هاجر منصور سراج
14 سبتمبر، 2024
يُلح الزبيري على الحضور في ذهن الشعب اليمني حتى اليوم، ولعل السبب وراء هذا هو أنَّه لم يكن شاعرًا فحسب، ولم يكن سياسيًّا متفرِّغًا، ولم يكن مصلحًا اجتماعيًّا فقط؛ وإنما جمع هؤلاء الثلاثة في شخصه، وانطلق في قضيةٍ سخَّر لها قوله وفعله. أمَّا ما يهمني في هذه المقالة، فقوله من شعرٍ ونثر، وسوف أتناولُ الأحداث الَّتي شكَّلت الوضع العام من حوله، ما يعني أن حديثي عن الثورة اليمنية سيكون تبعًا لما تقتضيه طبيعة التناول.
ولد الزبيري عام 1337 هـ، الموافق 1918م، لعائلة الزبيري التي تنتسبُ إلى الزبيرات في منطقة أرحب شمال صنعاء. ولم يبق لهذه العائلة من الانتماء القبلي سوى الاسم؛ إذ سكنتْ مدينة صنعاء منذ زمنٍ طويل. (العمراني، 1979، ص 135).
والزبيري، هو محمد بن محمود بن محمد بن أحمد بن لطف الباري الزبيري، وتعتبر عائلته عائلة قضاة، بيد أنَّ هذا القول إنما يرد من باب التجوّز، فمستويات رجال العائلة متباينة، فمنهم الجندي، والتاجر، والبائع البسيط، والقاضي. ومعروفٌ أنَّ بعض رجال عائلة الزبيري قالوا شعرًا جيِّدًا بمعايير عصرهم التي كانت المحسنات البديعية رائجةً حينها.
عمل أبوه محمود في شبابه سادنًا لجامع الطاؤوس في حارة طلحة بصنعاء، وقد تولَّى القضاء في مدينة حيس، وبندر المخا، ومقبنة؛ وكان صديقًا لعلي الوزير - أمير لواء تعز، ومات في بندر الحديدة سنة 1347هـ حين كان ابنه محمد في العاشرة من عمره. أمَّا أمُّه فمن عائلة القرواني - نسبةً إلى قرية قروى في خولان - وهي عائلة فقيرةٌ عمل بعض رجالها في صناعة الأمشاط. وبعد وفاة الأب محمود، انتقل محمد الزبيري إلى رعاية ابن عمِّه عبد الله لطف، ولـمَّا شبَّ انتقل إلى رعاية علي الوزير الذي رأى أن يُنشئ الزبيري مع ابنه عبد الله وفاءً لصداقته بأبيه. (العمراني، 1979، ص 139).
تفتَّقت مواهب الزبيري في سنٍّ مبكرة، فحفظ القرآن صغيرًا، وقرأه القراءات السبع، وأمَّ الناس للصلاة في مسجد التقوى الصغير القريب من بيت عائلته في حارة بستان السلطان، وتلا القرآن تلاوةً حسنةً دفعت رجال حارة قبة المهدي والوشلي إلى ترك مساجدهم إلى هذا المسجد الصغير.
نشأ الزبيري في جوٍّ ديني، دفعه إلى ترك الجموع والخلوة للتأمل، وسرعان ما كَلَف الشعور الذي أسبغه عليه التأمل والروحانية. وفي ركنه في المسجد، تبرعم الحس الشعري داخله وتزاحم، إلا أنَّه قاومه، وظلَّ في مقاومته تلك مدَّةً حتى ألفه وأنس إليه، فسلَّم له نفسه وانطلق معه في أفلاكٍ روحانيةٍ أخرى. ولمَّا تأثل الشعر فيه، أخذتْ تجاربُ الحياة تصقل شخصيته الثورية والأدبية.
والشعر عنده قريب المخرج، وقد وصفه في مقدمة ديوانه (ثورة الشعر) بأنه «عملٌ عاديٌّ تلقائيٌّ من أعمال اللسان، ونتاج طبيعي من نتاج الحياة، وصدًى من أصدائها، ومظهرًا من مظاهرها». (الزبيري، 2004، ص 40).
وقد حمَّل الزبيري الشعر مسؤولية خروجه من الركن القصي في المسجد، قال «فروحانيتي جنى عليها الأدب، وأدبي عوقب بالسياسة»، (الزبيري، 2004، ص 42). من هذا الكلام، نستطيع أن نفهم الشخصية التي بين أيدينا، هذه الشخصية التي تكوَّنت أوَّل سماتها منذ الطفولة؛ فالزبيري في سنٍّ صغيرةٍ امتلك القدرة على الإحساس بالناس من حوله ومراعاة مشاعرهم. وقد ذكر العمراني أنَّ الزبيري في سنٍّ صغيرةٍ أُهدِيَ حذاءً لامعًا، فدعكه بالقرميد كي يزيل لمعانه، ولمَّا سُئِلَ عن ذلك، قال إنَّه لا يحب أن يمشي بحذاءٍ لامعٍ بين جموعٍ من الحفاة.
وقد درس بكتَّاب معلامة جامع قبَّة المهدي، ثم درس في المدرسة العلمية فترةً من الزمن قبل أن يتفرَّغ للدراسة في الجامع الكبير في صنعاء. ولمَّا انتقل الزبيري إلى تعز، رافق عبد الله الوزير مدَّة عامٍ قبل أن يرافق الأب وابنه إلى الحج. وهناك، حضر حفلًا أقامه الملك عبد العزيز في منى، وألقى قصيدةً في مدح الملك، نُشرتْ في صحيفة أمِّ القرى، ويقال إنَّها أثارت غضب الإمام. قال في مطلعها:
قلبُ الجزيرة في يمينك يخفقُ ♦♦♦♦ وسني العروب في جبينك يشرقُ.
أقام الزبيري في السعودي أكثر من عام، ثم سافرَ مع عبد الله الوزير للدراسة في مصر، وهناك التحق بدار العلوم، ثم ما لبث أن دخل كليَّة الآداب مستمعًا. وقد وصل القاهرة سنة 1939م، وهناك تعرَّف على روَّاد الأدب والفكر، وعلى الطلاب اليمنيين الذين كانوا يدرسون في الأزهر عند حسن البناء زعيم الإخوان المسلمين، وقرأ كتب الأدب والفكر التي عملت على تنمية شخصيته الأدبية وبنائها من ناحية التجديد، وفي تكوين شخصية المصلح الاجتماعي التي نتجت عنها شخصية السياسي.
جال الزبيري في شوارع القاهرة، ورأى إقبالها على العصر، وتفحَّص كل المظاهر الحضارية فيها فأصابعه الفزع؛ إذ أنَّ اليمن كانت خاليةً من كل ذلك، معزولةً عن كل تطور، حيَّةً في عصرٍ غير العصر. وبينما كان العالم كلُّه في سباق مع الزمن، عدَّاءً في صخب الاختراع، كان اليمن ساكنًا في القدم، مكتفيًا بمطبعةٍ واحدةٍ خلَّفها العثمانيون بعد خروجهم من اليمن عام 1918م. كل هذا أثار في الزبيري، كما أثار في الطلاب اليمنيين الآخرين، ألمًا ورغبةً في التغيير لا سيما حين تبيَّنوا أنَّ العالم لا يعرف شيئًا عن اليمن، بل إن البعض لا يعرف دولةً بهذا الاسم. وكان الزبيري، كما كان غيره، على ثقةٍ من أنَّ الإمام يحيى كان السبب وراء كل هذا؛ إذ كان محافظًا على عزلة أبناء اليمن وتجهيلهم ترسيخًا لحكمه. ومن هنا، نذر الزبيري نفسه لقضية إيقاظ اليمن من سباتها وتقديمها للعالم.
وفي القاهرة، في دار العلوم، تنامى الشعر بداخل الزبيري وتفاعل مع الأحداث من حوله، فأدلى بدلوه في المناسبات الاحتفالية، من ذلك قصيدته التي قالها عند تأسيس جماعة الطلبة العرب، وفيها أشار إلى الحلف بين العراق والسعودية واليمن؛ وعبَّر عن رأيه في بعض الأحداث الدائرة عربيًا.
وعندما عاد الزبيري إلى اليمن عام 1941م، كان مزمعًا على تأسيس فرع عن جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي كان عضوًا فيها في مصر، فعرض على الإمام خطة الجمعية وقواعدها. وقد كان عمل الجمعية يقتصر على التوعية الإصلاحية بضرورة التطور في المنشورات وخطب الجوامع أيام الجمع والمناسبات، بيد أنَّ الإمام رأى أنَّ خطة الجمعية تهدد سياسة العزلة التي يفرضها على الشعب اليمني، فرفض الخطَّة، ثم أحال الزبيري إلى لجنة من علماء الدين كي يحكموا فيه حكمًا شرعيًا، مدعيًا أنَّ بعض فقرات الخطة تتعارض مع الشريعة الإسلامية وتدعو إلى الاحتكاك بالاستعمار، ثم أخذ يحصي على الزبيري أنفاسه حتى ألقى به آخر الأمر في السجن بتهمة أنَّه يستحل دمه في خطب الجوامع.
كان المحيطون بالزبيري قد نصحوه بالابتعاد عن مواجهة الإمام، والارتكان إلى الصمت والخمول حفظًا للسلام، ومدح حال اليمن التي لم تتسلل لها يد الاستعمار؛ بيد أنَّ الزبيري لم يستمع إليهم وكان قد أعدَّ نفسه لمواجهة الإمام بيد أنَّه لم يتوقَّع أن يرمى في السجن بتلك السرعة، وقد تبدَّى ذلك في ما قاله وهو في السجن، في محنته الأولى:
ربَّاه ما لي لم أزلْ ♦♦♦♦ في محنةٍ متواليهْ
إمَّا غريبًا ضائعًا ♦♦♦♦ أو موثقًا في هاويهْ
وفي خلوةِ السِّجن، أخذ الزبيري يفكِّر في طريقةٍ أخرى للكفاح توفِّر له قدرًا من الحركة يستطيع معها أن ينشر شعلة التنوير. وبعد تفكير طويلٍ خلُص إلى أنَّ المهادنة هي الطريقة الأنسب في الكفاح حتَّى يتمكن من توعية الإمام؛ إلَّا أنَّه لم يعقد الآمال عليه، بل على وليِّ عهده في تعز. وانطلاقًا من هذه الفكرة، أخذ الزبيري يرسل أشعار الاعتذار والمديح إلى الإمام وولي عهده طمعًا في استمرار كفاحه. من ذلك:
يكفيك أنَّ الشعبَ حولك قائمٌ ♦♦♦♦ يحنو إليك ويرتجيك ويخضعُ
دانت لعرشك أمَّةٌ يمنيَّةٌ ♦♦♦♦ يسمو بها عادٌ ويفخر تُبَّعُ
من أين يأتيك العدو وأنت في ♦♦♦♦ أرضٍ تكاد صخورها تتشيَّعُ.
وهذه الأبيات تحوي توريةً؛ إذ أنَّ الظاهرة هو التفاف الشعب حول الإمام حُبًّا بينا يتوارى المعنى البعيد: وهو الالتفاف حول الإمام بدافع الجهل والتخدير. وتظهر القصائد الاستعطافية أثرها في الإمام الذي يعفو عن السجناء أخيرًا، لكن الزبيري لا يلبث في صنعاء إلَّا أيَّامًا قلائل قبل أن ينتقل إلى تعز حيث مقام ولي العهد الذي كان قد استدعاه والشامي والموشكي، فارتحلوا إليه. وعندما رأوا احتفاءه بالأدب، والعلم، وأفكار التطور ظنُّوا أنهم وجدوا فيه ضآلتهم المنشودة؛ فأخذ الزبيري يمدح ولي العهد باعتبار ما سيفعله، وقد جاء خطابه في قصائده المدائحية مصبوغًا بصبغة الأمر لإصلاح مفاسد أبيه، من ذلك:
خذ بالقلوب ففي يديك زمامها ♦♦♦♦ والقلب يقرن بالولاء ويوثقُ
وانشر ضياءك في سبيل حياتنا ♦♦♦♦ فمسيرنا في غير نورك موبقُ
جدِّد له عصر الجدود بعزمةٍ ♦♦♦♦ لو مسَّت الماضي لجاءك يُشرقُ
ولغزارة الإنتاج الشعري عند الزبيري ولروعة ما قاله، قلَّده ولي العهد لقب أمير شعراء اليمن. وقد أخذ الزبيري ومن معه يبتهجون لأي بادرة إصلاح وتطوير ويتغنون بها حتَّى صدموا بالحقيقة الكامنة وراء تظاهر وليِّ العهد؛ إذ سرعان ما صرَّح أنَّه سيلقى الله ويده مخضبَّة بدماء الأدباء، وأنَّ من يقرؤون كتب طه حسين، والعقاد، والرافعي سيلقون الموت. (الزبيري، 2004، ص 60).
وهنا خلص الزبيري إلى أنَّ أيَّ أملٍ في إصلاح الإمام أو ولي عهده إنما هو محض وهم؛ فخرج هو وأصحابه إلى عدن، وفي هذه المناسبة، قال الزبيري قصيدته الشهيرة:
خرجنا من السجن شُمَّ الأنوف ♦♦♦♦ كما تخرج الأسد من غابها
نمرُّ على شفرات السيوف ♦♦♦♦ ونأتي المنية من بابها
ونأبى الحياة إذا دُنِّستْ ♦♦♦♦ بعسف الطغاة وإرهابها
وفي عدن، هجر الزبيري المهادنة وجهر بمعارضته حكم الإمام، فأسس أوَّل حزبٍ يمني (حزب الأحرار)، وحرَّر أوَّل صحيفةٍ يمنية (صحيفة صوت اليمن)، وأخذ يجهر بقصائده المعارضة الحماسية، وبمنشوراته، وبرامجه مواجهًا هو وأصحابه عرش الإمام وشعبًا جاهلًا يرى فيهم وما يدعون إليه وجهًا من وجوه الكفر، إضافةً إلى مستعمر متربص. وقد أخذ الزبيري يسجِّل بشعره كل اللحظات من حوله بألفاظٍ سلسةٍ ونبرةٍ حماسيَّةٍ، من ذلك ما قاله في أوَّل اجتماعٍ لحزبِ الأحرار:
سجِّل مكانك في التاريخ يا قلمُ ♦♦♦♦ فها هنا تبعثُ الأجيال والأمم
هنا البراكين هبَّت من مضاجعها ♦♦♦♦ تطغى وتكتسح الطاغي وتلتهمُ
لسنا الألى أيقظوها من مراقدها ♦♦♦♦ الله أيقظها والسخط والألم
وعندما توسَّع الحزبُ وحمل اسم (الجمعية اليمانية الكبرى)، ألقى الزبيري قصيدةً يومَ الافتتاح، ردَّ فيها على تهم الإمام وتشويهه سمعتهم. وقد أخذت قصائد الزبيري تنتشر وتقرأ في اليمن بأسره حتَّى لم يعد ثمة صوتٌ يجاور صوت الزبيري «وحتَّى استحق أن يظهر الممثل الوحيد لقضية اليمن». (العمراني، 1979م، ص 195).
بقي عمل حركة الأحرار قائمًا، وكانت أهدافها سياسيةً، واقتصاديةً، واجتماعيةً يراد من الإمام تنفيذها سواءً بالسلم أو الانقلاب عليه. وأبرز أهدافها هو البرنامج الدستوري الذي بسببه سميت حركة 1948 بانقلاب الدستوريين. وقد كان هدف الانقلاب مقتصرًا على اغتيال الإمام يحيى وولي العهد، وقد نجح الأحرار في اغتيال الأوَّل وفشلوا في اغتيال الثاني. أمَّا سبب فشل الانقلاب وترسيخ الدستور فعائدٌ إلى أسباب كثيرة يمكن اختصارها أنَّ ذلك الانقلاب لم يحصل على تأييد شعبي، ولم يكن سوى انقلاب فردي لحفنة من الشباب سرعان ما قوَّضه ولي العهد أحمد جامعًا القبائل الموالية ومداهمًا صنعاء لاستعادة عرش أبيه وقطع رؤوس الثوار الأحرار. وبينا كان الزبيري في السعودية منتظرًا وفد الجامعة العربية، كانت صنعاء مباحةً للقبائل ثلاثة أيامٍ غنيمة حرب؛ فنجا الزبيري من الإعدام دون أن يخطط له، لكنه لم ينج من التشرد؛ إذ وضعه الإمام أحمد في القائمة السوداء لترفضه كلُّ الدول. تنقَّل الزبيري طويلًا حتَّى استقرَّ في باكستان التي كانت قد تحرَّرت مؤخرًا وقد احتفت حركة الأحرار بتاريخ تحررها؛ فوجد الزبيري في تحررها ما يداوي جروحه وآلامه بعد قصيدته التي قالها بعد أحداث 48:
ما كنتُ أحسب أني سوف أبكيه ♦♦♦♦ وأنَّ شعري إلى الدنيا سينعيه
وأنني سوف أبقى بعد نكبته ♦♦♦♦ حيًّا أمزق روحي في مراثيه
وأنَّ من كنتُ أرجوهم لنجدتهِ ♦♦♦♦ يوم الكريهةِ كانوا من أعاديه
بقي الزبيري في باكستان متخفيًا حتَّى قبضت عليه السلطات، فلبث في السجن فترةً حتَّى حصل على اللجوء السياسي. وبعد ثورة 1952 في مصر، انتقل الزبيري إلى هناك وتزعَّم الاتحاد اليمني ليواصل نضاله ضد الإمام أحمد، فنشر المنشورات، وبثّ البرامج الإذاعية، وكتب القصائد الحماسية المعارضة. ومن هناك أيضًا، دعم حركة 1955 بقيادة الثلايا، وناضل في سبيل دفع الشقاق بين الأحرار أنفسهم. وعندما حصلت ثورة 1962، عاد إلى اليمن لينال منصب وزير المعارف (وزير التربية والتعليم)، وسعى لبث الوعي بين الجيل الجديد بينا تقاتل غيره على المناصب.
وفي هذه الفترة، بلغ الزبيري مرحلة اليقين الثوري؛ فأدرك أنَّ الثورة فاشلةٌ لا محالة إذا لم يستوعب الشعب أهميتها؛ فتردد على المدارس ناشرًا الوعي بين الصغار أوَّلًا، ثم تنقل بين القبائل باثًّا الوعي من خلال خطبه وحواراته معهم حفاظًا على الثورة والجمهورية حتى لا تتلقى طعنةً من الداخل أوَّلًا. وفي حركته الدؤوبة تلك، ترصَّدته رصاصة الغدر حتى أصابته في الحادي والثلاثين من مارس عام 1965م. وقد كان آخر بيتٍ قاله الزبيري:
بحثتُ عن هبةٍ أحبوك يا وطني ♦♦♦♦ فلم أجد إلَّا قلبي الدامي
يعد الزبيري شاعرًا ثائرًا، ولعل ما أضفى على شعره سمة الانتشار ثم الديمومة هو صفة الثورية التي ميَّزته عن بقية الشعراء وجعلت منه شاعرًا تاريخيًا؛ إذ تمثَّل في شعره كل الأحداث الدائرة حوله وعزل نفسه عن مشاعره الخاصة، بيد أنَّ هذا لا يلغي جودة شعر الزبيري؛ فألفاظه غير متكلفة، وبديعه غير صاحب، وصراحته غير مباشرة. وقد تمثَّل الأسلوب القديم في شعره، إلَّا أننا يمكننا أن نجد فيه ملامح واضحة للتجديد ولسمات العصر.
نشر الزبيري ديوانين في حياته: ثورة الشعر، وصلاةٌ في الجحيم. وبعد وفاته بسنواتٍ طويلة، نُشر ديوانه الثالث (نقطةٌ في الظلام) الذي اعتبره البعض ذا قيمةٍ أكبر من سابقيه لما حواه من قصائد أظهرت جوانب خفية في شخصية الزبيري الثائر. ففي الديوانين السابقين، جاءت قصائده كلها سياسيةً مفعمة بالثورية والحماسة، أمَّا قصائد الديوان الثالث فتستغور دواخل الإنسان في الزبيري، وقد جاءت وجدانيةً ما بين شكوى، وإخوانيات، وحنين؛ فهي في مجملها قصائد ذاتية. (عبد الودود سيف، 2014م، ص 53 - 64)
ولمعرفة سمات شعر الزبيري وتطوره، سأقسِّم حياة شعره إلى مراحل، وسأنطلق في هذا التقسيم من عنصر المكان الذي أقام فيه الزبيري ابتداءً من عام 1941م؛ ذلك أني أرى أنَّ شعر الزبيري قبل هذا الوقت لم يكن بالكثرة بحيث يكوِّن مرحلةً، وفي هذا التقسيم يتضح مدى تغير رؤى الزبيري، ووقع الأحداث في نفسه، وفكرة الثورة ومدى تجليها واستتارها.
وهي المرحلة التي بقي الزبيري فيها يمدح الإمام يحيى ويستعطفه بهدف الخروج من السجن. وقد زخرت هذه المرحلة بأسلوب القصائد التقليدية في مدح الحاكم؛ إلَّا أنَّها حملتْ روح الزبيري، فزخرت بمعانٍ وصورٍ معبِّرة تجسِّد معاناة السجناء وتظهر الإمام منقذًا، ومخلِّصًا، وأبًا حنونًا، وذائدًا عن الحمى. وفي النهاية حقَّقت تلك القصائد الهدف المرجو.
وقد سمَّى الزبيري هذه المرحلة (مرحلة التطامن للعاصفة)، ولم تستمر هذه المرحلة أكثر من عامين، وقد نشر الزبيري قصائد هذه المرحلة في ديوان (صلاة في الجحيم). وثمة رأيان في هذه التسمية، فهناك من يقول إنَّ الزبيري كان يعيش في غُربةٍ، والغربة جحيم، والحديث عن الوطن في الغربة هو نوعٌ من الصلاة في الجحيم. والرأي الثاني - الأكثر صوابًا - أنَّ كل أشعار هذه المرحلة الموجَّهة إلى الإمام هي ضربٌ من الصلاة في الجحيم، كما أنَّ الزبيري نفسه قد نعت هذه القصائد بالوثنيات. (المقالح، ص 75).
وقصائد هذه المرحلة هي القصائد التي لا ينفك خصوم الثورة يعرضونها في كلِّ مناسبةٍ مشيدين فيها بعظمة الإمام وبنفاق الزبيري، وفي الوقت نفسه يعتبرها البعض مثلبةً فيتجنَّبون الحديث عنها رغم أنَّ الزبيري نفسه صرَّح أنَّها دليلٌ على أنَّ الأحرار سلكوا كل الطرق في محاولات الإصلاح الكثيرة. وسمات هذه القصائد: المبالغة في أسلوب المدح، واعتداد الشاعر. ومن أشعار هذه المرحلة:
من نورِ هذا المحيَّا يشرق العيد ♦♦♦♦ ويعبق المجد والعلياء والجودُ
ما للمحاكم تستفتي أهلَّتها ♦♦♦♦ وأنت يا سيّد الأقمار موجودُ
تختلف أشعار هذه المرحلة عن أشعار المرحلة السابقة رغم أنَّها ظلَّت موجَّهةً بصيغة المدح إلى وليِّ العهد. أمَّا وجه الاختلاف فواضحٌ في روح الزبيري التي كان الأمل يلامسها، فأخذت مظاهر التجديد وروح الرومانسية تنسل إلى شعره على استحياء قمع ظهورها الجو التقليدي المتعصب. وقد ظهر في شعره أملٌ في التغيير، واستشراف لمستقبل مبهر. من أشعار هذه المرحلة:
وجئت يا ناصر الإسلام تبعثه ♦♦♦♦ كأنما أنت للإسلام تكرار
بعثتَ شعبًا دفينًا كان منطبقًا ♦♦♦♦ عليه تُربٌ وأشواطٌ وأحجارُ
يرى بوجهكَ آمالًا تُسجِّلها ♦♦♦♦ لنا شهورٌ وأعوامٌ وإعصارُ
تعدُّ عدن التربة الخصبة التي نما فيها شعر الزبيري ونضج، وفيها نظم قصائده الثورية، وتخفَّف من الأوزان الطويلة، وبدا أثر الرومانسية واضحًا، في الألفاظ، والصور، والأوزان؛ إلَّا أنَّ هذا التأثر قد طرأ بحُكم معاشرته للرومانسيين في عدن. أمَّا عندما يتعلَّق الأمر بقضيته في الشمال، فإن الزبيري يخاطب الثوَّار مرتديًا ثوب الحماسة، ثم ما يلبث شعره أن يتخفف من ثياب الشعرية إلى بعض ثياب الخطابة. واختلاف سمات شعر الزبيري في عدن، والذي جاء تِبعًا لتحرره من التطامن المتجسد في المديح التقليدي، جعل البعض يقول إنَّ شعر الزبيري تعرَّض للرَّكاكة ما إن غادر مجلس وليّ العهد، إلَّا أن هذا في حقيقة الأمر يشير إلى أنَّ الزبيري حاور الإمام وابنه بلغتهما، فلم ينجح الأمر، فلمَّا تخلَّص من ربقتهم التفت إلى رغبة الإبداع والتجديد المستعرة داخله. وقد عبَّر عن رؤاه في قوله:
ظنُّوا البديع جمال الشعر فاندفعوا ♦♦♦♦ إليه من كل إلغازٍ وتعقيدِ
تفاخروا وتباهوا أنَّهم سلكوا ♦♦♦♦ جوف الشِّعاب وآناف الصياخيدِ
وهكذا دفنوا التجديد في حُفرٍ ♦♦♦♦ من البديع، كقبرٍ غيرِ ملحُودِ
أمَّا المواضيع الَّتي تناولها، فشوقٌ وحنين لأهله في صنعاء، وردٌّ على تهم الإمام، ومعارضةٌ وتشهيرٌ بحكم الإمام، واهتمامٌ بقضايا المجتمع العربي والإسلامي. ومن شعره الحماسي في هذه المرحلة:
ناشدتكِ الإحساس يا أقلامُ ♦♦♦♦ أتزلزلُ الدُّنيا ونحن نيامُ
قم يا يراعُ إلى بلادِكَ نادِها ♦♦♦♦ إن كان عندكَ للشعوبِ كلامُ
ومن الشعر الوجداني ذي الملامح الرومانسية:
ذكريات فاحت بربا الجنان ♦♦♦♦ فسبت خاطري وهزَّت جناني
عمرٌ في دقيقةٍ مستعادُ ♦♦♦♦ ودهورٌ مُطلَّةٌ في ثوانِ
فكأنَّ الماضي تأخَّر في النفس ♦♦♦♦ واسترجعتْ صداه الأماني
وهي مرحلة التشرد والألم الذي ما فتئ يمزَّق روح الزبيري، وفيها قصائد رقيقة النظم، ومواضيعها تتفاوت بين الألم من الحال الذي آل إليه انقلاب 48، وإخوانيات، وشوقٌ وحنين، وتفاعلٌ مع الأحداث في باكستان، والتأثر بمواقف إنسانية ومناسبات إسلامية. وهنا تجلَّت شخصيَّة الشاعر الذاتي الذي ما فتئ يلتفت إلى نفسه ويستغور ما في أعماقها من تفاصيل مؤلمة فرض عليه الواقع من حوله أن يعرض عنها مدَّةً من الزمن. فلمَّا أصاب الانكسار روح الزبيري في باكستان، وابتعد عن محيط الثورة؛ انقلب إلى كُلِّ أحزانه الماضية واتخذ منها وقودًا لشعره الذاتي الذي كان لصوفيته دورٌ في إذكائها. ورغم هذا، فإن الشعر الوجداني الذاتي قليلٌ يكاد لا يذكر في طيَّات الحماسة التي يرفل بها شعره؛ ما يجعلني أزعم أنَّ تلك الحالات إنَّما كانت استراحات محاربٍ سريعة الزوال دُفع إليها دفعًا، لكنه ما لبث أن تخلَّص منها حين انتقل إلى مصر. ومن شعر هذه المرحلة:
أملٌ غير متاحٍ ♦♦♦♦ وفؤادٍ غير صاح
أنا طيرٌ حطَّم المقدور ♦♦♦♦ عشي وجناحي
ورماني في نُثارٍ ♦♦♦♦ من دُموعي ونواحي
في هذه المرحلة، نظم الزبيري قصائد متفاعلة مع الأحداث من حوله، سواءً في مصر في الاتحاد اليمني، أو في عدن، وفي تعز. وقصائده هنا لا تتصف بالرومانسية، ولا بالخطابية المباشرة؛ ولعل السبب وراء هذا راجعٌ إلى أنَّ الزبيري بلغ مرحلة اليقين الثوري، فتوسَّط شعره لا رومانسية ولا حماسةٌ ثورية تكاد تجرِّد الشعر من شعريته. وكل ما يبرز في شعره هو إيمانٌ بالقضية، فتكررت ألفاظ الشعب، والوطن، والأمة في شعره كثيرًا، كما أولى انتباهه لقضايا القومية، فدعا إلى الوحدة العربية، وقضايا التحرر من الاستعمار. ومن الناحية الفنية، نضجت شعريته واتجه إلى المحاولات الإبداعية. ومن شعر هذه المرحلة:
يا قادة العرب والإسلام قاطبةً ♦♦♦♦ قوموا فقد طال بعد الصبح نومكمُ
شيِّدوا لنا في سموات العلى حرمًا ♦♦♦♦ نطوف حول ثريَّاه ونستلمُ
وهب الزبيري شعره للوطن، وكان إحساسه بقوَّة شعره وأثره على الأحداث عميقًا، وليس أدلَّ على ذلك إلا مقولته «كنتُ أحسُّ إحساسًا أسطوريًا بأني قادرٌ بالأدب وحده على أن أقوِّض ألفَ عامٍ من الفساد، والظلم، والطغيان». ورغم أنَّ الزبيري شاعرٌ مجيدٌ إلَّا أني أراه مناضلًا أكثر منه شاعرًا؛ ذلك أنَّ الشعر لم يكن معه إلا وسيلةً من وسائل النضال، فالزبيري كان فقيهًا ملتزمًا دينيًا غير ميَّالٍ إلى سمتِ الأديب الذي لا ينفك يعبِّر عن نزواتِ النفس وفلتات الروح. ومن هنا لا نستغرب قلَّة قصائد الغزل، وتقليدية تعابيرها، وقصرها؛ فقد كانت شخصيَّة الفقيه وشخصية السياسي المناضل يغلبان شخصية الأديب. وشعره لا يتجاوز الكلاسيكية رغم محاولات التجديد، فيمكن تصنيفه في (الكلاسيكية الجديدة)؛ رائدًا لهذا الاتجاه في اليمن.
أمَّا السِّمات الفنية العامة التي اتَّصف بها شعر الزبيري:
- تحرير القصيدة التقليدية من العبث الرائج ومنافسات البديع.
- صدق التجربة الشعرية.
- الصور البلاغية العميقة والبسيطة في آن واحد.
- استخدام لغة سهلة بعيدةٍ عن المفردات القاموسية.
- استخدام مفردات تبرز روح العصر، كالمفردات السياسية والعلمية.
- استخدام الألفاظ الرومانسية، وصورها، وأساليبها.
- الميل إلى إثبات السيادة الشعرية عن طريق إطالة القصائد وعدم تكرار القوافي.
جسَّد الزبيري أفكاره السياسية شعرًا، وما جاء نثرًا من أعماله إنَّما جاء لتفسير إجمال الشعر وفكِّ رموزه. (عبد الرحمن فخري، 1983م، ص 26). وللزبيري عددٌ من الأعمال النثرية: الإمامة وخطرها على وحدة اليمن، الخدعة الكبرى في السياسة العربية. وبعد وفاته ظهر كتابان آخران: دينٌ وثورة، ومنطلقات نظرية؛ إلَّا أنَّ ما يعنيني من انتاجه هو الجانب الإبداعي المتمثل في روايته الوحيدة (مأساة واق الواق) التي نشرت عام 1960م، والتي تتحدث عن (العزي محمود) المقيم في القاهرة، والذي يُخبر من حوله أنَّه قادمٌ من بلاد واق الواق، فينكرون عليه قوله، ليأخذ بعدها في محاولةٍ لإثبات وجود بلاده، فيحاول إقناعهم بالمنطق، لكنه أثناء ذلك يفصح أنَّه لا يتذكر مكان وطنه ولا كيفية خروجه منه. وفي النهاية، يقرر أصحابه أن يرسلوه بالتنويم المغناطيسي إلى بلاده ليبحث عنها، فيطير عاليًا نحو بلاده بيد أنَّ لميس بنت أسعد الكامل تعترض طريقه وتمنعه من الذهاب قائلةً إنَّ ذلك أمر الله حتَّى يحرِّر شعب تلك البلاد نفسه بنفسه، فيعرج بعدها إلى السماء ويشاهد الطغمة الحاكمة وزبانيتها في جهنم يتعذبون، ويرى الشهداء الأحرار في الجنة ينعمون، فيجالسهم ويحاورهم، ويسعى إلى خلق الديموقراطية في اليمن ببعض الآراء والأفكار التي اتهمه البعض بالتنظير للإقطاعية بسببها.
وتعتبر هذه الرواية أوَّل روايةٍ في الشطر الشمالي في اليمن. ومنها يتجلى لنا فكر الزبيري المنفتح وسعيه للتجديد، إلَّا أنَّ الموضوع الذي تناوله يضعها في مرحلة البدايات التي عادةً ما تجيء الروايات فيه متأثرةً بالتراث أكثر من العصر، ومن هنا يرى البعض أنَّه تأثر برسالة الغفران، بيد أنَّ المقالح ينكر هذا؛ إذ لا توجد أيُّ لمحة للتناص فيها، ما يعني أن الزبيري استلهم الفكرة من التراث الديني مباشرةً (قصة الإسراء والمعراج)، (مأساة واق الواق، ص 8). ورغم فكرة تأثير التراث، أظهر الزبيري - المفتون بالتجديد، العلوم الحديثة في روايته ممثلةً في التنويم المغناطيسي.
لم ينطلق الزبيري في كتابة روايته من فكرةٍ فلسفيَّةٍ في تجسيد المدينة الفاضلة؛ إذ كان الزبيري أبعد ما يكون عن الفلسفة، مشغولًا بقضية وطنه. أمَّا إذا كان ثمة ملمح للفلسفة، فلعله يكمن في فكرة الوجود «أنا موجودٌ، فوطني موجود»، (الرواية، ص 25). فقضية وطنه هي مهمة الأحرار التي قال عنها «إنَّ مهمة الأحرار عسيرةٌ أيَّ عسرٍ، لهذا نلجأ في تبيانها إلى الأساليب الشعرية وإلى الرموز الأمثال نتحايل بها على العقل العربي الذي يفكر بعيدًا عنا قرونًا وقرونا»، وهي القضية التي صوَّر نفسه على باب الجنة يرفض أن يمتنع عن الحديث عنها حين اُشتُرط عليه قبل دخولها ألَّا يتكلم في السياسة، فقال مخاطبًا الشهداء: «إنني أخجلُ، الآن، لو دخلتُ الجنة متخليًا عن الرسالة التي ذُبحتم أنتم من أجلها»، (الرواية، ص 77). أمَّا إذا افترضنا فكرة المدينة الفاضلة في تصوير الجنة، فقد صوَّرها الزبيري بطريقةٍ شاعريةٍ اعتمدت الحركة والإثارة، لا بطريقةٍ فلسفيَّةٍ ميتافيزيقية. (عبد الحميد إبراهيم، ص 183 - 193).
والرواية بأسرها انفعالٌ من انفعالات النفس التي غلبها الشوق، والحنين، والألم، فما كان من الزبيري إلاَّ أن قام برحلةٍ روحيَّةٍ لا تقتصر على النغم وتنتهي كحال القصيدة، بل طالت وطالتْ حتَّى تجاوزتْ مائتي صفحةٍ، لكنه لم يستطع الخلاص من اللغة الشعرية في سرده، حتَّى ليمكن وصف بعض أجزاء الرواية بالقصائد المنثورة. وهذا العمل الإبداعي إنما هو امتداد آخر لعمله النضالي في تعريف العالم بقضيَّته، فجاءت روايته خطابًا يحمل أفكاره، ورؤاه، واستنتاجاته؛ إلَّا أنَّ طريقة الطرح، والطريقة التي صاغها بها تجعلني أرى هذا الخطاب منبثقًا من عاطفته أكثر من أفكاره؛ إذ أنَّ النبرة الحزينة المطلة في السرد، والأجواء الخيالية، والحضور الكثيف للشعر، كل هذا جعل السرد تجسيدًا للاتجاه الوجداني الذي لم يتجسد في شعره. فاستحضار الموتى، وعقاب الطغاة، الذين لم يستطع إلى هزيمتهم سبيلا، ما هُما إلَّا محاولةٌ منه لخلق توازنٍ لروحه المنهكة، وهذا تأكيدٌ على تجسيد الاتجاه الوجداني. وقد أثبت الزبيري في نهاية الرواية أنَّ تلك الرحلة التي قام بها إنَّما غسلت قلبه - أنَّ كتابة الرواية إنما كانت علاجًا لنفسه المنهكة: «الحقيقة أنَّها مجرَّد رؤيا مروِّعة وممتعة أيضًا، ولقد غسلتُ بها أوصار قلبي، ولكن وطني لا يزال ضائعًا»، (الرواية، ص 318).
يتضح من انشغال الزبيري بقضية وطنه في الاسم الذي تخيَّره لروايته؛ إذ يتكون عنوان الرواية من شقَّين: (مأساة) + (واق الواق)، أمَّا الكلمة الأولى فتخبرنا منذ البداية أن الرواية تحكي قصة تبعث الأسى والألم، وإضافة (واق الواق)، اسم البلاد الغريبة الخرافية التي لا يعرفها البشر ويزعمون أنَّ كلَّ غريبٍ قادمٌ منها؛ هذه البلاد الخارجة من صفحاتِ ألفِ ليلةٍ وليلة عبَّرت عن قضية الزبيري المهموم بقضيَّة وطنه المعزول عن العالم والمرمي في غياهب النسيان، وعبَّرت أيما تعبيرٍ عن الوضع المتفاقم في اليمن.
أخذ شعر الزبيري ونثره بمجامع قلوب قرائه؛ ربما للرقة التي رانت على ألفاظه، ومعانيه، وصوره، وربما لأنَّه أرَّخ لفترةٍ معيَّنةٍ في الوجدان اليمني حتى أخذ شعره يستدعى في المناسبات الوطنية، وأصبح اسمه مرتبطًا بالثورة اليمنية كأنه وحده من احتملها على كتفيه، فهو الرجل العظيم في تاريخ اليمن، الثائر الذي سلاحه الكلمة والإخلاص الوطني. ولعل ما جعله بَدْءًا هو إخلاصه هذا الذي انطلق منه في كلِّ أعماله، وأشعاره، ومقالاته، ورؤى التجديد التي راح يجود بها من أجل مستقبلٍ أفضل لليمن؛ فكان من أولئك القلة الذين لم تتنازعهم الأطماع، ولم يصرعهم التعب. وإخلاصه هذا مقرونًا بشخصيته المرهفة هو ما جعله عرضةً للطعن؛ إذ رأى خصومه، وخصوم الثورة، أنَّ إخلاصه وصل درجة المثالية التي ألغت معها كل وقعٍ لأطماع النفس البشرية، فكان لابُدَّ من شكٍّ حول أغراضه وأطماعه. ورغم هذا، تظل أصواتهم خافتةً، ويظل الزبيري حيًّا في نفوس اليمنيين.