هاجر منصور سراج
12 إبريل، 2025
تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك بخطوات خفيفة طائرة، تهمس حين تريد الكلام، ترمش سريعًا حين تريد الزجر، تستحيل امرأةً رعناء حين تغضب؛ فتصرخ الطفلة داخلها: تعبتُ! تعبتُ! تعبتُ! آآآه!
ثم تنهار مغشيًا عليها. لا يحاول أوَّل الأمر إيقاظها؛ بل يراقب همودها متشفيًا، ثم تتسلل الأفكار إليه رويدًا رويدًا. يرى أفكاره المقموعة تخرج من غرفته البعيدة وتزحف نحوه بأعينها الواسعة المضيئة، مصدرةً صوت دمدمة يعشقه. حين تصل أخيرًا إلى الصالة الضيقة تقفز مخلِّفة لزوجةً مقززة على البلاط، وتحط على جسد زوجته الضئيل. يراقب الجسد الأسود يتمدد ويتسع، تخرج منه أذرع نحيلة من كل جهة وتحيط رأسه. يستطيع أن يتنفس رائحة شبيه برائحة السمك والدم، يتذكر الدم الذي تسكبه زوجته، ثم تنهار: تعبتُ! تعبتُ تعبتُ! آآآه!
لا تشبه أجساد الأفكار الصغيرة الأجساد الضئيلة الزرقاء التي أنجبتها زوجته؛ بل إن الأفكار السوداء تبدو أجمل؛ فهي تثير انتباهه، وشروده، وذكرياته. يطردها حين يحلُّ الليل رأفةً بزوجته التي تستشعرها قبل أن تطرق حيهم. تحرك أنفها الصغير النحيل وتنظر نحو عينيه المترقبتين، ثم تشرع الطفلة داخلها في الصراخ، ولا يدري أجائعة، أم تريد الاستحمام؟! لكنه يدري أنه مهما سخر وتذمر من زوجته الأنيسة الأليفة، لن يستطيع أن يكرهها مطلقًا.
يبدو حبها دائمًا كلعنة سوداء تكبل حياته وتمنعه من التنفس؛ لكنه رغم هذا سعيد، ودائمًا مبتسم؛ إذ يعرف أنَّها الشيء الوحيد الثابت في حياته المتقلبة، ومهما يغيب، يعود إليها هي فقط. يراقبه الجيران والأقارب متعجبين، ويسألونه أن يتزوج امرأة أخرى؛ لكنه يخبرهم دائمًا أنَّه تزوَّج قبلها ثلاثًا، وهي لا تشبه أيًّا منهن؛ بل لا تشبه أيَّ امرأة في العالم. تتحرك بنشاط امرأةٍ من أسلافها، كأنها مقبلة على حراثة حقل واسع، لكن ليس أمامها إلا الشقة الصغيرة التي يدفع إيجارها كل شهر بشق الأنفس. تنظفها وتدعكها دعكًا. وحين يعود ويجد يديها حمراوين، وأنفها أحمر، وعينيها متورمتين؛ يخرج مجددًا ليشتري كريمات مرطبة رخيصة.
يتناول كفيها ويمسح الكريم الأبيض مترفقًا. وإذ يجدها مستمرةً في إطباق جفنيها، يتذكر زوجته الأولى. كان حينها في السابعة عشرة، وكانت في الرابعة عشرة؛ لكن صوتها وكلامها كانا يبدوان أكبر؛ لكنه آنذاك لم يلحظ. استمرَّت بتقليد أمها، وجدتها، وعمَّاتها، وخالاتها، ونساء الأقارب، ونساء الجيران، وكل امرأة ماشية وجالسة؛ فكانت تبدو دومًا مزادةً مليئة بكل ما يخطر على البال.
تعرَّف عليها ليلة زواجه، وأحبها كما أحب أبوه أمه، وجده جدته. كان الحب الذي يجيء للمرأة الوحيدة التي تنظر إلى وجهها وجسدها. لم يكن لزامًا عليه أن يحبها؛ بل كان كل شيء فيه يرضخ لذلك، ولم يشتك ولم يتمرد. في الليل، ينظر إلى وجهها الصغير الشبيه بوجه دمية خزفية، ويبتسم. يتابع بأصابعه الهالات السوداء، والتجاعيد الخفيفة، وآثار الشمس، وخدش صغير جراء عراك مع جارة؛ ويبتسم. وفي الصباح، يراقب الوجه الخامد في النوم، ويبتسم. لم يشعر يومًا أنَّ ثمة شيئًا أجمل مما يراه.
كبر وغادر. وأخبروه بعد أن سافر أنَّها حبلى، فابتهج. ثم أخبروه أنَّها أصيبت بتسمم أثناء الولادة وماتت، فبكى. عاد من سفره بعد ثلاثة أعوام، حاملًا ثيابًا للصبي المنتظر؛ لكنهم - بينا ينتظر مع أمه عودة الصبي المشاغب - حملوا إليه جثته، وأخبروه أنَّه تشاجر مع أترابه ثم وقع.
لم يشتك، ولم يتذمر؛ لكن أمه عرضت عليه أن تزوِّجه أجمل امرأة، فرفض. غادر مجددًا إلى العاصمة، لكن الثورة انتشلته من زخم البحث عن وظيفة إلى عدمية التمرد؛ فثار لا يدري على من، ولا من أجل ماذا؛ لكنه صرخ مع الصارخين، وشتم مع الشاتمين، ومشى وكسر غصنًا كما كسروا. وفي الليل، رقد في الشارع محدِّقًا في الخيام المتناثرة لا يدري أين يذهب. ومن بين الخيام النتنة الصغيرة، تسللت كائناته السوداء أوَّل مرةٍ ضئيلةً شفافةً. زحفتْ وخلَّفتْ لزوجتها السوداء على الشارع رائحةً أشبه برائحة الكلاب الميتة؛ فذعر وهرول هاربًا. هرول، ولم يوقظه من هلعه إلا نباح كلبٍ متوفز، فهلع وركض عائدًا إلى ساحة الخيام.
يستمع للأحاديث من كل صوب، لكنه لا يفقه منها شيئًا. في النهار، يتلقى نظرات امرأة محجبة صامتًا. لا يشعر بشيء. لم تكن المرأة تشبه زوجته الجميلة البيضاء؛ بل كانت سمراء بدينة، وكانت إذا تحرَّكتْ رقصتْ، وكان يسمع كلام الشبان عنها؛ فيخجل ويهرب.
اقتربت أخيرًا وعرَّفته عن نفسها. كانت طبيبةً مطلَّقة، وأدرك، منذ اللحظة الأولى دون معونة كائناته، أنَّها رأته صيدًا سهلًا. قعدت معه مرَّةً تلو أخرى، واحتمت به مراتٍ كثيرة، وسلَّمت له نقودها ليشتري طعامًا؛ فتحرَّك في نفسه الشيء الكثير. وفي الليل، أزمع أن يفكر، فتسللت الكائنات القبيحة نحوه، فهرب. وفي النهار، أخبرها أنَّه سيتزوجها.
أخبر أهله، فرفضوا؛ فذهب وحده وكلَّم أهلها، فرفضوا. صاحت المرأة في وجه أهلها، ثم تزوجته رغمًا عنهم؛ فكان يسير ولعناتهم تثقل كتفيه. الجميع شتمه؛ لأنه تزوج امرأةً من أجل مالها؛ لكنه كان يصم أذنيه، ويطبق جفنيه، ويتركها تقوده إلى حيث تشاء هاربًا من كائناته الزاحفة.
بيتها كان واسعًا لا يشبه شقته الوضيعة في شيء؛ لكنها كانت تتركه طوال النهار وتذهب لعملها. وأحيانًا تغيب في الليل، فيرابط أمام المستشفى بينا ترابط في الطوارئ. أخبرته أنَّها تهرب إلى عملها، إلى القسوة، إلى الدم خوفَ أن تذوب، فتفهَّم، وإن لم يفهم. احتمل طويلًا حتى زحفت إليه الكائنات الليلية القبيحة. هرب منها المرة تلو الأخرى. وآخر الأمر سلَّم نفسه وشكى إليها أحواله، فتمددت حوله ودفنته وقتلته. وفي الصباح استيقظ رجلًا آخر، فتذمر وشتمها، فصفعته. طلَّقته، فبكى وغادر.
ذهب مع عسكر إلى جبهة جنوبية وقاتل معهم. يطلق الرصاص يمينًا وشمالًا، وفي الليل يدخِّن معهم الحشيش ويراقب الجن، يزحفون في الجبال. يحصد الرؤوس في النهار، ويراقب الجن في الليل. وحين مشى قرب دار أرملة شابة، أخبرته أنَّه الوحيد الذي لم يتحرش بها، ولم يطرق بابها ليلًا، ولم يتقوَّل عليها، ثم عرضت عليه الزواج.
حدَّق في وجهها لحظةً مدركًا أنَّ الكائنات القبيحة لن تنجده ليتخذ القرار الصحيح، فوافق. كان لها خمسة أطفال، وكلهم جياع باكون، وأدرك أنَّه أخذ على عاتقه إطعامهم. أمر المرأة أن تلازم الدار، وأعلن في رفاقه أنَّه تزوَّجها، فأومأوا صامتين. يحارب في النهار، ويعمل في الليل، وقبيل الفجر يشتري كل ما يحتاجه البيت ثم يعود منهكًا، فيموت.
ذات ليلةٍ، مدَّ يده بحثًا عن زوجته الصامتة، بحثًا عن دفء امرأة يسكن إليها؛ ففرَّت وبكت مقرفصة. لم يقل شيئًا. أمرها أن تغادر، فنامت مع الأولاد. ومنذ تلك الليلة لم ير وجهها، ولم يسمع لها صوتًا، وكانت إذا تكلَّم، تذوب. تذوب عيناها أوَّلًا، ثم شفتاها، تتهدَّل وجنتاها، ثم كتفاها، ثم تسقط على الأرض كومةً هلامية لا سبيل إلى جمعها وتكويمها. ينظر إليها صامتًا، ثم يحمل بندقيته ويغادر.
في الليل، يحمل الزاد إليهم، ويعود ليدخن الحشيش. عرف رفاقه أنَّها امرأةٌ ملعونة بالفقر، والضياع، والألم، وأنَّ العيش معها نكد؛ فلم يسألوا، ولم يقتربوا. وكانوا إذا اقتربوا، تراءت لهم كائنات مخيفة تحوم حول البيت وتزمجر؛ فيهلعون ويبتعدون.
ذات نهار، داهم الغبار والرصاص كل شيء، فركض مع من ركضوا مخلِّفًا بعض رفاقه قطع لحم نازفة. وقبل أن يركب معهم، عرج عليها. رمى إليها بندقيته، وأخبرها أنَّها طالق؛ ثم رحل. لم يفكر فيها مذ ذاك؛ بل إنّه الآن يتفكر في أنَّه لم يعرف اسمها! وكان إذ يناديها يصدر صوتًا ينم عن النداء، فتهرول إليه إحدى بناتها لتأخذ طلباته. لا يعلم أحيَّةٌ هي أم ميتة الآن!
ارتدى وبقية الرفاق ملابس مدنية وتشتتوا بين السكان خائفين مذعورين. ومن أخفى منهم بنادقهم - غنائمهم، انتهى أمرهم بالاعتقال؛ لكنه ظلَّ يسير آمنًا دون قرش في جيبه، أو فكرة في رأسه. حام في المدينة زمنًا طويلًا. وحين توقَّف أخيرًا رأى جنود الجبهة الأخرى يمشون مختالين متبخترين، أجسادهم نحيلة سمراء، وجوههم ضامرة، أعينهم شيطانية؛ فأدرك أنَّهم لو ظفروا به، لتركوه لكائناته القبيحة.
عزم أن يفرَّ؛ لكنه بينا يراقب، وقع بصره على امرأة تسير قريبًا منهم، ثم اختفت في الحديقة خلفه. نظر إليها من بين القضبان تختفي بين الأشجار، ولم يقل شيئًا. كان متعجبًا، ولم يفكر في شيء. ادعى التشرد وقرفص محدِّقًا فيهم، وحين وقعت رصاصة في رأس جندي مختال عريض المنكبين، أخبرته الكائنات أنَّها تلك المرأة.
وقف، ربما أوقفته الغريزة، أو ربما كائناته. قفز من فوق القضبان وانتزع البندقية من يدها ورماها، ثم حملها على كتفه وركض. ركض بها طويلًا، ولم تصرخ ولم تتحرك. ادَّعى أنَّها زوجته وأنها مريضة، وصدَّقه الجميع. كانت المدينة مزدحمة بالمرضى والمجانين، ولم تكن تلك المرأة آخرهم.
رفعت الممرضة النقاب، فظهر له وجه ذائب احتشدت فيه وجوه زوجاته الثلاث. عيناها مكللتان بالسواد، شفتاها مزمومتان قويَّتان، وجنتاها شاحبتان ذائبتان. أعطوها بعض المحاليل، ثم أخذها وذهب إلى المحكمة. سألها طوال الطريق إن كانت تملك عائلة، أو إن كانت موافقة على الزواج، فكانت إجاباتها محض إيماءات مقتضبة. تزوَّجا، وأخبرت القاضي أنَّ عائلتها كلَّها ماتت تحت الأنقاض، فأشفق وخاطبها مترفقًا.
سافرا في الليل. ادَّعى للعساكر في نقطة التفتيش أنَّهما ذاهبان لحضور عزاء قريب ما، فنظروا إلى أيديهما الفارغة من أي متاع مرتابين؛ لكن المرأة الباكية الذائبة جواره أخرستهم، فتركوهما. أعطت السائق قرطًا ذهبيًا صغيرًا، فوافق. وحين وصلا إلى قريته، كلَّم العائلة فلم يتكلم أحد. نظروا إلى المرأة السابحة مع الأشباح السوداء وصمتوا. أخبرهم أنَّ عائلتها كلها ماتت في الحرب، فأشفقوا، لكن شفقتهم انتهت في اليوم التالي.
يراقبها تذوي كشمعة. تشتعل، فيذوب بياضها وجسدها المصقول. تفكر، فتنساب دموعها على وجهها دون أن يدري لذلك سببًا. وحين ينتهي كل شيء، يكلل المطر الأسود وجهها كله، لكنه لا يتكلم. وحين يرى كائناته السوداء الزاحفة متربعة في حضنها، يحدق فيها ولا ينبس.
حماها من الأهل، فحملها مجددًا، وركض إلى المدينة، وأسكنها الشقة الوضيعة. لم يسألها يومًا لماذا تبكي. كانت تعمل، تطبخ، تكنس، تسكن إليه؛ لكنها تبكي. حين يجتمعا تخبره أن الفراغ الهائل يتلقى رذاذ سعادتها ويلومها. يتلقى كلامها صامتًا، لكنه يضم رأسها إلى صدره، فتبكي. يشعر بدموعها على عنقه تسيل وتختلط بدمائه، فيتنفس أريجًا دافئًا لم يجده من قبل في أيٍّ من زوجاته.
سألها لماذا قتلت الجندي، فانسحبت والتصقت بالجدار، ثم اختفت فيه. لم يلحظها بعد ذلك إلَّا ملتصقة بالجدار تختفي ملامحها وتتجمد. تسير دائمًا كأنها تراعي طفلةً نائمة، وهما لم ينجبا سوى أجساد زرقاء ميتة، رغم أنَّ عشرة أعوام مضت. لم يتكلما عن الأمر، وظن العطب دومًا فيه؛ بل إنِّه حين يسلِّم نفسه للكائنات الجميلة الزاحفة، يقول إنِّه لا يريد شيئًا سواها باسمةً، فتبكي: تعبتُ، تعبتُ، تعبتُ!
نفض التشفي عنه، وحملها إلى الغرفة البعيدة، ومكث ينتظرها حتى تعافت. وحين استيقظت أخيرًا، لم تصرخ بلازمتها المريعة المبكية؛ بل أخبرته أن ذلك الجندي قتل طفلها الوحيد. ثم تركا نفسيهما للكائنات الزاحفة المبهجة.