلام يدينون بديانة زرادشت الذي جاء في حوالي منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وجاء بعده ماني بن فاتك في القرن الثالث الميلادي. وهذا الأخير جعل من ديانته الوضعية مزيجًا من الزرادشتية، والبوذية، والنصرانية؛ فكان أن أخذ من الأولى عقيدة إلهي النور والظلام، وإباحة الزواج بالبنات والأخوات؛ وأخذ من الديانة الثانية عقيدة التناسخ وتحريم ذبح الحيوان، ومن الثالثة الزهد والتنسك. وظهر مزدك في أواخر القرن الخامس الميلادي في إيران وكان ثنويًا يقدس النار، ويدعو إلى الانكباب على اللذات والشهوات والإمعان فيها، واستباحة النساء والأموال؛ وجعلهما شركة للناس كالماء والهواء.
يُختلف في إرجاع كلمة زندقة إلى أصل، فيقال إنها من أصل إغريقي، ويقال من آرامي، ويقال من فارسي معرب عن زنديك. ورُجح الرأي الأخير، وقد أطلق الزرادشتيون هذه الكلمة على المؤمنين من أتباع ماني إذ كانوا يعدونهم كفرة وملحدين. والزند في الفارسية تعني الشروح القديمة للأفستا وهو كتاب زرادشت؛ وزنديق أي متبع الزند، المفضل لها على النص المقدس نفسها. ولما كان المانوية يميلون إلى تأويل الكتب الديانات الأخرى وشرحها طبق أهوائهم فقد سموا بالزنادقة، (عطوان، 1984، ص 5).
وقيل إن أصله (زِنْدَه) وتعني العائش والخالد، وكان بطاف على من عارض دين الدولة (أي الزرادشتية) وابتدع البدع، ثم عربت الكلمة فقلبت الهاء قاف، (المعجم المفصل، ص 510).
أمَّا في الإسلام فتطلق هذه اللفظة على من يعتقدون بالثنوية، ثم تمددت اللفظة فشملت الدهريين والملحدين، وبقيت اللفظة تتوسع وتتمدد وكانت تشمل المجّان المستهترين في أول أمرها. ويذكر ابن النديم أن الزنادقة هم متبعيّ المانوية الذي يظاهرون الإسلام، وقد سرد أسماءهم في الفهرست. وسيطرة المانوية لا يلغي تأثير الديانات الفارسية القديمة نحو المزدكية والديصانية. (ضحى الإسلام، 1933، ص 164)
نشأ الزنادقة في القرن الثاني، على قلة، وبشكل متخفٍ وكانت كلمة الزندقة تهمة يقذف بها كبار الشخصيات آنذاك، في نحو ما يلقانا الوليد بن يزيد، ومؤدبه عبد الصمد بن عبد الأعلى في الأغاني والخليفة مروان بن محمد، وغيرهم ممن كانت هذه التهمة من خصوم سياسيين بغرض الوقيعة، (الإغاني، ج 7، ص 6 - 7).
وفي أيام الدولة العباسية، نشط الزنادقة وشكلوا حركة قويت، وساعدهم في نمو هذه القوة أسباب:
ويقول طه حسين في الزندقة: «ولو أني أردت أن أشخص هذه الزندقة تشخيصًا أدبيًّا لقلت: إنها ضرب من السخط على العرب وعاداتهم وأخلاقهم ومحافظتهم ودينهم بنوع خاص، هي ضرب من هذا السخط، ومن الكلف بحياة الفرس وعاداتهم ولذاتهم وحضارتهم وما ذاع فيهم من عقيدة دينية، وأكثر هؤلاء الزنادقة والعابثين لم يكونوا يكرهون الإسلام ليستبدلوا منه دينًا آخر يؤمنون به، ويطمئنون إليه حقًا، وإنما كانوا يكرهون الإسلام، وكان كرههم للإسلام يضطرهم إلى أن يحبوا غيره من العقائد الدينية»، (حسين، ص 487).
لا نغالي إذا قلنا إن أغلب الزنادقة - بغض النظر عن أسباب زندقتهم - كانوا من الموالي الفرس، وكان منهم سياسيون كبار في الدولة كانوا المغذين الكبار لهذه الحركة. ويروى أن كل البرامكة كانوا زنادقة إلا محمد بن خالد، وقد مرَّ قال عنهم الأصمعي:
إذا ذُكر الشرك في مجلسٍ ♦♦♦♦ أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليـــت عندهــم آية ♦♦♦♦ أتوا بالأحاديث عن مزدكِ
كما اتهم الفضل بن سهل وأخيه الحسن بذلك، بينا اعترف كاتب المهدي محمد بن عبيد الله بزندقته فقتله المهدي. ولا يرد ذكر زنادقة من العرب إلا ابنٌ لداوود بن علي ويعقوب بن الفضل، ولم يقتلهما المهدي لهاشميتهما. وذكر الطبري أن الأول مات في سجنه وأعدم الثاني في عهد الهادي، وكذلك آدم بن العزيز الأموي الذي ضرب لخلاعته، ولم يقر بالزندقة؛ بل قد استغرب أن يتزندق قرشي، وكذلك يحيى بن زياد الحارثي الذي رُمي بالزندقة لمعاشرته الزنادقة.
أما الشعراء الزنادقة، فيُذكر أبو دلامة في كتب مؤرخي الأدب، وإذا ما تساهلنا قلنا إنه لم يكن زنديقًا شعوبيًا وإنما كان ماجنًا متهتكًا، ونحن نرى أن كُلَّ المُجان في هذا العصر يوصمون بالزندقة. وقد وصف أبو دلامة بالزندقة الاجتماعية. أما ما قوبلت هذه الزندقة الماجنة من قبل الخلفاء، فكان الضحك من عبث هذا الشاعر، والطرب لقوله، (عطوان، 1984، ص30) .
ويُذكر مطيع بن إياس في زمرة الزنادقة. ويُختلف في أصله ويرجح شوقي ضيف أنه من الموالي ودليله على ذلك ما كان من فساد أخلاقه وزندقته وإلحاده. ويذكر القدماء وضعه لكتب في الزندقة، وتعليمه ابنته، ورغم ذلك يذكر عطوان أن شعره لا يكشف الملل الفارسية التي كان من المفترض أن يبطنها ويدسها في شعره؛ لكنه يشير عقب ذلك إلى أن من الطبيعي ضياع هذه الأشعار المنحرفة عن الإسلام. وكان بن إياس يميل على غلاة الشيعة ويتضح ذلك في شعره، كما يدل على خروجه عن الدين الإسلامي واشتغاله باللذات، وكان ماجنًا لا يذكر المجون إلا ويذكر من زمرة المجَّان. ويذكر عطوان أنه كان خليعًا لا يستحي في المجاهرة بشذوذه، ويذكر ذكاءه في مواربة أمره، وتملقه ونفاقه، وجدّه في طلب الزنادقة. كل هذا شفع له فلم يقتل مع غيره من الزنادقة.
ومع هؤلاء حمَّاد عجرد، ويُذكر كأكبر رؤوس الزنادقة. ويذكر صاحب الأغاني أنه كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمّادون: حمّاد عجرد، وحمّاد الراوية، وحمّاد بن الزبرقان؛ وكانوا يتنادمون الشراب، ورموا جميعهم بالزندقة؛ إلَّا أن أشهرهم بها كان حماد عجرد. (الأغاني، ج 14، ص 206). ويذكر عطوان أن سبب زندقة هذا الأخير راجع إلى اطلاعه على المذاهب الفارسية حتى حذقها وأجادها، حتى أنه وضع فيها مؤلفاته، وكانت النزعة الشعوبية متمكنة منه. ويذكر أبو نواس - كما جاء في الأغاني - أن حمّادًا كان يضع أشعارًا يقرأها الزنادقة في صلاتهم. وكان يدين بمذاهب الثنوية من مانوية وديصانية ومزدكية، وقد قتله محمد بن سليمان العباسي لزندقته.
ولا تذكر الزندقة إلا ويذكر بشار بن برد، وكان أفصح الزنادقة في شعره فسوقًا، وفجورًا، وكفرًا، والحادًا؛ أمّا ما دفعه إلى الزندقة فأسباب عديدة أهمها تبحره في الديانات الفارسية، وشعوبيته وبغضه للعرب ودينهم، وتبحره في علوم العصر، وأسباب نفسية أهمها بغضه مما وجد عليه من قباحة الشكل، وفقدان البصر. كل هاته الدوافع شكلت أمامنا هذا الزنديق الحاقد، المستهتر المتهتك، الشاك في البعث والحساب غير إلا غلا بما تدركه حواسه، المنحاز إلى غلاة الشيعة، المنتظم في فرقة الكاملية؛ وهي من أكثر فرق الشيعة غلوًا. ويذكر تعظيمه النار وإبليس، ويذكر في شعره استخفافه الكبير بالصلاة، ويذكر أنه كان يخرج للحج حتى لا تسقط عليه تهمة الزندقة، ثم يفر من موكب الحج فيقضي الوقت بين الحانات والقيان، حتى إذا حان وقت العودة حلق رأسه واندس بين صفوف الحجاج. وكان يتعاطف مع قتلى الزنادقة ويذكر رثاءه لهم، ويذكر قتل المهدي لبشار بعد أن ضفر به في البصرة يؤذن في الضحى فجُلب وضرب حتى الموت. ويذكر طه حسين أن زندقة بشار كانت على وجهين: وجه علمي نظري فيه ذكر لمذهبه ودفاع عنه، وآخر علمي أدبي ملمحه المجون ويدين فيه بالرجعة، ويكفر الأمة كلها بعد موت النبي.
ويذكر من ضمن الزنادقة أيضًا: صالح بن عبد القدوس، وعلي بن الخليل، وسلم الخاسر. ويتردد الجاحظ في ضم أبان بن عبد الحميد في زمرتهم، ويذكر أن أبا نواس هجاه بالزندقة لعداوة شخصية، ويذكر والبة بن الحُباب، وأبا نواس، وأبا العتاهية؛ ويرد أن منصور بن عمَّار هو من هجاه بالزندقة لما كان بينهما من التنافس في الوعظ، لكن لا يخفى ما تأثر به أبو العتاهية من أفكار المانوية ودسَّه في شعره، فجعل يستر زندقته بالزهد، كما يذكر يحيى بن زياد، وغير هؤلاء.
تصدى الخلفاء للزنادقة حين أدركوا مقاصد زندقتهم، وقد شرع المنصور في محاربتهم بالسيف، ثم خلفه المهدي الذي لا يذكر اسمه إلا ويذكر ما كان منه في محاربة الزنادقة؛ فوضع ديوان الزنادقة وسجنهم، وقتل الكثير منهم، وخلف المهدي ابنه الهادي الذي اشتد في محاربتهم، وخلفه الرشيد يطاردهم في أرجاء الدولة، وأعدم منهم في خراسان، وآخرون في بغداد. وسار المأمون على منهاج من سبقه، ويذكر أنَّ المأمون كان يختبر من يتهم بالزندقة فإذا ظهر منه ذلك قتله.
كما قام المتكلمون بمناظراتهم لكشف زندقتهم، وكان علم الكلام وسيلة لكشف أباطيل الزنادقة وإقامة الأدلة، ونفض آثارهم من نفوس المسلمين، وقد أمر المهدي بالتأليف في الرد عليهم. وهكذا حارب الخلفاء الزندقة بالسيف واللسان.
المصادر والمراجع